طريق

رعب الحروب الاهلية مجسداً هنا. من صنعاء إلى عدن، تجتاز الحافلة حواجز مسلحين يكنّ الواحد منها العداء للحاجز الذي سبقه أو سيليه.. وجميعهم يتعاملون مع الركاب بريبة وعدائية. ثم..  
2018-02-22

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
صادق الفراجي - العراق

ترتج حافلة "راحة" الصفراء في المنحدر. ولا أفكر سوى بأني سأتقيأ إذا ما فتحت عيني، وكان هذا التفكير أكثر عقلانية من تفكيري أن الحافلة بهذا التهادي المرعب ستنزلق من الطريق الضيق لتهوي في قيعان "سُمارة". أصرّ أن أغمض عيني وعقلي محاولاً تجنّب تخيّل الحافلة وهي تتلوّى كثعبان في المنحدر اللولبي، وكان من المفيد جداً أن ركبة وليد بجانبي تلامس ركبتي فأشعر بالضيق ويتشتت تفكيري ويبتعد عن الانزلاق. كانت ركبته تروح وتجيء مع حركة الحافلة وتلامس رجلي التي بالمثل تتأرجح مع الحركة ولا أستطيع السيطرة عليها، الفارق أن وليد كان يغطّ في نوم عميق منذ اللحظة التي غادرنا فيها "الفرزة" في عصر، التفت إليه لأخبره شيئا بينما نغادر "حزيز"، لكنه كان قد غادرني أبكر، وكرهت أن ألتفت لمشتاق لأخبره بمخاوفي من مغادرة صنعاء. كنا قد اجتزنا أول حاجز تفتيش بسلام. لا أقصد نحن، بل الحافلة بشكل عام. لم يحتجز الحوثيون أحدا، ولا بعثروا الأشياء كعادتهم، فقط أهانوا رجلين كانا يحملان هويات عسكريّة، ووقف الرجلان بذلٍ يعتذران ويتأسفان على أشياء لم أفهمها ولا حتى فهمها الحوثيون أنفسهم. كان الحوثيان المسؤولان عن التفتيش، مراهق قذر يلوك قاته وفمه يكاد ينفجر، لذا لم يشارك في الكلام، بينما الرجل الأكبر سناً بدا أكثر نظافة وتدلّت من سحنته سيماء تقول: سلاحي جاهز وستذهبون جميعاً إلى الجحيم. لذا لم يتحدث أحد، أهانونا جميعاً وكنا سعداء أن أحداً لم يقتل، ولم يجرجروا أحداً خارج الحافلة الصفراء.
نهوي إلى الأسفل والساعة تقارب الخامسة، كانت "إب" جميلة كالخرافة، وأعطاها الغروب منظراً سريالياً، وعلى الهضبة المجاورة للطريق الإسفلتي تراءى لي مجسم ذئب ينتصب على القمة الصخرية. كنت أراه واضحاً كما في الأفلام، رأسه مشرئب إلى السماء وقوائمه ثابتة في الصخر. لم أشأ أن أوقظ وليد ليشاركني المنظر، فقط سلمت نفسي لرهبة باردة، ولم أستغرب بعد خيال الذئب الذي أصبح مرافقاً لصوت أبو بكر يغني "الزمن ما تغير بس! أهل الزمن ويلاه متغيرين..". كان صوت أبو بكر هو الأنٌس الوحيد في الحافلة. غطّ الناس في النوم أو لاكوا قاتهم بصمت، وتكومت النساء بصمت تحت براقعهن، ولم يكن هناك أي أطفال، كنا جميعا حزانى وحتى أبو بكر ذاته والشبابيك والطرقات والذئاب التي لا وجود لها في القمم الصخرية، كان كل ما تحت سماءنا تلك جريح وحزين وبلا جدوى.
توقفنا عند نقطة تفتيش ثانية حين انتهينا من المنحدر المرعب، صعد ثلاثة رجال ملثمين وعلى بنادقهم الشارة الخضراء لـ"صرخة" الحوثيين، تحدثوا بهدوء شديد مع السائق الذي لم ينبس بحرف، وتأهبنا نحن بهوياتنا وأكياس البلاستيك التي نحمل فيها متاعنا القليل. كان وليد يستقيظ في كل مرة يشعره عقله النائم بأن هناك نقطة تفتيش، لم يبادلنا الرجال المسلحون أية كلمة، تنحنح رجال في مؤخرة الحافلة وسرت همهمة، سمعت بعدها توسلات، ولم أتجرأ على الإلتفات، ارتفعت حدة التوسلات وازداد علو الأصوات، أحد الحوثيين الثلاثة أزاح لثامه فيما يبدو، ثم صرخ: "أحد آخر هنا ذاهب ليقاتل مع الشرعية؟ أغمضت عينيّ بقوة وظللت أحلم بالذئب على المرتفع الصخري".
انكمشت الحافلة وسرى الرعب، والرجل يحلف بأغلظ الأيمان أنه ليس مقاتلا ولا مع الشرعية، كان ذاك أحد الرجلين ذوي الهويات العسكرية، وإلى جانبه تقلص زميله حتى لم يعد يُرى، والحافلة التي كانت موحشة في الأساس صارت موتاً بعد أن فقدنا الرجل، لفّ الحافلة صمت المهزومين، إحساس بالعار، لكنه لم يكن العار حقيقة، كان الرعب مخلوطا بالسعادة. "لقد نجوتُ"، لسان كل واحد منا. هذه الألسنة التي لم تعلق بوضوح. تواترت الهمهمة في مؤخرة الباص لدقائق ثم انطفأت مع أضواء الحافلة. كان السائق فيما يبدو يدعونا للنوم ويتمنى لو كان مسافراً في نفق مظلم على أن يتحمل مسؤولية طريق مرعب كهذه الطريق.


اقرأ أيضاً: حكاية من اليمن.. نزوح


أجاهد لكي أنام، أغفو لدقائق ويوقظني رعب أن نكون انزلقنا أو رعب الأحلام. كان جسدي ما زال عالقاً في سُمارة، نمت لدقائق ثم حلمت أنهم يذبحون الرجل، و"معوزه" (أو "الوزرة" وهي الرداء التقليدي) الكحلي بخيوطه الفضية يلف رأس الذئب الموضوع على صخرة كبيرة. أفيق ثم أعاود الحلم بالرجل يبتلع شظايا الزجاج، والدماء تتفجّر كالينابيع من رقبته، ثم يقف الرجل بمواجهة الذئب. وفي كل مرة أنتفض من الحلم مرعوبا وأخشى أن أنام من جديد. لكني أنام بفعل السكون والظلام والارتجاج المتواصل للحافلة. أكافح للبقاء يقظاً بأن أرصد الأضواء الشاحبة في البيوت المتناثرة بعيداً عن الطريق. لقد نسيت هذه البلد شكل الكهرباء ورفاهية الضياء. أعد البيوت المضيئة وأتسلى بأن أتخيل مصدر كل ضوء، فذاك البيت لا يمتلك سوى فانوسا من العصور الغابرة، وكان لديهم أربعون لتراً من الكيروسين مخبأ في منزل الجدة، وأولئك لديهم مولد كهرباء فابنهم يعمل في شركة خاصة وما زال يستلم مرتبه، أما أولئك فلديهم لوح صغير للطاقة الشمسية ابتاعوه في العيد الماضي بعد أن باعوا الكبش الذي من المفترض أن يكون أضحيتهم. وبين تينك البيتين ثلاثة بيوت صغيرة لفلاحين صغار لا يعرفون شيئا عن الضمان الاجتماعي ولا المرتبات الشهرية، لكنهم يعرفون ألواح الطاقة الشمسية التي لن يشتروها، فهم ينامون باكراً جداً ويصحون أبكر ولا يهمهم التلفزيون.
ندخل الأراضي الملتهبة. تعرف أنك تمر في "تعز". تسمع أصوات قذائف بينما الرصاص يلعلع في أماكن غير بعيدة. أعلن السائق بمكبر الصوت أننا الآن "سنواجه تفتيشاً مختلفاً ورجاء كل واحد يخلي باله من نفسه ومن اللي معه ولا تدخلونا "جحر الحمار" لو سمحتم". لهجة السائق كانت اتهامية صريحة. بقينا صامتين ولم يعترض أحد، بعدها بدقائق توقف السائق وفتحت الأبواب أوتوماتيكياً كالعادة، تحولنا لعين واحدة، صعد ثلاثة رجال ملثمين أيضاً، لكنهم يرتدون المعاوز هذه المرة. وبالروتين نفسه والصمت المهيب فتشوا الهويات والأشياء ورمونا بنظراتهم المشككة. قال أحدهم من تحت لثامه: "لو في واحد حوثي هنا الأحسن له لا ينزلش "عدن"، والله ليذبحوا عاره في "لحج"، إحنا عارفين إنكم نازلين عشان تلفوا لفة وترجعوا تقاتلوا مع أصحابكم لمحاصرين "تعز"، لكن بانلاقيكم ونسلخكم سلخ!".
أنهى حديثه ثم حرك الكلاشينكوف بحركة درامية. كنا جامدين، ننظر ببلاهة، ما الذي لم نختبره بعد؟ انطلقت الحافلة مرة أخرى وهنا انفجرت إمرأة في الصفوف الأمامية: "الله يلعنها بلاد، كل من طلع يهز سلاحه ويهددنا، ولا هم داريين مين غريمهم، يدوروا بعدنا احنا!".
كانت المرأة تشتعل من الغيظ، وافقها الجميع وسرت الهمهات من جديد. حتى وليد زعق من مكانه موافقاً: "والله عندك حق يا خالة ينزلوا ملح احنا ايش دخلنا". لكزته بكوعي، وأمرته بأن يعود للنوم.


اقرأ أيضاً: حكاية من اليمن.. سرقة


بعثت رسالة أخرى مطمئنة لأختي. ربما تكون نائمة لكن أبي سيوقظها على أية حال ليسألها إن كنت وصلت لبيت خالتي في عدن أم لا. لم أصل بعد يا أبي، تبقت المسافة الأقصر، لكني لست متأكداً كم مِن نقاط تفتيش تنتظرنا لنعبر الحدود بين العالمين. نمت هذه المرة، واختفى الذئب ورجل المعوز الكحلي واختفى العالم، واستبدله دماغي بترهات أحلام غير مفهومة لأمي وهي تعد الغداء، وأختي وهي تتشاجر معي، ووليد ومشتاق يركضان باتجاه هاوية ما، وأنا وجنود كثيرون نقف في الشمس الحامية، وأبو بكر يغني بصوت عال مزعج يكاد رأسي ينفجر بسببه. وظللت أتنقل بين الأحلام، كان زمناً طويلاً قد مضى منذ أن هدأ العالم وغططتُ في النوم. في تلك السويعات نسيت أني أسافر وأن الأمكنة التي عبرها جسدي بدون وعي، هي أماكن بدون ضوء ولديها سماوات مختلفة. تلك الهدأة انتهت حين فتحت أبواب الحافلة، وأضيئت الأنوار، أربعة رجال هذه المرة، ولديهم أضوائهم المحمولة، كانوا يصوبونها تماماً لوجوهنا في محاولة لاستشفاف نوايانا، أعلن السائق في مكبر الصوت أن على كل الرجال تحت سن الخمسين وفوق سن السابعة عشر النزول حالاً من الحافلة، ولم أستطع أن أعرف أين أنا بالضبط.
هنا عاد الذئب بقوائمه يشوش بصري وفكري، تلفتنا لبعضنا، لن يحمي أحدنا الآخر، كنا شبانا في العشرينيات، ترجلنا من الباص قرابة الخمسة عشر رجلاً، لم يتبق في الحافلة سوى شائبان والنسوة، وقفنا بمحاذاة الحافلة، في خط مستقيم، والأربعة يضيئون وجوهنا بينما يقف على مقربة أربعة آخرون متأهبين. كنت كالمسحور، وحاولت أن أبقى بجانب وليد ومشتاق ما استطعت، تفحص الرجال الهويات بتأني، وابتدأت المأساة من جديد بالرجل ذو الهوية العسكرية. كان أول من تم اعتقاله أو اختطافه، والتهمة على عكس تهمة زميله، حتى أن الموقف أصبح كوميديا بغتة، إذ أن الرجل لم يفهم إن كان فعلاً في ذلك الموقف. أخذوا رجلاً آخر أيضاً، لكني لم أستطع تمييز وجهه إذ كنت منشغلاً بالتحقيق الجاري مع وليد بجواري. شرح لهم وليد مشيراً لنا أيضا أننا نازلين لعدن فقط لأجل معاملات الرواتب، إذ أن آباءنا موظفين في السلك الحكومي في وزارة التربية، وأخبروهم أنه من الممكن أن يتقاضوا رواتبهم من الحكومة الشرعية. كان وليد يتلعثم مرعوباً، وحاول أن يريهم الأوراق التي يحملها لكن الرجل نهره بعنف. اتجهوا بالسؤال لي فلم أستطع التحدث بأكثر من أن "زي ما قال صاحبي"، لكن مشتاق أكمل الحكاية وأخبرهم أننا فقط سنبقى حتى نكمل المعاملة ثم نعود فوراً لصنعاء.
سخر الرجل المسؤول عن التحقيق معنا: "خلوا الحوثيين يدفعوا لأهلكم رواتب". لم نعلق، ظللنا نراقب مرتعدين رغم أن الجو لم يكن بارداً، الحصيلة النهائية كانت أن عاد الرجال إلى الحافلة وتبقينا نحن الثلاثة مع شاب آخر، والرجلين المعتقلين. تشاور الرجال المسلحون فيما بينهم ثم عاد الرجل الذي سخر منا وأعلن ببساطة أننا لن نعود للحافلة بل سنعود إلى صنعاء. شعرت بالرعب. بدأنا جميعاً التوسل، لكنه زعق ورفع سلاحه. كان الذئب رابضاً أمام عينيّ بالضبط، وأشعر بالعطش الشديد. أمر الرجل السائق بأن يمضي فصرخ وليد: "الشنط!"، لكن الحافلة كانت قد مضت، ولم يعره الرجال أي اهتمام.
في العراء نقف، عراة أيضاً رغم ارتداءنا الملابس. لم نعرف ماذا سنفعل ولم نتناقش، كنا بانتظار أوامر الرجال المسلحين الذين تجاهلوا وجودنا، لكنهم أعلمونا فيما بعد أنهم سيوقفون أقرب شاحنة ذاهبة لصنعاء لتحملنا معها، لأنهم لن يسمحوا لنا بالتسلل إلى عدن. ولمدة ساعة كاملة جلسنا على الحصى بجانب الطريق، دامين من الذل والعجز. لم أبعث أية رسالة لأهلي، مخافة أن ينتزعوا هاتفي، ثم أخيراً أوقف الرجال سيارة نقل كبيرة كانت مليئة بالأثاث والكراكيب وعلى متنها ثلاثة رجال. تناقش معهم الرجال المسلحون، وبعد شد وجذب، وافقوا على أن يحملونا، اثنان منا سيجلسون في الكابينة واثنين آخرين على الأثاث نفسه لكن بحذر كي لا ننزلق ولا نكسر الأشياء. الشاب الرابع واسمه نبيل ركض مع وليد مسرعين متسلقين الشاحنة واستقرا على سطح كابينة السائق، بينما زحفتُ مع مشتاق، ثم انزلقنا ببطء على الكراكيب. كنت مستلقياً فيما يبدو على كمية هائلة من الملابس داخل أكياس سوداء، وتحت الأكياس كانت تستقر كنبات وكراسي بشكل مرتب، زعق فينا الرجل بجانب النافذة أن نكون حذرين، ونصحني مشتاق بأن أتشبث جيداً بالإطار الحديدي، تشبثتُ لوقت قصير ثم وضعت رأسي على أكياس الملابس ونمت.
كانت هناك رائحة غريبة تتصاعد من الكيس الموضوع تحت وجهي. أحلم بتلك الرائحة وأنا نائم. حين أشرقت الشمس كنا في مكان ما من "يريم". الصباح بارد ومضيء وآمن لا يشبه الليل في شيء. غمرتني سعادة لأني حي. كان غريباً أن أنجو بعد ليلة أمس. كان صوت القرآن مؤنساً من غرفة القيادة في الأسفل رغم الارتجاج وكركبة الأشياء. فكّرت هل سندفع لهم أجرة العودة وكم هو المبلغ الذي اٌتفق عليه مع المسلحين. ثم أنستني النساء راعيات الأغنام على جانب الطريق أفكاري. كنّ شابات يضعن قبعات "العزف" على رؤوسهن غير مكترثات بالسيارات ولا بمن عليها. شعرت بالأمان أكثر، ثم أدركت أن الرائحة في أنفي تشبه رائحة خزانة أمي. أمسكت بالكيس الذي كان مخدتي، فتحته وبدأت أنبش فيه، ولاحظت أن وليد ونبيل مستلقيين على الأشياء مثلنا وقد تركا سطح الكابينة، لكن الجميع كان نائماً، لذا استخرجت إحدى القطع بهدوء لأتأكد إنْ كانت لأمي، كانت بلوزة خضراء اللون، مزهرة بزهور بيضاء باهتة، قماشها قطني، وعلى أطرفها دانتيل أبيض ناعم. لم تكن لأمي بالطبع، لكنها قد تكون لزينب أختي الصغيرة. شممتها كي أتأكد أيضاً أنها ليست رائحة أمي. وضعت رأسي فيها لدقيقة، ثم أعدتها للكيس وأغلقته كما كان، خائفا من أن يكون أحدهم لاحظ ما فعلت للتو.


اقرأ أيضاً: حكاية من اليمن.. فرار


مقالات من اليمن

تحوُّلات العاصمة في اليمن

يُعدّ الإعلان الرئاسي عن نقل العاصمة الى "عدن"، في معناه القانوني، إجراءً رمزيّاً، لأن نقل العاصمة يقتضي إجراء تعديلات في الدستور اليمني، الذي لا يزال ينص على أن مدينة "صنعاء"...

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...