العراق 2018: ازمات الافراط بالتفاؤل (2)

"التعويم الديمقراطي" هو صورة عن تفكك الوعي السياسي في العراق، وتبدد فكرة وجود عقد اجتماعي فيه، علاوة على التدمير الممنهج لـ"الحرية السياسية" في ظل فوضى الاستقطاب الطائفي والزبائني.
2018-01-22

صفاء خلف

صحافي استقصائي، وباحث من العراق


شارك
أحمد السوداني - العراق

حصيلةٌ لا بد من استحضارها والتدقيق فيها لتعيين الأرض التي تتموضع عليها الخطط والطموحات. بعد جزء أول عن الاشكاليات المرتبطة بأعداد الضحايا وأوضاع النازحين هنا الجزء الثاني عن المال والسياسة!

 

موازنة الأزمات

 

جاءت موازنة العام 2018 - الذي يفترض انه عام "الاستقرار" والبدء بتنفيذ خطة الإعمار وفقاً لإعلان رئيس الحكومة - مُعقمة وأدنى من سقف الموازنات السابقة: 92 مليار دولار، بنسبة عجز تصل الى 19 مليار دولار ستعوّض على الأغلب عبر 19 قرضاُ اجنبياً، وهي أكبر نسبة قروض في تاريخ العراق لسد عجز مالي. لم يخصص لـ"الاعمار ومشاريع التنمية" من أصل الموازنة سوى قرابة 400 مليون دولار (400 مليار دينار فقط). فيما تقلصت موازنة إقليم كردستان قياسياً وبنسبة انخفاض كبيرة، لتكون حصتها 12.67 في المئة، بعد ان تمتعت بـ17 في المئة طيلة عقد مضى. بالتالي فإن "الاستقرار" الذي تريده الحكومة سيكون متعثراً إزاء تحديات ومشكلات متفجرة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، مع ارتفاع نسب البطالة (والانتحار!) وإيقاف التوظيفات الحكومية وبطء نمو القطاع الخاص واستشراء الفساد.
تبدو المؤشرات الاقتصادية للعراق ضعيفة ومقلقة. ووفقاً للبنك الدولي، فإن اجمالي الناتج المحلي يبلغ 171.5 مليار دولار (2016)، وهذا يشير الى أن الاقتصاد العراقي يعتمد بنحو كبير جداً على الموازنة الحكومية في توفير السيولة والخدمات وتنشيط السوق عبر المعاشات ومشاريع التنمية وعقود الاستيراد، ما يجعله يُسجل نمواً بنسبة 11 في المئة سنوياً مدفوعا بزيادة الإنتاج النفطي، وارتفاع مخزونات الذهب لدى البنك المركزي لمستوى 89.9 طن (وفقاً لمجلس الذهب العالمي) على عكس احتياطيات النقد الأجنبي الآخذة بالتناقص (48 مليار دولار) فيما يبلغ الدين العام الداخلي والخارجي نحو 111.725 مليار دولار. وتعتمد حكومة العبادي سياسات الاستدانة المستمرة، والتي ارتفع منسوبها منذ العام 2014 بإفراط، بعد ان كانت نحو 32.5 مليار دولار، وفقاً لكشف وزارة المالية العراقية.


اقرأ أيضاً: عراق الـ 56


وتواجه الحكومة، سواء الحالية أو المرتقبة مع انتخابات أيار/ مايو المقبل، معدل بطالة بنسبة 16 في المئة من حجم السكان البالغ عددهم نحو 37 مليون نسمة، وتضخم يتراوح عند 1.1 في المئة نتيجة ارتفاع الكتلة النقدية المتداولة شهرياً بحدها الأعلى لنحو 90 مليار دينار. لكن نسبة الفقر ما زالت عند مستويات مخيفة: 22.5 في المئة على مستوى الوطني ككل، وقد تزيد في المحافظات الوسطى والجنوبية إثر توقف الموسم الزراعي الشتوي 2018 بسبب شح المياه وعودة المقاتلين من الجبهات ودخول خريجين جدد لسوق العمل. وهي تصل في المحافظات التي تأثرت بعمليات "داعش" إلى 41.2 في المئة... مع بقاء العراق ضمن مستوى البلدان الاكثر فساداً، عند المرتبة 166 عالمياً.

 

السياسة، ومثالها الانتخابات المقبلة

 

على مواقع التواصل الاجتماعي، أعرب العراقيون عن تفاؤلهم بعامٍ جديد، وفي الساحات والشوارع كانت لحظة الاحتفال بمقدم 2018 تعبر عن فداحة الألم الذي عاشوه طيلة أربعة اعوام ماضية عقب سقوط الموصل والمجازر التي احدثها التنظيم الارهابي. كانت البلاد تنزف دماً وشباباً وأمهات باكيات واطفال يتامى ونازحون في خيام أطراف المدن.
غرق العراق بدوامة سحيقة من السواد، فيما كانت ثلث مدنه مستباحة، والخزينة خاوية مع بدء حكومة تسوية عراقية جديدة بالعمل (2014). وبرزت خلال الاعوام الاربعة تحديات فادحة تتعلق بالانقسام السياسي والاجتماعي والضعف الاقتصادي.
بروز "داعش" تطلب قوة موازية تُرصن الجبهة الداخلية المنهارة، لكنها ايضاً تمثل قلقاً مستقبلياً ازاء "ترسيخ الدولة". فالجماعات المسلحة العراقية المتجمعة باطار "الحشد الشعبي" والتي تمثل أطيافاً من توجهات بالغة التعقيد والتنافر، من فصائل مسلحة عقدية مرتبطة بإيران وبـ"ولاية الفقيه"، وفصائل مستحدثة مرتبطة بـ"مرجعية النجف" التي لا تقر بولاية الفقيه، واخرى عشائرية سُنية، وفصائل التطعيم العرقي والمحلي من جماعات تركمانية وآيزيدية ومسيحية... هذا الاطار المُدمج من ولاءات سياسية – عقدية، هو أيضاً يمثل استجابة لثقافة الدولة الغائبة منذ التأسيس، وتمثيل عملي لاضعاف الدولة في حقبة المالكي واستمرار النهج ذاته في عهد العبادي.
محاولة افراغ "الحشد الشعبي" – الكيان الأمني والعسكري الموازي – من ضرورته المرحلية المُلحة، تبدو كأنها قفزة الى حفرة الرمال المتحركة القادرة على ابتلاع الاستقرار، لكنها ايضاً تمثل الحافة الهشة لانزلاق الدولة الى الفوضى التي تمثلها تلك الحفرة. انها العلة والحل معاً.

 

ما زالت نسبة الفقر عند مستويات مخيفة: 22.5 في المئة على مستوى الوطني ككل، وقد تزيد في المحافظات الوسطى والجنوبية إثر توقف الموسم الزراعي الشتوي 2018 بسبب شح المياه وعودة المقاتلين من الجبهات ودخول خريجين جدد لسوق العمل. وهي تصل في المحافظات التي تأثرت بعمليات "داعش" إلى 41.2 في المئة.. مع بقاء العراق ضمن مستوى البلدان الاكثر فساداً، عند المرتبة 166 عالمياً.

 

عقب إعلان انتهاء العمليات العسكرية للقضاء على القوة الرئيسية لـ"داعش" (في 10 كانون الاول/ ديسمبر 2017)، كانت المخاوف تشير الى ان القوة العسكرية الفصائلية العائدة الى الساحة المدنية، ستعزز تموضعها السياسي بالمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة (12 ايار/ مايو 2018). ومع السماح لها بالمشاركة في الانتخابات عبر التفاف سياسي معتاد على القوانين الانتخابية، تهاوت الفرضيات عن قدرة الدولة على منع الفصائل من التحول الى كيانات سياسية. فعلى مدى أشهر، كان رئيس الحكومة "يكرر مراراً" أن تلك الفصائل – الحشد الشعبي – لن تدخل السباق الانتخابي، لكنه مع أول هبة ريح انتخابية تراجع عن دعواته، واعتبر أن تلك الفصائل المسلحة وقادتها "هم ساسة تطوعوا لمحاربة داعش" وانهم "ليسوا حشداً".. ما مثّل انقلاباً على برنامجه الذي ادعى فيه حصر السلاح بيد الدولة وعدم اشراك المسلحين بالعمل السياسي. وهو، عبر اعلان تحالفٍ غريب مع اللائحة الانتخابية لقوى الحشد ("الفتح المبين") التي يرأسها هادي العامري برعاية إقليمية، استكمل انقلابه متحولاً من رئيس حكومة "يكافح الفساد" الى سياسي متشبث بالسلطة ويُبرر السلاح غير المنزوع والتدخل الفصائلي وتأمين مظلة حماية للفساد.
لكن سُرعان انفرط عقد هذا التحالف خلال ساعات. انهيار تحالف العبادي – الحشد، كشف عن مكامن خلل خطيرة في جهاز الدولة، منها ان رئيس الوزراء الذي يُصر على "تطبيق القوانين"، حَوّل مفوضية الانتخابات الى كيان جانبي ضمن مكتبه، ولم يلتزم بالقرارات الصادرة منها بما يخص منع الفصائل المسلحة من المشاركة، ولم يحترم غلق تسجيل التحالفات الانتخابية، واعتبر أن لائحته الانتخابية "النصر والاصلاح"، المتحولة الى "نصر العراق"، هي فوق القرارات التي تلتزم بها غالبية القوى السياسية.


اقرأ أيضاً: العراق.. التجربة الحزبية "الرثة"


باتت أبرز فصائل الحشد الشعبي مشاركة بالانتخابات، وأحزابها مسجلة رسمياً في "دائرة الاحزاب السياسية"، رغم المنع الدستوري والقانوني. وهي نظّمت نفسها في تحالف "الفتح المبين" بزعامة "منظمة بدر" التي تؤمن بسلطة ولاية الفقيه، بعد فض "الزواج الكاثوليكي" مع المالكي. ويمكنها أن تكون الخصم الصعب للعبادي انتخابياً، أو قد تسعى الى حرمانه من الولاية الثانية.
وعملياً، إن هذه المعادلة الاستفزازية نافذة لجهة أن أغلب التنظيمات الفصائلية المسلحة باتت مسجلة لدى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وفقاً لقانون الاحزاب السياسية رقم 36 لسنة 2015، بأشهر طويلة قبل اعتماد صيغة "نزع السلاح = المشاركة الانتخابية". وفعلياً أعلنت ذلك "منظمة بدر" (هادي العامري - 12 لواء)، و"عصائب أهل الحق" (قيس الخزعلي ـ- 4 ألوية)، و"سرايا السلام" (مقتدى الصدر - 6 الوية، وهي أعلنت التجميد بشروط، والابقاء على قوة سامراء)، و"سرايا الجهاد" (حسن الساري  - لواءان على الاقل)، و"سرايا عاشوراء" (المجلس الاعلى - لواء على الاقل)، أي ما نسبته 4 في المئة فقط من الكتلة الشيعية المسلحة الداخلة ضمن الحشد الشعبي، والممتدة على 67 فصيلاً و122 ألف مقاتل (احتسبت لهم ميزانية رواتب، و100 مليون دولار لغرض التسليح ضمن موازنة 2018).. ما يؤكد ان الجماعات المسلحة الشيعية غير جادة بنزع سلاحها واحترام الدولة العراقية، وأنها تتعامل ببراغماتية فجّة ولغايات انتخابية وسياسية مع احتفاظها بخيار السلاح كضامن سياسي لها.

 

وفقاً لـ"مفوضية الانتخابات"، فإن عدد التحالفات بلغ نحو 54 تحالفاً، فيما المصادق عليه رسمياً نحو 27 تحالفاً انتخابياً ضمت 143 حزباً سياسيا من أصل 204 أحزاب صورية تمثل واجهات القوى التقليدية أو الطامحين الجدد الى السلطة، ومن دون قاعدة حزبية حقيقية وبرنامج سياسي وخطة خدمية وتصورات لمستقبل الدولة العراقية، فيما يبلغ عدد الناخبين المسجلين نحو 24 مليون ناخب قام 44 في المئة منهم فقط بتحديث بياناتهم.

 

وهناك من يُشير الى أن ان غالبية الفصائل بداهة باتت ملتزمة باطارية الحشد الشعبي وفقاً لقانونه، وتابعة بالعلاقة والأمر الى القائد العام للقوات المسلحة بحكم المنصب، وهو رئيس الحكومة. لكن القيادي التركماني في حزب الدعوة والنائب عن ائتلاف المالكي، عباس البياتي، قال إن "فك الارتباط بين المدني والعسكري، أمر ليس بالسهل وستبقى الولاءات والعلاقات لكن يجب ان يبقى العمل عليه ليبقى الحشد جهة عسكرية أمنية مستقلة"، فيما تعوّل أوساط مدنية وسياسية على اعلان النجف انتهاء صلاحية "فتوى الجهاد الكفائي" لسحب شرعية السلاح الفصائلي ورفع الغطاء عن المجموعات الحزبية المسلحة المنتشرة في المدن المستقرة والتي تهدد فرض القانون، الا ان النجف حتى بعد اندحار الجماعة الارهابية، ظل موقفها ان "هذه الفتوى ما تزال نافذة لاستمرار موجبها"، ما منح الاحزاب الفصائلية المسلحة زخماً سياسياً وسلطوياً إزاء محاولات تقنين السلاح ونزعه، وهو ما سيؤثر حتماً على نتائج الانتخابات المقبلة وخيارات الناخبين.

 

التعويم الديمقراطي

 

لم تتشكل أحزاب بالمفهوم التنظيمي التقليدي أو البناءات المعلومة لتشكيل مجموعات العمل السياسي في مرحلة ما بعد 2003، بل ظلت تلك التجارب سطحية وتحاكي البرنامج الافتراضي لـ"الديمقراطية" المنتقاة كحائط صدّ لنشوء نظام "ديكتاتوري" جديد في ظل وجود "أغلبية" تفكر بـ"حكم الأغلبية" و"أقلية" تشتغل على "شراكة" مع "الأغلبية الحاكمة" ذاتها. إن هذا "التعويم الديمقراطي" هو صورة عن تفكك الوعي السياسي في العراق، وتبدد فكرة وجود عقد اجتماعي فيه، علاوة على التدمير الممنهج لـ"الحرية السياسية" في ظل فوضى الاستقطاب الطائفي والزبائني.

التجربة الانتخابية المُقبلة ستشهد صراعاً بين البُنى الحزبية التقليدية التي هيمنت على المشهد منذ انتخابات العام 2005، وبين فصائل الحشد الشعبي، المُنافس الثوري الذي خرج من خاصرتها بوصفه "محرراً" و"مقاوماً" و"شعبياً" ويُنظر اليه بالاحترام المشوب بالتقديس، وبين القوة الصدرية الجديدة المؤتلفة مع "التيار المدني" بشقه الشيوعي، بعد ان قدمه الاخير الى الناخب المدني كحليف مقبول عبر تحالف "سائرون".
ووفقاً للاوراق الرسمية لـ"مفوضية الانتخابات" فإن عدد التحالفات بلغ نحو 54 تحالفاً، فيما المصادق عليه رسمياً نحو 27 تحالفاً انتخابياً ضمت 143 حزباً سياسيا من أصل 204 احزاب صورية تمثل واجهات القوى التقليدية أو الطامحين الجدد الى السلطة، دون قاعدة حزبية حقيقية وبرنامج سياسي وخطة خدمية وتصورات لمستقبل الدولة العراقية، فيما يبلغ عدد الناخبين المسجلين نحو 24 مليون ناخب قام 44 في المئة منهم فقط بتحديث بياناتهم.
ويظل التوصيف الأدق لتلك الأحزاب والحركات والتيارات هو أنها "أحزاب صناديق" تلتئم عند ضرورة الاستحقاق الانتخابي، وتنفرط بانتهاء الموسم، وهكذا...


اقرأ أيضاً: العراق 2017.. آثار الحروب


مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

تغيّر المُناخ وأزمة المياه في العراق: مؤشرات الهشاشة وحِدَّة الأثر البيئي

صفاء خلف 2022-10-02

يقع العراق كأكثر منطقة تعاني ضعفاً وهشاشة بيئية في المرتبة 129 من أصل 181 دولة، متموضعاً في قلب التأثيرات العنيفة للتطرف المناخي والنُدّرة المُطلقة للمياه، التي ستؤدي في العقدين المقبلين...