أبرزت الشهور الأخيرة وجود تصدعات عدة داخل الدولة المصرية، علاوة على العواصف السياسية والأزمات الاجتماعية... وهي حتى هذه اللحظة قادت إلى ترسيخ أركان حكم السيسي! التطورات كانت كثيفة وسريعة، ارتفعت فيها الرهانات السياسية إلى عنان السماء لترتطم بأرض الواقع وخوائه. انتهت الشهور الثلاثة السابقة بإقالة وزير المخابرات العامة خالد فوزي، ثم بإعتقال رئيس الاركان الأسبق سامي عنان، وانسحاب المرشح الرئاسي خالد علي واعتقال المرشح السابق للرئاسة عبد المنعم أبو الفتوح، وكان سبق ذلك كله التحفظ على الفريق شفيق فور عودته من الامارات بغاية الترشح للرئاسة.. وعلى ذلك فالجيش يخوض حرب موسعة داخل سيناء وعلى تخوم الصحراء الغربية، حيث يحتشد 35 ألف جندي. لقد وضعتنا الأحداث أمام مشهد شديد الارتباك.
لا يوجد مسرحيات ولا كومبارس
أثبت تتابع الأحداث منذ فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية غياب أي تصورات لدى السلطة لإخراج المشهد الانتخابي بشكل مُحْكم، وهي أظهرت تخبطاً كبيراً في إدارة الصراع السياسي ككل. ولكن الأهم هو سقوط أوهام بعض القوى السياسية (والأفراد) بأن هناك تمثيلية كبرى لإخراج المشهد الانتخابي، وأن المرشح اليساري والمدني مثلاً، الحقوقي خالد علي، ليس إلا كومبارس في مسرحية من بطولة السيسي.. أو أن محمد السادات، ابن شقيق الرئيس الأسبق، والبرلماني السابق المشاكس، الذي أعلن سريعا في منتصف كانون الثاني /يناير انسحابه، هو مرشح كومبارس دفعت به السلطة كبديل لخالد علي الذي قد يسبب نجاحه في دخول السباق الانتخابي توتراً لها (في حالة جمعه التوكيلات الشعبية اللازمة، وهي25 ألف توكيل، بحد أدنى هو ألف توكيل من 15 محافظة).
كما سقطت أوهام إنتظار مخلِّص آخر من قلب الجيش لإزاحة السيسي عن الحكم. فقد فوجيء الجميع بنية الفريق سامي عنان، رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الأسبق، خوض الانتخابات الرئاسية. أدلى الفريق عنان عند اعلان ترشحه بخطاب عنيف في مواجهة السيسي، ودعا الجيش والأجهزة الأمنية الى إلتزام الحياد والنزاهة، كما إنتقد غزو الجيش للقطاعات المدنية في الدولة، معتبراً أن السيسي ورّط الجيش سياسياً واقتصادياً. وأعلن عنان عن فريق من مستشاريه المدنيين مكون من د. حازم حسني أستاذ العلوم السياسية الذي أشتهر بإنخراطه السياسي الكثيف في الحياة العامة، والمستشار هشام جنينة الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات وأحد القضاة البارزين في مصر والذي يحظى بالاحترام. لقي ترشح الفريق عنان قدراً كبيراً من الزخم، ورأت الكثير من القوى المدنية فيه فرصة كبيرة لإزاحة السيسي، وشاركتها في ذلك بعض أجنحة الإخوان المسلمين والمقربين منهم. وحتى حملة خالد علي، وعلى الرغم من معارضتها لعنان على المستوى السياسي، فقد رأت في ترشحه فرصة جيدة لجعل الصراع الانتخابي أكثر فعالية وجدية، مثلما صرح المتحدث الرسمي بإسمها.
انتظار مخلِّص آخر من الجيش: ترشح الفريق عنان لقي قدراً كبيراً من الزخم، ورأت الكثير من القوى المدنية في ترشحه فرصة كبيرة لإزاحة السيسي، وشاركتها في ذلك بعض أجنحة الإخوان المسلمين والمقربين منهم، وحتى حملة خالد علي رأت في ترشحه فرصة لجعل الصراع الانتخابي أكثر فعالية وجدية..
بالمقابل، واجه السيسي ترشح عنان بقدر كبير من التشنج والعنف. ففي لقائه العام والجماهيري غداة خطاب عنان، أكد السيسي بلغة شديدة الحدة أنه "لن يسمح للفاسدين بالاقتراب من هذا الكرسي" (قاصداً كرسي الحكم)، في إشارة واضحة للفريق عنان. وكما هو معروف داخل الأروقة السياسية المقربة من مؤسسة الجيش والرئاسة، فالخلاف بين الرجلين شخصي وقديم وعنيف. ومعروف كذلك أن المشير محمد طنطاوي، وزير الدفاع الأسبق الذي قاد المرحلة الانتقالية من 2011 حتى بداية حكم محمد مرسي (أي فترة حكم الاخوان المسلمين، وقد استمرت لعام، بين منتصف 2012 و2013) قد تدخل بنفسه في 2014 لمنع الفريق عنان من الترشح أمام السيسي، وقد نجح في ثنيه عن عزمه خوض الانتخابات في ذلك الوقت، ولكنه فشل في ذلك الآن.
وعلى عكس بقية المرشحين، كان على الفريق عنان أن يتقدم بطلب موافقة للترشح من المجلس العسكري إضافة إلى جمع 25 ألف توكيل من أكثر من 15 محافظة، أو عشرين تفويض من نواب مجلس الشعب. فطبقاً لقرار تمّ اتخاذه في مطلع 2011 ، قرر المجلس العسكري آنذاك، بقيادة المشير محمد طنطاوي والفريق سامي عنان نفسه وكان رئيس أركان القوات المسلحة في ذلك الوقت، بأن جميع قيادات المجلس العسكري في هذه الفترة هم ضباط قيد الاستدعاء حتى بعد بلغوهم سن التقاعد، وهو قرار استثنائي في تاريخ المؤسسة العسكرية، هدفه تحصين أفراد المجلس في ذلك الوقت. وبالفعل بعد إعلان ترشحه، تقدم الفريق سامي عنان بطلب للمجلس العسكري لقبول هذا الترشح لانتخابات الرئاسة مثلما فعل السيسي. ولكن هذا الاخير لم يعلن نيته للترشح الا بعد موافقة المجلس العسكري، بينما عنان قام بعكس ذلك. وفوجئ الجميع بقرار من الهيئة العامة للقوات المسلحة في بيان رسمي شديد اللهجة يرفض طلب الفريق عنان ويتهمه بمخالفة القواعد العسكرية والتحريض على مؤسسة الجيش. وتمّ إلقاء القبض عليه بعد يوم واحد من بيان الهيئة العامة للقوات المسلحة. وطبقاً لبعض الصحافيين، فقد تم الاعتداء عليه بدنياً أيضاً، ولا يعلم أحد حتى الآن مكان إحتجازه. كما داهمت قوات الأمن منزله وقامت بالتحفظ على أوراق تخصه.
اقرأ أيضاً: كيف ثبّت السيسي أركان حكمه بوجه حلفائه وأعدائه؟
هنا يجب ملاحظة أمرين: أولاً التعامل العنيف مع عنان واعتقاله. ثانياً أن البيان العسكري قد صدر من الهيئة العامة للقوات المسلحة، وليس من المجلس العسكري المكون من رئيس الأركان ووزير الدفاع ورؤساء الأفرع والأسلحة. ويمكن تأويل الأمر وفق ثلاثة احتمالات: الأول هو عدم رغبة المجلس العسكري في التورط بنفسه في الصراع السياسي المباشر. والثاني هو أن السيسي استبق الجميع بقراره عبر الهئية العامة للقوات المسلحة، والتهديد "بالميري" وقواعده لأي فرد يخالف القواعد العسكرية أو يعلن نيته في التصادم مع السيسي. وهو ما حدث مع أحمد قنصوة، العقيد في الجيش الذي أعلن نيته الترشح للانتخابات الرئاسية وهو في أثناء الخدمة بالجيش، عبر فيديو مسجل قام ببثه وتناولته الصحف والمواقع الاخبارية المختلفة. وقد إنتهى به المطاف إلى محاكمة عسكرية عاجلة وحكم عليه بست سنوات حبس في السجن الحربي.. وهو ما يشير إلى قوة السيسي وقدرته على قمع أي تصدعات أو إنشقاقات داخل الجيش بشكل سريع. أما الاحتمال الثالث فهو قانوني محض، حيث أن عنان، بحكم إحالته على المعاش، يخضع لتراتبية قانونية محددة بالإضافة لوضعه الاسثتنائي كعضو سابق بالمجلس العسكري تحت الاستدعاء، ما يجعل أمره كله متعلق بإدارة الجيش وتحت إمرة القيادة العامة وليس المجلس العسكري أو السيسي.
لم يبدُ حتى الآن أن لعنان قوة داخل الجيش تستطيع حمايته أو أنه كان واثقاً من وقوف بعض قيادات المجلس العسكري معه. ولكن هذا لا يعني غياب صراعات الأجنحة داخل الأجهزة السيادية ومؤسسة الجيش. لا شك أن السيسي ما زال قادراً على قمع كل إنشقاق أو تواصل بين القوى السياسية والأجنحة المعادية له داخل الدولة مثلما حدث مع المستشار هشام جنينة حيث اعتدي عليه بالضرب ثم حبس.
ما هي خصائص السلطة الجديدة؟
تلك الاحداث كلها معطيات مهمة لفهم طبيعية هذه السلطة الجديدة: إنها تجسيد للقوة العارية، لا تحتاج لكومبرس ولا إلى أي عمليات تجميل. فقط القوة والهيمنة المطلقة وسحق أي شكل من أشكال المعارضة، ولو الشكلية. يختلف هذا النظام بالكلية عما إعتدنا عليه طيلة حكم مبارك. فهو تَشكَّل في لحظة تاريخية حرجة، تموضَع السيسي فيها كمخلص وليس كقائد سياسي. كما أن نظامه تشكل عبر تفويضين، الأول كان شعبياً بناء على طلبه هو شخصياً للناس لإعطائه زمام الأمر بالكامل لمواجهة الارهاب، وكانت لحظة "فاشية" بإمتياز قادت إلى صعود نجم الجنرال، وسط حالة من الهلع العام والرغبة الشديدة على مستوى الدولة والمجتمع في قمع الإخوان والإسلاميين. والثاني تفويض من الجيش للترشح للرئاسة. والرجل ترشح ليس فقط بالزي العسكري ولكن بزي العمليات، أي أنه قادم إلى الرئاسة في مهمة عسكرية وليس كمنصب سياسي سيتقلده رجل من خلفية عسكرية، كما كان الحال منذ 1952.
تشكَّل هذا النظام في لحظة تاريخية حرجة تموضع فيها السيسي كمخلص، عبر تفويضين: الأول كان شعبياً لإعطائه زمام الأمر بالكامل لمواجهة الارهاب، وسط حالة من الهلع العام والرغبة الشديدة على مستوى الدولة والمجتمع بقمع الإخوان والإسلاميين. والثاني بتفويض من الجيش، فترشح ليس بالزي العسكري فحسب ولكن بزي العمليات، أي أنه قادم للرئاسة بمهمة عسكرية وليس كمنصب سياسي..
كلا التفويضين لا علاقة لهما بالسياسة وقنواتها، حتى لمّا تقارَب على فرضية السلطوية. ولذلك فكل ما يتعلق بإدارة العملية السياسية ليس أمراً محورياً في حكم السيسي ومنطقه. وحتى هذه اللحظة، فالرجل لم يقم ببناء نظام سياسي واضح المعالم، ولكنه يقود الحكم عبر جهاز الدولة بشكل مباشر. هو يدير عملية حرب واسعة داخل الاجتماع المصري. وقد أعرب عن هذا بوضوح مؤخراً هو يعلق على تطور الأحداث السياسية، حيث قال بطريقة غريبة الأداء: "هم فاكريني سياسي، أنا مش بتاع سياسة هأو". كما أن الوضع الاقليمي والدولي لا يشكلان أي ضغط عليه لضبط أدائه السياسي ونطاق العنف والقمع الذي تقوم به الدولة.
وعلاوة على ذلك، فوضع مؤسسات الدولة في هذه اللحظة التاريخية يسمح له بالإستمرار بقوة وبقمع أي محاولة للانشقاقات الداخلية. فالامتيازات التي حصل عليها الجيش في عهد السيسي تجعل المؤسسة متمسكة به. وبالنسبة ل"الداخلية"، فقد استعادت جزء كبير من سطوتها على عموم الجمهور، وردت اعتبارها بعد هزيمة ساحقة في "28 يناير" 2011، التي ما زال هاجسها ومرارتها في مخيلتها، وهو ما يدفعها الى التمسك بغلق أي فرصة لعودة الجماهير كفاعل مركزي في المعادلة ضد الدولة. أضف إلى ذلك تورط جميع المؤسسات في مستويات كبيرة من القمع والتنكيل، ما يجعلها تخشى أي خلخلة للأوضاع قد تقود الى محاسبتها الجنائية والسياسية. ويدير جهاز المخابرات العسكرية دفة الأمور ومعه الجهاز الأمني التابع للرئاسة، وكلاهما شديدي الولاء للسيسي.
قلوبنا مع علي وسيوفنا مع معاوية
على الرغم من أن خالد علي، المحامي الحقوقي الشهير بمصر والذي خاض معركة مَصرية جزيرتي تيران وصنافير، والمرشح السابق في انتخابات الرئاسة عام 2012، قد بادر مبكراً بإعلان عزمه خوض الانتخابات، إلا أنه ظل لمدة طويلة غير قادر على بلورة حملته الرئاسية.
يمكن إجمال العوامل التي أثرت عليه وعلى المجموعة المقربة منه في ثلاثة أمور: الأول تعرض حزبه السياسي، "العيش والحرية" (الذي ما زال تحت التأسيس) إلى ضربات أمنية موجعة، بالأخص في مكاتب المحافظات، ما أجهز عليها في العديد من الاقاليم المصرية. ثانياً إنشغال خالد علي الشديد بقضية تيران وصنافير. ثالثاً، إرتباك المجال السياسي في مصر بين الدعوات لمقاطعة الانتخابات ورؤية عدم الجدوى من خوضها، أو موقف بعض القوى السياسية والمدنية الذي ظل متعلقاً بأمل أن يخوض الفريق أحمد شفيق أو الفريق سامي عنان الصراع الانتخابي.. إذ كان هؤلاء يرون أن الأجدر هو دعم مرشح من داخل جهاز الدولة والمؤسسة العسكرية لأنه سيكون أقدر على قيادة المرحلة والسيطرة على الوضع، وأنه في الوقت نفسه يمكنه فتح المجال السياسي مع التمكن من فرض الأمن والإستقرار.
لم يعد من الممكن الابقاء على الانقسامات الحادة داخل أجهزة الدولة وصراعات الأجنحة طي الكتمان داخل القصر. وقبل ترشح الفريق عنان بأيام، قام السيسي بإقالة خالد فوزي مدير جهاز المخابرات العامة، وهي إقالة مرتبطة على الارجح بالتسريبات التي أشارت لميل المخابرات العامة للفريق شفيق ومن بعده لعنان، وعدم رضاها على طريقة إدارة البلاد.
ولكن المثير للتأمل هنا هو الارتباك المتبادل بين حملة خالد علي والقوى الشبابية المحسوبة على "25 يناير"، سواء كانوا أفراداً أو مجموعات. وكان التجلي الأكبر لهذا الارتباك داخل محافظة الإسكندرية التي كان أداءها هو الأسوء مقارنة بفعالية بعض القوى الشبابية فيها والدور الذي لعبته المحافظة في المعارك المختلفة في السنوات الماضية. ولهذا الأمر عدة أسباب يمكن تعميمها على الحالة بشكل عام. فأولاً الحملة إعتمدت بشكل مكثف على قوى "حزب العيش والحرية" نفسه، وهو حزب ليست له قواعد متينة في أغلب المحافظات. ثانياً، الإعتماد على قوى 25 يناير والتمحور حولها، وهى قوى غير متجانسة، كما ولّت اللحظة التي شهدت ذروة التشبيك بين تلك القوى والافراد (وهم من طبيعة مختلفة ومتباينة)، وأصبح بالتالي من غير المنطقي الحديث عن "قوى يناير"، بينما المتبقي منها هو في حالة ضعف وتيه. وقد حاولت الحملة الاعتماد على بعض القوى السياسية المنظمة مثل حزبي "الدستور" و"مصر القوية"، ولكن تحقيق التحالف معها إستغرق الكثير من الوقت وظل جزئياً، فصار بلا فائدة حقيقية على المستوى الميداني.
كان خطاب خالد علي موجه إلى "شبح" اسمه "يناير" وقواه وأبنائه. خطاب داخلي، مرسل ممن يظنون أنهم أبناء هذا الشبح إلى أبناء الشبح نفسه. ربما صار "يناير" مصطلح لغوي يشير إلى دلالات ومعاني لم تعد موجودة، فتحول إلى دال بلا مدلول أو إنفصل كلاهما عن الآخر. لكنه خطاب ما زال قادراً على خلق أعدائه وإستنفار قواهم ضد مَنْ ما زال يُلوَّح به كسلاح. وبعيداً عن الأصدقاء والأعداء، هناك احتياج لخطاب سياسي ولغة قادرين على توليد صراع محتدم في مواجهة السلطة. خطاب يسعى لدمج قطاعات جديدة في المعركة وتعيين أعداء واضحين، سواء على مستوى الدولة أو داخل الإجتماع نفسه. أما هذا الخطاب الجواني فهو لتطيب خاطر الذات في المقام الأول واللطف بها. وهو ما كان يتحقق داخل مقر الحملة وعند بعض الشباب والكوادر السياسية التي دخلت منتصف عمرها، فكان المقر يهتز باحتدام العواطف مع خطاب خالد علي عن "أبناء يناير" وأنهم ليسوا يتامى..
اقرأ أيضاً: تصورات النخبة الأمنية وخطابها حول حكم مصر
ولكن هل يعني هذا أن حملة خالد علي بالكلية كانت بلا موضوع وبلا قدرات؟ على العكس. فهذه الحملة، على الرغم من كل العجز الكامن بها والصدمات التي تلقتها من الخارج، وفشلها في البدء مبكراً بقدر من التنظيم القوي والمتماسك وبخطاب أكثر فاعلية، قامت بلعب دور سياسي قوي وذكي، يُبعد الخطابات العنترية ويأخذ مسألة السلطة بجدية وكذلك الصراع حولها، كفاعل يطرح نفسه تدريجياً كبديلٍ وليس كمجرد قوى سياسية أو ثورية تحاول التعبير عن إمتعاضها من الأوضاع العامة. إلا أن غلبة النزعة الحقوقية، وهي متركزة تحديداً في خالد علي نفسه، وعدم تلاقي القوى السياسية الأخرى التي تسعى لبناء ديمقراطية جذرية تكفل إعادة صياغة الحياة السياسية والاجتماعية في مصر ما يسمح بالدخول في معركة واسعة مع السلطة.. جميع هذه العناصر قادت الحملة إلى بداية معركة أو الوقوف على اعتاب معركة دون خوضها بشكل كامل. كما أفسد عامل انتظار مرشح عسكري قوي قادر على إزاحة السيسي الفرصة لبناء تكتل ديمقراطي يمكنه الثقة بنفسه كبديل محتمل أو كطرف فاعل في الصراع على السلطة وضدها.
مقاطعة الانتخابات
بعد اعتقال الفريق سامي عنان وانسحاب خالد علي، أعلنت "الحركة المدنية الديمقراطية" مقاطعتها إنتخابات الرئاسة المقبلة في مصر، داعية المواطنين إلى عدم المشاركة في عملية الاقتراع . ويضم تحالف "الحركة المدنية الديمقراطية" 150 شخصية عامة، أبرزها المرشح الرئاسي السابق وزعيم "التيار الشعبي" حمدين صباحي، وخالد علي، ومحمد السادات، وهشام جنينة، وجورج إسحاق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان. كما تضم عدداً من القوى السياسية بينها "حزب الدستور"، و"الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي"، و"حزب الإصلاح والتنمية"، و"التحالف الشعبي الاشتراكي"، و"تيار الكرامة"، و"مصر الحرية"، و"حزب العدل". ولكن خالد علي لم يحضر هذا المؤتمر اعتراضاً على إقصاء كل من حزب "مصر القوية" (وهو برئاسة عبد المنعم ابو الفتوح الذي كان آخر من اعتقل في حملة السلطة الجارية) و"الاشتراكيين الثوريين" و"6 ابريل". وقد انفجر صراع كبير على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب هذا الأمر، حيث قطاع من الشباب يهاجم أو يدافع عن هذه الكيانات الثلاثة، بين من يرى انها أهم من قوى "الحركة المدنية" التي كانت صاحبة مواقف مخزية في علاقتها بالسيسي والجيش، أو من يرى فيها قوى غير ديمقراطية أو غير فعالة وليست ذات أهمية. وهو ما عمّق الأزمة داخل المعارضة المصرية بشكل عام وقادها إلى اشبتاكات داخلية بعيداً عن سؤال الانتخابات الحالية.
هناك حاجة لخطاب سياسي ولغة قادرين على توليد صراع فعلي بمواجهة السلطة. خطاب يسعى لدمج قطاعات جديدة في المعركة وتعيين أعداء واضحين، سواء على مستوى الدولة أو داخل الإجتماع نفسه. أما خطاب خالد علي فكان جَوّانياً يؤدي الى تطيب خاطر الذات في المقام الأول واللطف بها.
وعلى الرغم من ذلك الانقسام الذي يفسر عدم قدرة التيارات المعارضة على بلورة تكتل كبير وقوي في مواجهة السلطة الحاكمة، والذي يعمق أزمة تشكيل بدائل سياسية وتعزيز القدرة على المناورة مع النظام الحاكم.. يجمع الفريقان على معارضة الانتخابات القادمة في مصر، وهو ما يضعف موقف السيسي على المستوى الداخلي والدولي. وبالفعل، فموقف المعارضة المصرية والانقسامات داخل الأجهزة ودعم بعض ضباط الجيش للفريق سامي عنان، دفع السيسي إلى توجيه خطاب حاد هدد فيه انه "لا مجال لحدوث ما وقع منذ ثمانية أعوام" (يقصد الثورة) مرة أخرى. وكانت صيغة التهديد مبهمة وغير موجهة بدقة لفريق بعينه، وهو ما دفع قطاع كبير من المهتمين بالشأن العام وعموم الناس للتساؤل عن لمن يوجه السيسي تهديداته؟ وفي الواقع فإن السيسي يوجه هذا التهديد لأكثر من جهة على الأرجح: المعارضة أولاً، وبعض القطاعات المناوئة له داخل جهاز الدولة وبالأخص في كل من الجيش والمخابرات العامة. وفي المقابل، هناك تقدير آخر أن السيسي كان يقصد حصراً المعارضة، فهو فوجئ، إذ لم يكن قد توقع أي مناورة ضده من القوى المدنية.
صراع الأجنحة وتصدعات الدولة
يبدو أن هناك إجماع حتى الآن من قبل مؤسسة الجيش، بأنها لن تسمح بقيام إثنين من أبناء القوات المسلحة بمنافسة بعضهما البعض في السباق الانتخابي. ويرجع هذا الموقف إلى عدة عوامل أهمها الحفاظ على وحدة وتجانس الجيش الذي لا يريد أن يقال أن هناك انقسام بداخله حول من يحكم البلاد. ثانياً، دخول أكثر من مرشح انتخابي من المؤسسة العسكرية بأجندات سياسية مختلفة سيربك المؤسسة بأكمالها وسيخلق حالة من التخبط بداخلها في شكل الإدارة المطلوبة للبلاد والتوجهات السياسية على المستوى الداخلي والخارجي. ولذلك كان مستبعداً ترشح الفريق سامي عنان. وحين حدث بالفعل، نجح السيسي عبر قيادته للمؤسسة العسكرية في قمعه سريعاً.
إلا أنه هناك انقسام حاد داخل أجهزة الدولة وهناك صراعات أجنحة لم يعد من الممكن الابقاء عليها داخل القصر، بل هي خرجت مباشرة إلى الشارع السياسي. وقبل ترشح الفريق عنان بأيام، قام السيسي بإقالة مدير جهاز المخابرات العامة خالد فوزي. وتضاربت التحليلات في هذا الأمر وأحالها البعض لملف القضية الفلسطينية وسوء إدارة الموارد. ولكن المرجح هو ربط إقالة اللواء فوزي بملف الانتخابات، وذلك لعدة أسباب: أولاً أن فوزي حقق نجاحاً كبيراً في ملفات المصالحة الفلسطينية وحركة "حماس" وضبط الحدود مع غزة ومحاصرة تدفق الجهاديين على سيناء. ثانياً، عداء السيسي مع المخابرات العامة بدأ منذ اللحظة الأولى لتوليه مقاليد الحكم وربما من قبل ذلك، والمؤكد طبقاً للجريدة الرسمية أن السيسي أقال أكثر من 80 وكيل للمخابرات العامة منذ توليه مقاليد الأمور بعد 2013. كما أن الصراع بين جهازي المخابرات، العامة والعسكرية، كان على أشده في الاستحواذ على الملفات المختلفة منذ إندلاع الثورة في 2011، وإنتهى بتفوق الحربية على العامة. ثالثاً يجب ربط إقالة خالد فوزي بالتسريبات الأخيرة قبيل فتح الترشح والتي أشارت بوضوح لميل المخابرات العامة للفريق شفيق ومن بعده لعنان، وعدم رضاها على طريقة إدارة البلاد. رابعاً، المشهد الانتخابي وتذبذب الدولة في التعامل معه طبقاً لسيناريو محكم ووجود أكثر من محاولة للترشح من داخل المؤسسة العسكرية أو من أعضاء سابقين فيها، ما يشير إلى عدم رضا كبير على السيسي، حتى وإن ظل قادراً على إحكام سيطرته. خامساً، حسم الخلافات داخل المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية بهذا الشكل العنيف والقاطع سيزيد حتماً من تعمق الأزمة، ولو بعد حين.