أنقّب بين رُزم المستندات وقصاصات الصحف المتآكلة، تلك المغبرّة بالدّقيق والسّكّر من أكياس مؤن الأونروا الملقاة بقربها. أنهار منهكةً، أتصبب عرقاً. "وين الأشياء الكويسة؟"، ناديت من القبو للحفيد المقرفص على علبة حليب نيدو مقلوبة، وينفّث دوائر دخانٍ متلاحقة في الفضاء الضيّق. هزّ كتفيه: "جدّو حرقهن لمّا الدبّابات دخلت".
- "شو؟"
– "ستّي قالت إنه هو وكل الحارة أخذوا كل شي فكّروا إنه ممكن الإسرائيليين يوخذوه، وحرقوهن جنب حاويات الزبالة".
بطول الضفّة الغربيّة وعرضها، ومطرح ما ذهبت للبحث عن موادٍ أرشيفيّة، تكرّرت القصّة ذاتها على لسان أبناء وأحفاد الشخصيّات التي اعتمد بحثي عليها. مربّون متوتّرون يستعجلون جمع المنشورات السياسيّة، قوائم النشطاء، المستندات الاستراتيجيّة، الصحف، الكرّاسات، الصور الفوتوغرافيّة، بيانات الأعضاء، أي شيء وكل شيء ظنّوا بأنه سيورّطهم مع جيش الغزو. أحرقوا كل هذه المواد بالنار ودفنوها في حفرٍ وسط الحقول. في الفترة التي تلت حرب حزيران/ يونيو 1967، شهد الأرشيف نكسةً. تأريخ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة صار رماداً. هكذا، وبعد نهب الأرشيف إبان النكبة، لم يبق إلا شاهداً واحداً: الأرشيف الإسرائيليّة.
في العام 2016، عبّر مؤرّخون في مجال الدراسات الإسرائيليّة والشرق أوسطيّة، خارج إسرائيل خاصةً، عن غضبهم، خيبة أملهم واستيائهم من نية الأرشيف الإسرائيليّ فرض تقييد الدخول إلى "الأرشيفات" بحجّة إجراء عمليّة نقلها للأرشفة الرقميّة. من جهةٍ أخرى، أكّد المؤرّخون والمؤرشفون الفلسطينيّون أن هذه "الأرشيفات" لم تكن متاحة لهم في أي حالٍ من الأحوال. في مفارقةٍ مذهلة، وفي الوقت الذي يُقيّد في الدخول إلى الأرشيف الإسرائيليّ، وعلى بعد بضع تلال، يفتتح المتحف الفلسطينيّ مبناه الجديد في ضواحي رام الله من دون معرضٍ افتتاحيّ.
هناك ما غاب عن هذا الجدل الجديد: ما تبقّى من سجلّات حول النكبّة و"النكسة"، حصيلة الاجتياحات المختلفة ــ أي سجلّات بعض الدول العربيّة. من المفهوم أن يتم التركيز غالباً على المواد التي صادرتها إسرائيل من الفلسطينيين، ولكن إسرائيل تحتجز أيضاً مواد تابعة للعراق، الأردن، مصر، سوريا ولبنان (على الأقل). ولا تزال غالبيّة هذه المواد مصنّفة سريّة، ولا نعرف عن وجودها إلا مما نشره المؤرخون الإسرائيليّون الذين يعملون بخدمة إسرائيل، أو البحث العسكريّ، اعتماداً على هذه المواد. من خلال مؤرّخين مثل أمنون كوهين، موشي ماعوز، شاؤول مشعال، وآفي بلاسكوف – كلّهم من خلفيّة عسكريّة – نعرف أنّ إسرائيل تمتلك مواداً أساسيّة تابعة للمخابرات الأردنيّة وذلك عن فترة حكمها في الضفّة الغربيّة بين العامين 1948 و1967، بما في ذلك المواد التي تم جمعها من مخيّمات اللاجئين. أعمال أورييل دان عن العراق، ايتامار رابينوفيتش عن سوريا، يغآل هينكن عن مصر، هي كلها أعمال تستخدم الوثائق التي سلبتها إسرائيل، وتلمّح إلى ما هو موجود وغير موجود في ممتلكات الأرشيف الإسرائيليّ.
إن مكانة هذه المواد من وجهة نظر القانون الدوليّ غير واضحة. بحسب ما يذكره المؤرشف ترودي بيترسون، فإن "كل نظام أرشفة وطنيّ رئيسي كان قد صادر وثائق [تعود ملكيّتها الحقّة إلى شعوب أخرى]، في فترةٍ ما، أو أنه سيفعل ذلك". تعطي قوانين الحرب دولاً مثل إسرائيل الحق بمصادرة الوثائق العسكريّة للعدو، والتي يمكنها أن تساهم في المجهود الحربيّ، وكذلك أن تصادر "الأرشيفات" المحليّة التي قد تحتاجها في إدارة المناطق المحتلّة. ولكن لا بد أن يختلط، وسط كل هذا، ما لا يمكن إحصاءه من الوثائق الشخصيّة – لنفكر مثلاً برسائل من عائلات وأعزاء وُجدوا في جثامين الجنود الشهداء – التي لا بد من اعتبارها أملاك خاصّة محصّنة من المصادرة. إن الحكومات العربيّة – خاصةً تلك التي وقّعت اتفاقيّات سلام مع إسرائيل – عليها أن تطالب باستعادة هذه الوثائق.
أحرق الفلسطينيون كل شيء ظنّوا أنه سيورّطهم مع جيش الغزو ودفنوه في حفرٍ وسط الحقول. في الفترة التي تلت حرب حزيران/يونيو 1967، شهد الأرشيف نكسةً. تأريخ الحياة السياسيّة والاجتماعيّة صار رماداً. هكذا، وبعد نهب الأرشيف إبان النكبة، لم يبق إلا شاهداً واحداً: الأرشيف الإسرائيليّ.
يميل المؤرّخون للتفكير بحماية الوثائق وإتاحتها للباحثين باعتبارها، وبشكلٍ مطلق، أملاكاً عامة. ولكن الحوار حول إتاحة "الأرشيفات" الإسرائيليّة يستثني في الغالب ملايين الفلسطينيين في المنفى والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل من "الجمهور" الذي يجري تقييد "حقه في المعرفة"، رغم أن هؤلاء يستطيعون، وبحق، اعتبار أجزاء من الأرشيف جزءاً من موروثهم الوطنيّ.
يدّعي البعض، ومن بينهم مؤرشفين ومؤرّخين إسرائيليين، أن إتاحة الأرشفة وتحويلها رقميّة من شأنه أن يضعف المطالبة باستعادة وثائق الأرشيف ويُبطل الحاجة إليها. وهنا نجد المفارقة الحادّة بين الاستخفاف الإسرائيلي بأهميّة الوجود الماديّ لهذه الوثائق، والإصرار الإسرائيلي على الاحتفاظ والتمسّك بها في الوقت ذاته.
"نكبة فايلز": النكبة والقانون وما بينهما
30-03-2017
إن إتاحة إمكانيّة الاطلاع على الأرشيف ليست المصلحة العليا بالمطلق: بغض النظر إن كانت الدول العربيّة تسمح أو لا تسمح لمواطنيها بالاطلاع على هذه "الأرشيفات"، أو على المواد الموجودة في أرشيفها عموماً لضرورة النقاش، فهذه ليست المسألة الأساسيّة. المسألة الأساسيّة ترتبط في أن الأرشيف الوطنيّ، إذ يُعبّر عن حقّ الدولة بصياغة روايتها، لا يمكنه أن يكون حقاً حصرياً للإسرائيليين.
عودةً إلى القبو: إن الحديث عن الأرشيف الفلسطينيّ يعكس غالباً ازدواجيّة الحياة والسياسة الفلسطينيّتين بين التثمين والمأساويّة. تشتّتَ الأرشيف الفلسطينيّ وهُدر، ولكن ما بقي منه لا زال يمثّل الحق، ولا زال ترميمه ممكناً. فقد صحّ ما توقّعه الفلسطينيّون الذين تخلّصوا من المستندات في العام 1967 –وتركوا القليل المُحبط منها للمؤرّخين أمثالي لنقرأ وظهر أن مقاومة الاستعمار تتطلّب أحياناً خطوات اخفاء. ونهايةً، فإن عودة الأرشيف إلى أصحابه، وليس إتاحته للباحثين، هي الحق المطلوب.