احتفل "بعض التونسيين" بالعيد السابع "لثورة 14 يناير" 2011. البعض فقط لا يزالون يمجدون ذكرى سقوط نظام قمعي حكم تونس لعقود، وكانت فيه كلمة الحرية وحدها كفيلة بتغييب قائلها لسنوات في سجون النظام، أيام كان للحيطان "آذان" ولعواميد النور في الشارع "عيون".
...الحرية! تلك الكلمة التي تنفسها التونسيون قبل ان يعوا معناها عندما ارتخت القبضة الحديدية لبوليس بن علي وتمّ حل جهاز البوليس السياسي وأصبح التونسي يخوض في أحاديث السياسة وينقد ويشتم رؤوس السلطة علناً دون خوف. ظن العديدون أوائل سنوات التغيير "الثوري" بانها ستكون مفخرة بلد "الربيع العربي" الأول في المنطقة، ليعود الجدل بين النخب السياسية والاعلامية شيئا فشيئا يستعمل مفردات كان من المفترض ان تغيب مع غياب نظام بن علي، وهي: التضييق، القمع، "الهرسلة" (الملاحقة)، والاعتقال.. الكلمة التي اطلت برأسها مؤخراً في أحداث الاحتجاجات الاخيرة التي عرفتها البلاد كرد فعل من الشعب على اجهاز قانون المالية لسنة 2018 على الطبقة المتوسطة.
الصحافيون أحرار على الورق مضطهدون في الواقع
كشفت الاحتجاجات الاخيرة في تونس عن هشاشة الصورة التي رسمتها السلطة منذ "ثورة يناير 2011" والقائمة على افتراض تكريس الحريات بمختلف تفرعاتها. بدأ ذلك الكشف من عند أعلى هرم السلطة، رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، الذي لم يتورع عن اتهام صحافيي ومراسلي وسائل الاعلام الاجنبية في تونس بتأجيج نار الاحتجاجات، في تصريح أثار جدلاً واسعاً وتسبب في التضييق على عمل الصحافيين الميدانيين في عدد من المناطق بالبلاد التونسية، خاصة في تغطية الاحتجاجات.
سبقت هذه التصريحات تخوفات من عدة منظمات تونسية وعالمية. فقد اعلنت منظمة "مراسلون بلا حدود" عن خفض مرتبة تونس درجة (من الـ96 التي لم تكن أصلا علامة جيدة، الى المرتبة 97)، وأرجعت ذلك الى استمرار الرقابة على العمل الصحافي والتضييق على الصحافيين في مجالهم الحيوي والعملي اضافة الى تضارب المصالح داخل المؤسسات الإعلامية ذاتها ما حال دون ترسيخ مبدأ حرية الصحافة.
مَثّل الحقّ بالاحتجاج مكسبا للتونسيين بعد الثورة، خاصّة بتضمينه إلى جانب الحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة في الدستور الجديد للبلاد. ولكن برزت إلى السطح مؤخراً وسيلة جديدة للالتفاف على هذا الحق تتمثّل في سحب "جرمٍ شاذ" أقدمت عليه عصابات الحرق والنهب، على مئات المحتجين في عشرات المناطق..
في السياق نفسه، عبّر مركز تونس لحرية الصحافة عن خشيته على حرية التعبير في البلاد، في تقريره نصف السنوي الذي أصدره في نبسان/ ابريل 2017، واكد فيه عن تراجع الاعتداءات على الصحافيين كمياً، لكن تطورها في مجال أخطر نوعياً حيث وصلت حد التهديد بالقتل والاعتداءات الجسدية والمنع من العمل للعديد من الصحافيين من مختلف المؤسسات الاعلامية، وهي تهديدات تصدر عن مواطنين او عن السلطات التي عمدت في عديد المرات الى منع التصوير او المطالبة بترخيص للتصوير في الاماكن العامة، وهو ما كان قد تمّ الغاء العمل به منذ سنوات. وعلى الرغم من تأكيدات وتطمينات وزارة الداخلية بأنها تعمل على توعية عناصر الأمن لديها وترسيخ روح المواطنة فيهم، الا ان النتائج لا تزال غير مرضية.
اقرأ ايضاً: تونس.. يناير يلد يناير
وضعيات العمل الهشة هي شكل آخر من اشكال الاستغلال والحد من حرية الصحافة، على اعتبار تحكم مجموعة من رؤوس الاموال في المشهد الاعلامي وبالتالي تدخلهم بشكل كبير في العمل الصحافي للعديد من العاملين في القطاع. وهذا جعل البعض، بداعي الحفاظ على عمله، يخضع للعديد من الممارسات الرقابية، إما التابعة لأجندات معينة أو المتعلقة بغرض خدمة المنافسة بين المؤسسات واستقطاب أعلى نسب مشاهدة. ويظهر ذلك أيضاً عدم احترام أغلب المؤسسات الاعلامية لكراس الشروط التي نصت عليها "الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري"، وهي التي بدورها لم تحرك ساكناً لردع هذه الممارسات.
تجريم الإحتجاج
أكثر من 1000 معتقل على خلفية الاحتجاجات الاخيرة التي تعرفها تونس والرافضة لقانون المالية لسنة 2018، هذا ما اعلنت عنه رسمياً حركة " فاش نستناو" ("ما الذي ننتظره؟") المتبنية لكل أشكال التحرك ضد قانون المالية ذاك. والرقم نفسه اعلنت عنه وزارة الداخلية لكن مع استعمال عبارة "مخربين للاملاك العامة" ووصم الاحتجاجات جميعها بانها عمليات تخريب ونهب للمؤسسات العمومية.
هذا الخطاب التحريضي ليس جديداً على سلطة ما بعد "14 يناير"، لكنه أصبح أكثر عنفاً وهجومية على كل أشكال الإحتجاج ضد القرارات الحكومية، وعادت تهم كالإضرار بالملك العام، وتوزيع منشورات، تطل برأسها وتجرم مرتكبيها وتضعهم في خانة "المخربين للدولة". هذه الدولة نفسها التي تستمد شرعيتها الحالية من دستور 2014 الذي نص على حرية التعبير والتنقل بكافة اشكاله، نجدها اليوم تعود لارشيف الممارسات السابقة في قمع معارضيها والتنكيل بهم عند معارضتهم لقراراتها.
لكن الاحتجاجات تتواصل، ويتواصل معها عنف السلطة تجاه المعارضين الذين يمثل الشباب الاغلبية الساحقة فيهم. وبطريقة مدروسة، تتبنى السلطة خطاباً شعبوياً على مستوى آخر مفاده ضرورة "الوقوف لتونس"، الجملة الشهيرة التي تبناها رئيس الحكومة الحالي والتي أصبحت مرجعاً لكل تدخل في الحريات الفردية والعامة بحجة الحفاظ على البنيان الهش للحكومة المتصدعة والتي تشهد انشقاقات داخلية تهدد بنسفها. وقد زادت الحلول الترقيعية الهشة الوضع تأزماً، وآخرها اعلان رئيس الحكومة عن جملة من الاجراءات لفائدة الشباب، منها تمكينهم من العلاج المجاني في المستشفيات العمومية، الذي كشف عن انعدام قدرة الدولة على إيجاد حلول جذرية لملفاتها الداهمة التي تراوح مكانها منذ 7 سنوات.
إقرأ أيضاً: الاحتجاجات الاجتماعية في تونس: "حركة بلا بركة"؟
في ظلّ عدم إصلاح المنوال التنموي، وسيطرة المركز وفئة قليلة على مقدّرات البلاد، مَثّل الحقّ بالإحتجاج مكسباً للتونسيين بعد الثورة، خاصّة بعد تضمينه إلى جانب الحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة في الدستور الجديد للبلاد. إلا أن هذا المكسب بات مهدّداً بفعل الصراع الإنتخابي على "المساحات الإجتماعيّة الفارغة" التي تعاني من الحيف والتهميش ومن "عطوبة إجتماعيّة" متواصلة.
تجريم الإحتجاج في تونس لا يخص فحسب مجرّد عودة الحديث عن مقايضة الحرية بالأمن والإستقرار، بل يتمّ اللّجوء إلى وسائل جديدة في صراع النخبة السياسية، سلطة ومعارضة، من خلال "الوصم". إذ كثيراً ما لجأت أحزاب السلطة إلى إتّهام "الجبهة الشعبيّة" بتأجيج الإحتجاجات، وذلك بغاية طمس مطالب المحتجّين وتحويل النقاش من مطالب إجتماعيّة إلى مماحكات إيديولوجيّة. وحديثاً برزت إلى السطح وسيلة جديدة تمثّلت في سحب "جرم شاذ" أقدمت عليه عصابات الحرق والنهب، على مئات المحتجين في عشرات المناطق.
وهذا ما فعله رئيس الحكومة التونسي المقر بضعفه الإتصالي وقلّة حيلته السياسية عندما خرج ليربط الإحتجاجات بـ"عصابات التهريب والفاسدين" في تعبير يشبه التوصيفات التي أطلقها نظام المخلوع بن علي المحتجّين ذات ثورة يناير.
"من المعتقل"
الهواجس الإقتصادية والإجتماعيّة التي مثّلت جوهر ثورة يناير في تونس تخنق الحريّة وسقفها العالي باعتبارها المكسب الوحيد كما يتحدّث الجميع. حتّى رموز النظام القديم أنفسهم باتوا يهاجمون الثورة ويعودون إلى المشهد من باب الاستخفاف بـ"الحريّة" التي لم تقدّم لضحايا عقود من الحيف والتهميش حلولاً إقتصادية وإجتماعية وتنموية.
اقرأ أيضاً: تونس وصندوق النقد.. الطريق لتفكيك دولة الرعاية الاجتماعية