أحداث عدن: تفكيك القوى اليمنية بالتقسيط

وجود دولة يمنية قوية، سواء كانت مركزية أو فيدرالية، لا يخدم الامارات ولا السعودية معاً. هنا رصد للمخططات التي تفيد هذه الغاية ولأدواتها.
2018-02-05

توفيق الجند

كاتب صحافي من اليمن


شارك
أحمد السوداني - العراق

لم تكن الأحداث الدموية التي شهدتها مدينة عدن (وهي اعلنت كعاصمة مؤقتة لليمن بعد احتلال الحوثيين لصنعاء) آخر أيام كانون الثاني/ يناير المنصرم وليدة اللحظة، بل نتيجة لعدة عناصر: تراكم العلاقات السيئة والضبابية بين القوى اليمنية، وسياسة دول التحالف التي تستخدم الداخل اليمني كأوراق ضغط ضد حلفائها كلما لزم الأمر، إضافة إلى تضارب مصالح دول التحالف العسكري نفسها، حيث يبدو أن الإمارات تتجاوز السعودية في تأثيرها كقائد للتحالف، وتعمل لتحقيق أجندات خاصة بها في جنوب اليمن، أو أن الرياض تدفع أبوظبي إلى المقدمة لتحقيق أهداف متفق عليها بينهما مع تبادل للأدوار في علاقة كل منهما مع القوى اليمنية على الأرض، وهي تقتضي وقوف الرياض في الظل مؤقتا وتدخلها كوسيط وليس كطرف في الأوقات الحاسمة. فوجود دولة يمنية قوية مركزية أو فيدرالية لا يخدم الدولتين معاً.

 

في الوقائع

 

بعد تهدئة إعلامية وميدانية بين "المجلس الانتقالي الجنوبي" و"الحكومة الشرعية"، عادت الخلافات إلى الواجهة بقوة إثر اجتماع للمجلس ومعه بعض شخصيات "المقاومة الجنوبية" المؤيدة لانفصال جنوب اليمن. أعطى الاجتماع يوم كانون الثاني /21 يناير أسبوعاً واحداً كمهلة للرئيس هادي لتغيير حكومة أحمد عبيد بن دغر، مهدداً بإعلان الطوارئ والعمل على إسقاط الحكومة التي اتهمها بالفساد ومعاداة الجنوب. إلا أن عشرات القتلى من الطرفين في اشتباكات الأيام الثلاثة سقطوا دون إسقاط الحكومة.. وبذلك خسر المجلس الانتقالي آخر أوراقه، وهي استخدام القوة، دون أن يتجاوز مربعه.

 

التطورات الأخيرة تمثل إحراجاً كبيراً للرياض، هذا إن كان لديها موقف مختلف عن الإمارات، وهو ما رغبت بإظهاره على الأرض بزيارة سفيرها لعدن وتعامله مع الحكومة الرسمية دون "المجلس الانتقالي". لكن بيان دول التحالف دعا لـ"ضبط النفس" من قبل الطرفين، ولم يدن المجلس الانتقالي ولا تهديده للحكومة ومواجهته المسلحة لها، بل تعامل معهما كمتساويين.

 

قبل يوم على انتهاء المهلة، أصدرت وزارة الداخلية قراراً بمنع التجمعات في عدن استباقاً لتوافد متظاهرين مؤيدين للمجلس الانتقالي الذي كان متوقعا في اليوم التالي. وكانت ألوية الحماية الرئاسية الموالية لهادي مستعدة للمواجهة بعد تهديد الانتقالي لها ب"قوات المقاومة الجنوبية" المشكلة من كيانات موالية لشخصيات من قيادة الحراك الجنوبي، وهي لا تمثل قوة واحدة، أو من "الحزام الأمني لعدن" الموالي للإمارات وقيادتها في عدن. وكل هذه التشكيلات المسلحة لا تتبع أي من وزارتي الدفاع أو الداخلية اليمنية.
تشكلت هذه القوات في ظل رعاية إماراتية وصمت حكومي رسمي، مع تصريحات خجولة ومتأخرة عن ضرورة إدماج كل القوات تحت مظلة الشرعية. عيدروس الزبيدي، رئيس المجلس الانتقالي ومحافظ عدن الأسبق الذي أقاله هادي في نيسان / إبريل 2017، وشكل مجلسه كرد فعل على قرار إزاحته، وفعل ذلك بدعم إماراتي كونه مرتبط بأبو ظبي، لديه لواء كامل تحت إمرته. وقوات الأمن الرسمية بعدن تابعة لشلال شائع، مدير الأمن المقرب من الإمارات ومن عيدروس، كما أن مدير أمن لحج لديه قوات مماثلة، ولدى مختار النوبي وأبو اليمامة القياديين في "الحراك الجنوبي" قوات شبيهة.. وكل هذه القوات علاوة على قوات "الحزام الأمني" شاركت في المعركة ضد ألوية الحماية الرئاسية الموالية لهادي بين 28 و30 كانون الثاني / يناير.

 

الامارات

 

تشكيل هذه القوات غير التابعة للسلطات الرسمية كان خللاً كبيرا لم تعالجه سلطات هادي لأن كل مساعيها لأجل ذلك قوبلت بحائط صد إماراتي صلب، فالإمارات شكلت أيضا "قوات نخبة" لمحافظات شبوة وحضرموت والمهرة، موازية لقوات الحزام الأمني في عدن وأبين ولحج. وهذه القوات هي المسيطرة على الأرض عملياً. إلا أن ألوية الحماية الرئاسية التي يقودها إبن الرئيس (ناصر هادي) عملت على الحفاظ على توازن القوى النسبي بعدن، وعلى حماية الحكومة التي عادت إلى المدينة مؤخراً. ولم يوافق هادي على طلبات إماراتية سابقة بإخراج ألويته من عدن، لأن ذلك يعني إخراجه هو نفسه منها وبشكل نهائي، رغم أنه غير قادر على العودة إليها منذ قرابة عام كامل.


اقرأ أيضاً: الإمارات وهادي والوحدة اليمنية


ولأنه لا يوجد مبرر منطقي لإخراج تلك القوات أو لإجراء تغيير حكومي، (الذي يعني خضوع تعيينات هادي لوصاية إماراتية كاملة)، استدعى الأمر اختلاق ذريعة فساد الحكومة وهو واقع لا يختلف عليه اثنان، إلا أنه صدر بصيغة التهديد بالعنف من قبل كيانات غير معترف بها رسمياً، وتطالب باستقلال الجنوب، وفي الوقت نفسه تعلن التزامها التام بتحقيق أهداف دول التحالف كاملة! والسلوك هذا يتناقض كليا مع أهداف التحالف المعلنة والمتمثلة بإعادة الشرعية والقضاء على انقلاب الحوثيين عليها، مع الحفاظ على وحدة واستقرار اليمن.

 

انفجار التناقضات

 

تقع كل سواحل اليمن وموانئها وجزرها الهامة تحت سيطرة الإمارات المطلقة، عدا المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين. واستمرار ذلك يستدعي بقاء "الحكومة الشرعية" خارج اليمن وإلا فالتزامها بتنفيذ رغبات الإمارات. لكنها عادت إلى عدن وأعلنت موازنة سنوية هي الأولى منذ 2014. وتلك بوادر استقرار نسبي يستدعي بدوره سيطرة الحكومة على موانئ وموارد وجزر البلد، والأهم السيطرة على القرار والسلطة على الأرض. وهذا التعارض يؤدي إلى ضرورة سيطرة طرف واحد: فإما الإمارات والتشكيلات العسكرية الموالية لها، وإما الحكومة وألوية الرئاسة الموالية لها.
لا تستطيع الإمارات إعلان موقف واضح من الحكومة فذلك يفقدها شرعية تدخلها في اليمن، ولا تستطيع الحكومة إعلان موقف واضح من الإمارات باعتبارها أبرز دول التحالف الداعم لها (إسمياً) بعد السعودية. وهنا جاء دور الأدوات التنفيذية من الأطراف اليمنية التي تأسست بدعم مالي وسياسي وإعلامي إماراتي غير معلن رسمياً.
التطورات الأخيرة تمثل إحراجا كبيرا للرياض لا يمكنها الصمت أمامها، هذا إن كان لديها موقف مختلف عن الإمارات، وهو ما ترغب بظهوره على الأرض بدعمها للحكومة وزيارة سفيرها لعدن وتعامله مع الحكومة الرسمية دون "المجلس الانتقالي". لكن بيان دول التحالف دعا لضبط النفس من قبل الطرفين ولم يدن المجلس الانتقالي ولا تهديده للحكومة ومواجهته المسلحة لها، بل تعامل مع طرفين متساويين.

 

كان للمعركة أهداف دقيقة لا يمكن تجاوزها، وهي أن تؤدي إلى كسر الحكومة والضغط عليها لإحداث تغييرات تجعل "المجلس الانتقالي" شريكا للسلطات الشرعية بدلا من تعاملها معه ككيان غير معترف به وخارج عن القانون، بل واتهامه بأنه حاول الانقلاب عليها كما فعل الحوثيون بصنعاء في 2015. لكن هذا لم يتحقق حتى الآن.

 

حدثت الاشتباكات على الأرض يوم 28 كانون الثاني / يناير، وسارت الأمور بتوازن نسبي دون تغير كبير في جغرافية السيطرة لأي طرف. لكن توجيهات الحكومة بوقف الاشتباكات بناء على وساطة سعودية في اليوم التالي كانت نقطة تحول لصالح قوات المجلس الانتقالي. فقد انسحبت قوات الحماية الرئاسية من مناطق سيطرتها دون ضمان انسحاب مواز لقوات الانتقالي، بل حدث العكس بسيطرة الأخيرة على مقر اللواء الرابع حماية رئاسية، مع الاقتراب من قصر المعاشيق حيث تقيم الحكومة وقيادة قوات التحالف، وتسريب معلومات عن إجلاء الحكومة من عدن. وهذا أظهر المجلس الانتقالي كطرف أقوى، ومثل ضربة معنوية كبيرة للحكومة ولو مؤقتاً.


اقرأ أيضاً: تحولات العلاقات اليمنية السعودية خلال قرن


انتهت الاشتباكات بدون انتصار واضح وحاسم لأي من الطرفين بعد وساطة أخيرة أدت إلى انسحاب قوات الانتقالي من ألوية الحماية الرئاسية التي سيطرت عليها، وهذه النتيجة لا تبدو مرضية للإمارات التي قالت أنها شاركت في لجنة الوساطة لإعادة الأمور إلى وضعها السابق، ولا ل"المجلس الانتقالي" الذي لم يحصل على أية امتيازات واضحة.

 

دوائر اللعبة وتوازناتها

 

السيطرة الواضحة لحلفاء الإمارات تعني إسقاط شرعية الرئيس هادي كلياً، وهذا يتعارض مع أهداف التحالف أو يفضح أجندته غير المعلنة بشكل أسرع من المطلوب. كما أن سيطرة الحكومة تؤدي لانهيار معنويات قوات "الانتقالي" المبنية على إقامة دولة مستقلة للجنوب برئاسته، وربما يؤدي الى عدم تحمسها للعمل مع الإمارات كالسابق. لهذا كان للمعركة أهداف دقيقة لا يمكن تجاوزها، تؤدي إلى كسر الحكومة والضغط لإحداث تغييرات تجعل المجلس الانتقالي شريكا للسلطات الشرعية بدلا من تعاملها معه ككيان غير معترف به وخارج عن القانون، بل واتهامه بأنه حاول الانقلاب عليها كما فعل الحوثيون بصنعاء في 2015، لكن هذا لم يتحقق حتى الآن.
تشكيل قوات جنوبية متعددة الولاءات والانتماءات يساعد على تمكينها من السيطرة على الأرض بالتقسيط، وبهذا تظل في حالة احتياج دائم للدعم الإماراتي، وقد تتحول إلى قوة سياسية معترف بها لتمثيل الجنوب والعمل كشريك يفرض إرادته على هادي وحكومته. لكنها غير موحدة القيادة والأهداف، وهذا يسهل توجيه الإمارات لها وتنسيق خطواتها، خاصة ودعم الأخيرة جوهري لاستمرارها.


اقرأ أيضاً: اليمن لم تصل إلى القعر بعد


خطاب الحكومة بعد وقف الاشتباكات ظل قوياً ولم تظهر فيه تنازلاً سياسياً ل"الانتقالي"، إلا أن شكرها للسعودية دون الإمارات قال الكثير. وهي حققت انتصاراً معنوياً بعدم مغادرتها عدن رغم التسريبات التي أرادت إظهارها ضعيفة ومهزومة. وعلى الرغم من ذلك فهي لن تتمكن من العمل على الأرض دون تنسيق مع قوات المجلس الانتقالي، وهذه نقطة ضعف واضحة.
لا تتحمل الإمارات كلفة انفصال الجنوب، ولا تمتلك القوات الكافية للسيطرة عليه، لكنها ترغب بالبقاء على السواحل اليمنية وباب المندب كقوة إقليمية. وبقاء الدولة اليمنية ضعيفة ومهزوزة ومهددة من قوى خارجة عن سلطتها يحقق هذه الرغبة، ولا يؤدي إلى تضارب واضح مع السعودية. وقد تعمل وفق هذه المحددات في جنوب اليمن، فالرياض تهتم حالياً بشمال اليمن أكثر لأنه المهدد المباشر لحدودها، مع تواجد قوات سعودية في المهرة، التي تحاذي سلطنة عُمان، ودخول قوات سلفية موالية لها إلى عدن عقب الأحداث الأخيرة.

 

بين ينايرين في ثلاثة عقود

 

إن انتقال الصراع في الجنوب من شمالي ــ جنوبي إلى جنوبي ــ جنوبي يعقد مشهد الجنوب أكثر، ويعرض القوى الجنوبية لامتحانات صعبة قد تسقط فيها وتعطي انطباعا دولياً بأنها غير مؤهلة لإدارة دولة مستقلة تطالب بها في الوقت الراهن. وأحداث عدن الأخيرة وسعت الشرخ بين هذه القوى، وأعادت إلى الأذهان أحدث كانون الثاني / يناير 1986 التي جرت بين رفاق اليسار الماركسي (الذي كان يحكم اليمن الجنوبي)، ولا زالت آثارها ظاهرة حتى اليوم. فالتوزيع المناطقي لقوى الصراع لم يتغير بين يناير 1986 ويناير 2018!


اقرأ ايضاً: شماليون في عدن


خروج مناطق جنوبية كثيرة عن سيطرة الحكومة الشرعية لم يساعد على إنفصال الجنوب، ولم يبقِ على دولة الوحدة، لكنه أضعف حضور الدولة وفتح المجال لظهور المشاريع المحلية الجنوبية في كل من عدن وحضرموت تحديداً. والأخيرة مهيأة أكثر لمشروعها السياسي، لأنها مستقرة وموحدة وتمتلك ثروات طبيعية، وترتبط بالسعودية بشكل تقليدي على الرغم من وجود "قوات نخبة حضرمية" أنشأتها الإمارات. وإذا استمرت سياسات الإمارات في الجنوب بإضعاف الشرعية وتصعيد قوى محلية بديلة، فإن الاستقرار لن يسود جنوباً لتعدد رؤوسه وتصارعها تاريخيا، ولعدم قبول السعودية بالخروج من اللعبة وترك الساحة للإمارات كلياً، خاصة مع تضرر سلطنة عُمان من تواجد الإمارات على حدودها الشرقية بحكم خلافات البلدين.

 

خلاصة

 

على الرغم من عدم وضوح المشهد بعد معركة "يناير الثانية" في عدن، إلا أن تفكيك الجنوب قائم، وإضعاف الشرعية اليمنية تحول إلى هدف بذاته لتستمر الحالة السائلة أطول وقت ممكن، مما يساعد على إعادة تشكيل قوى وجغرافيا الجنوب دون خسائر كبيرة، بل هي عملية إدارة صراع بين قوى يمكن إدارتها وتوجيهها لعدم وجود قوة كبيرة فيها يمكن أن تخضع القوى الأخرى. فالإمارات تعمل على نقل الحرب إلى الشمال لمواجهة الحوثيين دون السماح بتحقيق انتصارات مفصلية عليهم توظف لصالح "حزب الإصلاح" وهادي، وتعمل على إعداد قوات شمالية موازية للشرعية و"الإصلاح" لهذا الغرض عبر دعم طارق صالح إبن شقيقعلي عبد الله صالح.. وبهذا تتعدد قوى الشمال عسكرياً وسياسياً فتتصارع فيما بينها، وتنشغل السعودية بحماية حدودها، وتتفرغ الإمارات لجني أرباح الحرب جنوباً.. هذا على الأقل ما تقدمه مؤشرات اللحظة الراهنة في اليمن.


اقرأ أيضاً: اليمن.. العبث بأفظع صوره   


مقالات من الإمارات

"الزامل"، ورقصة الحرب في اليمن

مثّلت معركة غزّة الجارية، التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين أول2023، مرحلةً جديدة في مسيرة الشعر الشعبي الحماسي أو "الزامل"، إذ تجاوز الفضاء المحلي باستيعابه مضامينها، ومواكبته لأحداثها، بدءاً من...

للكاتب نفسه

اليمن: ارتداد الدولة والمجتمع

مؤشرات ومظاهر انهيار الدول التي تحدث عنها ابن خلدون قبل قرون طويلة، يمكن تتبعها بوضوح تام في اليمن، من التعصب والنكوص إلى القبيلة، وصعود الغثاء وهبوط ما يمكن الاعتماد عليه.