تتوقع المؤشرات المائية العالمية، وابرزها "مؤشر الاجهاد المائي"، ان العراق سيكون ارضاً بلا انهار بحدود 2040، ولن يصل النهران العظيمان الى المصب النهائي في البحر. وبعد ثماني اعوام (2025) ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جداً في عموم العراق مع جفاف كُلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول دجلة الى مجرد مجرى مائي صغير محدود الموارد.
تركيا: رافدان لا يصلان البحر
تروج الحكومة العراقية الحالية، بخصوص أزمة المياه الرهيبة التي ستضرب البلاد خلال العقد المقبل، أنها مرتبطة ببدء تشغيل سد "إليسو" التركي، وانها نجحت بـ"منع" التشغيل حتى حزيران/ يونيو بدلاً عن اذار/ مارس المقبل، لضمان سيولة مائية تخفف من صيف لاهب بشّر به العراقيون وزير الموارد المائية، دون الاعلان عن الاجراءات الوقائية التي ستتخذها وزارته، فيما يستمر استهلاك المخزون المائي الضعيف عند معدلات الهدر العالية دون انخفاض، ويستمر التعامل غير المسؤول مع الازمة وكذلك التعمية الدعائية. ولم تتوجه حملة حكومية الى الرأي العام للتعريف بالمخاطر الكارثية للازمة وضرورة الترشيد الى الحد الاقصى تلافياً لقحط مائي قد يتسبب بحرب دامية في المناطق الزراعية بين العشائر على حصص المياه المتناقصة.
أزمة المياه بين دول حوض الفرات
19-09-2012
عملياً، وحين كانت القيود المائية اقل وطأة من قبل تركيا وإيران تجاه العراق، كانت التدفقات تصل الى 77 مليار متر مكعب في السنوات المعتدلة مائياً، وفي السنوات الجافة ينخفض الى 44 ملياراً. وقياساً بالمؤشرات، فان العراق لم يتعرض الى نوبة جفاف مفزعة الا في مطلع الستينات من القرن الماضي بتدفق 30 مليار متر مكعب، انتهت بوصول المعدلات الى 84 ملياراً منتصف السبعينيات من القرن الماضي. استخدم العراق التهديد بالقوة ضد تركيا ثلاث مرات لإجبارها على ضمان حصته المائية دون تجاوز. وعلى الرغم من التوترات الدائمة بين بغداد وانقرة بشأن المياه، واحتفاظ كلا الجانبين بأكثر من 40 مذكرة واجتماع وبرتوكول، الا أن المرتين الوحيدتين اللتان توصلا بها الى اتفاق مجدٍ كانتا في 1946 ثم في 1982، وهو الاتفاق الذي ظل ساري التنفيذ بضم الطرف السوري بما يخص تدفق مياه الفرات. وفيه حددت الحصص المائية دون اعتبار لمتغيرات المستقبل السكانية ومشاريع الاستصلاح وارتفاع فاتورة الاستهلاك.
مع انهيار سلطة بغداد السابقة في 2003 وتداعي سلطة دمشق منذ 2011، انفردت انقرة بقرار المياه دون رادع وصولاً الى سياسة استعمار المياه ببناء مشروعات ضخمة تمثلت بنحو 1700 سد وبحيرة صناعية، بدءاً من سدود "اتاتورك" و"إليسو" و"سيرز" وبرنامج (GAP)...
وفقاً لذاك الاتفاق "الثابت"، ضمنت تركيا تدفقاً لمياه الفرات بـ15.75 مليار متر مكعب بمعدل 500 متر مكعب في الثانية. وبحلول العام 1990 توصلت بغداد ودمشق الى اتفاق تقاسم مياه منصِف بينهما، يضمن حصول العراق على 58 في المئة - 9 مليار م3 سنوياً – مقابل 42 في المئة لسوريا، فارتفعت المناسيب العراقية قياسياً في العام 1991. وبعد مُضي ربع قرن، وسط متغيرات وانقلابات عنيفة في المنطقة، لم تُبرم تركيا والعراق وسوريا أي اتفاق جديد لتوزيع الحصص. ومع انهيار سلطة بغداد السابقة في 2003 وتداعي سلطة دمشق منذ 2011، انفردت أنقرة بقرار المياه دون رادع وصولاً الى سياسة استعمار المياه ببناء مشروعات ضخمة تمثلت بنحو 1700 سد وبحيرة صناعية، بدءاً من "اتاتورك" الى "إليسو" و"سيرز" ومجمل برنامج (GAP) الضخم الذي يستهدف التعامل مع "المُشكلة الكردية" داخلياً ونزع التوتر بمنطقة جنوب شرق الاناضول على حساب الامنين المائي والغذائي العراقي والسوري.
تهدد المشروعات التركية العراق الى الحد الذي يمكن اعتباره "اعلان حرب" نظراً للسياسة العدائية المطبوعة باستغلال ضعف الدولة العراقية، فضلاً عن التدخل العسكري المباشر في الاراضي العراقية دون أي اعتبار لسيادة البلد. ولم تكن هذه المرة الاولى التي تهدد فيها تركيا العراق مائياً، ففي أزمة 2009، حين اُنقصت الحصة المائية، بقيت الاجتماعات الثنائية التي عقدت آنذاك مضيعة للوقت، مع استمرار اصرار تركيا على التحكم بحجم الاطلاقات وفقاً لاحتياجات مشروعاتها.
التمر العراقيّ يروي سيرة خراب البصرة
28-04-2017
يحاول الاتراك التغطية على حجم الكارثة المستقبلية المتعاظمة بتوجيه الانظار العراقية للتركيز خصوصاً على "سد إليسو" الذي يقع قرب نقطة التقاء الحدود التركية مع سوريا والعراق، (Ilisu - وقد أغرق منطقة كردية تحوي آثاراً بالغة القدم والاهمية، مما دفع الأمم المتحدة في 2008 الى الكف عن المساهمة في تمويله، وتسبب بنزوح 60 الف شخص عن قراهم التي أغرقت بالمياه). مع إتمام "اليسو" في 2016، الذي يرتفع نحو 135 متراً، مشكلاً بحيرة صناعية عملاقة بسعة خزنية تصل الى 11.40 مليار متر مكعب، تنخفض واردات نهر دجلة الى العراق الى 9.7 مليار متر مكعب من اصل 21.33 مليار متر مكعب. وحين يكتمل مشروع GAP بـ22 سد وبحيرة، ستقل إطلاقات نهر الفرات بنسبة 80 في المئة، ما يعني جفافاً حتمياً واجهاداً مُدمراً للمياه في العراق، مع معدل استهلاك مائي متنامي قدر بـ53 مليار متر مكعب في العام 2012، تبتلع جزءه الاكبر الزراعة، بنسبة 79 في المئة، فيما يستحوذ الامداد المنزلي على 6.5 مليار متر مكعب، والجهد الصناعي على 14.5 مليار متر مكعب. اما انتاج الطاقة الكهربية فيهدر نحو 17 في المئة منه وفقاً لتقديرات العام 2005. ومع نشاط عمليات الاستخراج النفطي المحمومة وزيادة الانتاج، يقدر حجم الهدر والحقن المائي بنحو 1.8 مليار متر مكعب سنوياً. وتشير التقديرات أن الحاجة المائية المستقبلية للعراق ستبلغ نحو 77 مليار متر مكعب، لن يُمكن تأمين نصفها خلال الاعوام العشر المُقبلة.
يحاول الاتراك التغطية على حجم الكارثة بتوجيه الانظار العراقية الى "سد اليسو" تحديداً بوصفه أضخم السدود الجديدة، وإشغال الرأي العام عن المشروعات الموازية الأخطر. مع اتمام "اليسو" الذي يرتفع نحو 135 متراً، وهو بحيرة صناعية عملاقة بسعة خزنية تصل الى 11.40 مليار متر مكعب، تنخفض واردات نهر دجلة الى العراق الى 9.7 مليار متر مكعب من اصل 21.33 مليار متر مكعب
السلطة الجديدة في بغداد، التي مضى على حكمها 15 عاماً، فشلت في إدارة ملف المياه، وهي لم تُحرز تقدماً على الرغم من أوراق الضغط والمناورة والتفاوض المُتاحة. الاتفاق الثلاثي، التركي ــ السوري ــ العراقي، يحدد معدل لتدفق الفرات عند 500 مترمكعب في الثانية، وقد تلاعبت انقرة مجدداً بالاتفاق في ظل تصعيدها مع بغداد ودمشق، وقلّصت التدفق الى 260 متر مكعب في الثانية منذ العام 2014، متذرعة بفرضية استفادة تنظيم "داعش" من كمية المياه الواصلة الى سدود ظلت تحت سيطرته لاكثر من عامين، وقدرته على تفجيرها، وبالتالي التسبب بفيضان عارم، لاسيما مع التهديدات الجدية بانهيار سد الموصل. لكن حتى بعد انحسار الخطر الارهابي، لم تُغيّر انقرة من سياستها المائية. ويكشف مدير مشروع سد الموصل أن مناسيب "دجلة" باتت الآن (اواخر 2017) اقل بـ 50 في المئة من السنة الفائتة، حيث بلغت 240 متر مكعب/ ثانية، وفي كانون الاول / ديسمبر الماضي انخفض الى 120 متر مكعب/ ثانية.
بغداد ظلّت غير آبهةٍ بالتحديات التي تعتمل على الارض وتتسبب بكارثة وطنية لها مردوداتها الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرها المباشر على الامن، وسط فوضى السلاح واستعماله اليومي من قبل العشائر في تصفية نزاعاتها، فضلاً عن مخاطر انفلات الاستقرار بالمناطق المحررة نتيجة انعدام الزراعة واستفحال العطالة هناك وعجز الحكومة عن التعامل معها.