تسمح التجارب التنموية التونسية بفهم النسق التاريخي لتشكّل الحركة السلفية بالمجتمع التونسي. والغاية هي وضع تصور عام ينزّل نشوء الحركات السلفية عموماً وانخراط الشباب التونسي بها ضمن سياقات تاريخية واجتماعية مخصوصة، انطلاقا من الأثر الذي خلفته التجارب التنموية في تونس. وهذه لم تكن نابعة من حراك داخلي يتمثّل الحداثة فلسفة ومعيشاً، بل من ضغوطات خارجية واستنساخ مشوّه للتجارب الغربية. قطعت التجارب التنموية في تونس كلّيا مع كافة أشكال التقليدية، ما أدى إلى بروز فئات مهمّشة وفاقدة لمقوّمات التنشئة الدينية بعد أن تآكلت أطر التنشئة الاجتماعية، شأن المسجد والعائلة. وفي الوقت ذاته تفاقمت التوترات الاجتماعية تدريجياً تزامنا مع فشل نماذج التنمية التي لم تتلاءم واحتياجات المجتمع، مما أدى إلى اتساع دائرة المهمشين والمفقّرين، فتهاوت تلك الشعارات الفضفاضة مثل "الدولة - الأمّة "أو "الهويّة الوطنية".
من الدولنة إلى الخصخصة
ليس من باب الإسقاط أو التجني أن نأتي على السيرورة التنموية كعامل موضوعي من عوامل تنامي الحركات السلفية في المجتمع التونسي .هذه التجارب التنموية تبدو للناظر غير المتعمق فيها غير مسؤولة عن ذلك. وبالرجوع إلى بدايات تجربة التحديث (1) التي شهدتها تونس بعد الاستقلال، نجدها تميّزت بخاصيتين هامتين، أوّلهما التحديث القصري وتهميش كلّ الأطر التقليدية (تراث، دين..)، وهو ما تجلّى في "إلغاء التعليم بجامع الزيتونة وتحويل مؤسسات الإسلام الطرقي إلى مدارس ومراكز حزبية" (2)، في إطار ما يسمّى بمواكبة الحداثة واللّحاق بالمجتمعات المتقدمة والاحتذاء بها. يتجلى قصور هذا الرأي في أنّ دعوة دولة الاستقلال إلى تبني الحداثة تتضمن تصوراً ضمنياً بأنّ الحداثة حالة استقرار وثبات يمكن تحقيقها تدريجياً، بينما الحداثة الغربية هي بالأساس سيرورة من التحوّلات العميقة التي طالت كافّة المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، إذ هي حركة دؤوبة يستحيل فرضها أو تطبيقها على مجتمع له بناه وطرائق تفكيره المختلفة عن هذا السياق. وهذا الرأي ينفي الحركية عن العالم الغربي رغم تحوله المطرد. وكمثال في المحاجة، فإذا كنا قضينا ردحاً من الزمن نتساءل عن طرائق بلوغ الحداثة على النمط الغربي.. حتّى بلغ الغرب مرحلة "ما بعد الحداثة"، فإنّنا اليوم أمام المعضلة التالية :هل نحقق الحداثة أم نقفز مباشرة إلى مرحلة ما بعد الحداثة ؟
بانخراط تونس في الاقتصاد المعولم تعمقت "اللا مأسسة"، فكل ما كان يعهد به للدولة ومؤسساتها صار من مشمولات الفرد ليتدبر أموره بنفسه، من شغل وصحة.. فتهمشت فئات عريضة جديدة وأوغلت الدولة في سياساتها الأمنوية لتؤجل الصراعات..
أمّا الخاصّية الثانية لبدايات المسار التحديثي في تونس فتتمثل في أنّ الدولة فرضت فيه نفسها "بوصفها الفاعل الرئيسي المحرك للتحديث الاجتماعي ضمن نموذج تحديثي مدولن تضطلع فيه الدولة بدور إله المجتمع ،الذي يسلم الأفراد أمرهم له فيما يتعلق بتوفير الشغل والصّحة والرّفاه الاجتماعي وكل مايتعلق ببحبوحة العيش وراحة البال" (3)، في إطار التوجه الاشتراكي للدولة، وفي إطار"أيديولوجية القائد الفرد". وتزامن ذلك مع اتباع سياسات أمنوية لكبح كلّ قدرة على الحراك والاحتجاج. لكن التجربة الأولى آلت إلى الفشل لأنّ التحديث لم يكن مسبوقاً بتجربة صناعية ونابعاً من داخل المجتمع وحراكه بل مسقطاً، مماّ أدى إلى تنامي البطالة والفقر وعجز الدولة والتعاضديات عن تلبية حاجيات الشغيلة، "كما تزايدت ديون الدولة الخارجية وارتفعت فوائدها إلى أن وصل الأمر إلى العجز عن دفع أعبائها، وما ترتب عن ذلك من المطالبة بجدولة الدفوعات، واهتزاز ثقة الأسواق النقدية، ووقف القروض والاضطراب المتزايد للأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية" (4)، وهو ما أفرز حالة من التوتر الاجتماعي. غير أنّ الحركات الاجتماعية في ذلك الوقت لم تكن ترقى إلى مستوى الحركات الفاعلة والقادرة على التغيير.
اقرأ أيضاً: السلفيون الجهاديّون في تونس.. سر انتشارهم الواسع في الأوساط الشعبيّة
عموما لم تزدد الأوضاع في أواخر تجربة التعاضد إلا تأزماً واحتقاناً ممّا اضطرّ الدولة إلى اتباع التجربة الليبرالية (بين 1970 و1986) والقبول بسياسات صندوق النقد الدولي الذي قدّم وصفة جاهزة لتونس تمثلت في "خفض العجز بالموازنة العامة للدولة بخفض الإنفاق في المجالات الاجتماعية مثل التعليم والصحة والسكن ودعم المواد الأساسية والضمان الاجتماعي، والزيادة في أسعار العديد من المواد مثل النقل والمحروقات والاتصالات والضرائب غير المباشرة كالأداء على القيمة المضافة" (5)، ممّا أدّى إلى تنامي التوترات الاجتماعية، فاندلعت الكثير من الاحتجاجات أهمها الإضراب العام الذي نفذه اتحاد الشغل سنة 1978 وثورة الخبز سنة 1984 .
تزامناً مع هذا المناخ المتوتر، شهدت هذه الفترة ظهور أوّل حركة سلفية في تونس سنة 1986، وهي "الجبهة الإسلامية التونسية" ومن أهم قياداتها آنذاك محمد علي الحراث وعبد الله الحاجي ومحمد خوجة الذي سرعان ما تم اعتقاله لأنّ الدولة متحكمة بمفاتيح اللعبة، خاصة في المستوى الأمني. هذا الظهور وتاريخ التأسيس له سياقات موضوعية داخلية تفسره كتلك المشار اليها أعلاه، يضاف اليها عوامل أخرى غير محلية إذ تميزت هذه الفترة بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، وإحتل الاتحاد السوفياتي أفغانستان (1979-1989) في اطار الحرب الباردة، ليظهر "الجهاد ضد الكفار" بمعناه الحديث، اضافة الى تطوع العديد من التونسيين في هذه الحرب تحت قيادة بن لادن وعبد الله عزام.
في 2011، جعل تحرّر المساجد من سلطة الدولة الشباب يعود بقوّة إلى الدين. وأمام السيطرة شبه التامّة للأئمة السلفيين على المساجد، وتحديدا منهم الجهاديين، وجد الشاب غير المتديّن والذي لا يمتلك أدنى مقوّمات التنشئة الدينية نفسه أمام بديل، فتقبل رأيه بسرعة دون نقاش وتفكير، فالحركة السلفية تبني نموذجا ثقافيا شاملاً وجاهزاً..
عموماً، ومع تنامي الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، انطلقت تونس في بداية تنفيذ برنامج التعديل الهيكلي للاقتصاد منذ سنة 1986 كأساس للتحول نحو اقتصاد نيوليبرالي معولم فتغير النمط التنموي من جديد بفعل تبعية الاقتصاد المحلي وإملاءات المؤسسات المالية الكبرى، لتنخرط تونس في الاقتصاد المعولم أو الاقتصاد النيوليبرالي، فكانت النتيجة أن تعمقت "اللا مأسسة"، وكل ما كان يعهد للدولة ومؤسساتها قد صار بفعل سياسات العولمة، التي تفرض المبادلات الحرة وتشجع المبادرات الفردية والخصخصة، من مشمولات الفرد ليتدبر أموره بنفسه، من شغل وصحة.. همشت فئات عريضة ولم تجد موطئ قدم في سوق الاستهلاك بل زادت الدولة إيغالا في سياساتها الأمنوية بغية ترقيع الأوضاع الاجتماعية الهشّة لتؤجل الصراعات والاحتقان الاجتماعي، كالاعتقالات والاعتداءات التي نفذها نظام بن علي في التسعينات ضد عدد من المعارضين. في ظروف كهذه تشعر فئات عريضة، ومنها الشباب، بنوع من الحقد يسهل أن يتطور إلى عنف تمارسه الفئات التي تعاني صعوبات في الاندماج الاجتماعي. و"هذه القوى المقصية ستشكل بؤراً للتوتر الاجتماعي ومصدراً للانفلات الأمني كلّما تعكر المناخ الاجتماعي وتأزمت الأوضاع" (6). وقد مثّل الحراك الاجتماعي مرحلة تحوّل مفصلي في نشاط الحركة السلفية التي انتقلت من السرية إلى العلنية.
عودة الهامشي والاستثمار في ضعف التنشئة الدينية
مثّل الحراك الاجتماعي التونسي ما بعد كانون الاول / ديسمبر 2010 منعرجاً حاسماً للشباب، السلفي منهم وغير السلفي. وقد مكّن ضعف مؤسسات الدولة في هذه الفترة الحركة السلفية من تكثيف نشاطها وجعله ينتقل إلى العلن. وفي هذا المناخ الجديد "وجدت الذوات المقموعة والمغيبة الفرصة المواتية للتعبير عن هويتها والمطالبة بحقها في الوجود. عودة الهامشي تزامنت مع بروز خطابات تشرع ذلك الحقّ، كالديمقراطية والحريّة والمواطنة" (7). نتج عن هذا الوضع تحرّر المساجد من سلطة الدولة ما جعل الشباب يعود بقوّة إلى الدين. وأمام السيطرة شبه التامّة للأئمة السلفيين على المساجد وتحديدا الجهاديين وجد الشاب غير المتديّن والذي لا يمتلك أدنى مقوّمات التنشئة الدينية نفسه أمام بديل يعتبره ممثلا للإسلام الحقيقي، فتقبل رأيه بسرعة دون نقاش وتفكير. فالحركة السلفية تبني نموذجاً ثقافياً شاملاً وجاهزاً يجعل الشاب يتبناه دون تردد. استثمرت الحركة السلفية هذه التدين الفجئي أو العودة القوية للدين في المجال العام لتكون "نوعاً من الامتداد لذات المرء" (8). يعود ذلك إلى السياسة الأمنوية التي مارستها الدولة والتي شددت فيها الخناق على الحقل الديني تجنباً لكل تحرك أو فكر قد يمس من شرعيتها. وفي السياق نفسه، فإن "أشكال العنف الراهنة تعود إلى طبيعة المجتمع الذي انهارت فيه الديمقراطية وانعدمت أشكال الحوار القانوني والمجتمع المدني النشيط" (9).
اقرأ أيضاً: السلفيون في تونس.. اللاعب الصاعد في الخارطة السياسيّة
بناء على ما سبق يمكن اعتبار الحركة السلفية بمثابة حركـــــــــة اجتمـــــــاعية وليدة لسياسات تنموية فاشلة من منطلقين اثنين: الأول أفول الموجهات الهوياتية التقليدية و"تخلص روح الفرد من سلطان الجمع" (10)، أي أصبح الأفراد يبنون هوياتهم وأشكال فعلهم وأنماط تدينهم بشكل فردي وانسيابي، لا يستمد مشروعيته من نماذج مثالية متعارف عليها اجتماعياً يقيس بها وعليها ممارساته لأنه، وفي ظل الحداثة القسرية، فلا معنى لمصطلح القيم أو العادات. وهذا إضافة إلى أفول المؤسسات التي كانت تؤمن في وقت ما كافة حاجيات الأفراد من شغل وصحة وتعليم. أفرزت هذه التحوّلات فئات شبابية ذات تنشئة اجتماعية ودينية هشّة من ناحية، وتعاني من ناحية أخرى ويلات الفقر والإقصاء، وولّد ذلك حركات اجتماعية تحرّكها ذوات شبابية فاعلة تمتاز بالاندفاعية والحماس وحاملة لمشروع تغييري يتمثل في أسلمة مجتمع يعتبرونه ضالاً ومعارضاً لشرع الله، وبالتالي يجب تأسيس بديل يحقق لهم العدالة ويستعيدون عبره الكرامة المفقودة ويتجاوزون عطوبيتهم.
المصادر
1- تعدّ الحداثة من أكثر المفاهيم لبساً في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية لكننا سنكتفي بتعريف الباحث عبد المجيد الشرفي الذي أنّ الحداثة "نمط حضاري تتميز به البلدان الأكثر تقدماً في مجال النمو التقني والاقتصادي والعلمي والاجتماعي والسياسي. أي هي النمط الحضاري الغربي كما تحقق منذ القرن السابع عشر للميلاد في أوروبا ثمّ أمريكا فاليابان"، (عبد المجيد الشرفي، "لبنات"، دار الجنوب للنشر، تونس، 1994، ص 18)
2- سالم لبيض، "ثقافة المؤسسة وأثر العولمة في العالم العربي، تونس مثالاً". مجلة "إنسانيات"، العدد 22 / 2003، ص 48
3- فؤاد غربالي، "الشباب والدين في تونس: دراسة للأشكال الهويتية الجديدة في المجتمع التونسي" ،مجلة "إضافات"، العددين 23 و 24 / 2012، ص.3
4- سالم لبيض،المرجع نفسه، ص 52
5- المرجع نفسه، ص 53
6- عمر الزعفوري، "الحركات الاجتماعية في المجتمعات التابعة"، مجلة "عالم الفكر"، المجلد 38 / 2009 ، ص 249.
7- عمر الزعفوري، "التهميش والمهمّشون في المدينة العربية المعاصرة"، مجلة "عالم المعرفة"، المجلد 36 / 2008، ص 185.
8- أمارتيا صن، "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي" ترجمة سحر توفيق ،"عالم المعرفة"، الكويت 2008، ص 46 .
9- Abdelkader Zghal, "le concept de la société civile et la transition vers le multipartisme ", éductions du CNRS, tome/ 28 1989, p.212.
10- Gustave Le Bon, "Les opinions et les croyances: genèse, évolution". Flammarion, 1913, p.156.
اقرأ أيضاً: الخوف كمحرك للتاريخ والسياسة في تونس