سرقة

كانت عدن تغلي وتلتهم كل يوم وجبة أكبر من الدماء واللحم البشري، بينما كنا نموت من الجوع. قُسّمت المدينة، ولم نعرف من يحاصر من.

2018-01-18

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
نور المصري - سوريا

فقدنا السقيفة التي كنا ننام عليها، لم تكن هناك اشتباكات في حارتنا، لكن الرصاص كان في كل مكان وخفنا أن تنهال علينا السقيفة بينما نحن نائمون، وكما فقدنا السقيفة فقدنا العمل أيضاً. لن يبني أحد بيتاً في الحرب، اختفى المقاولون ولم يدفعوا لنا أجرة آخر يومين، كانت ملابس العمل يابسة في إسمنتها، وتوقف الجميع عن الحديث في أي شيء غير التحليلات لما سيحدث وما سيكون، وغالب الخمسيني طلب منا أن نضمه إلى عالم فيسبوك حين عرف أننا نستقي تحليلاتنا من هناك. لم تكن هناك كهرباء، لكنا تدبرنا ذلك بالسويعات القليلة التي تُفاجِئنا بها.
تكومنا في نزل صغير. كنا ثمانية، في غرفة ستة في ستة أمتار، نذوب في الليل من الحر ولا نستطيع فتح الباب مخافة أن يمر مقاتلي الشوارع فيعتقدون أننا ثكنة معادية. كان أزيز الرصاص وصفير الطائرات هو دليلنا إلى الحياة، نتسلل في الصباح لنستكشف إن كان هناك مخبز يعمل، ونشتري الكثير، الكثير جدا. كان رعب أن نموت جوعا أكبر من رعب أن نموت بنيران الرصاص أو الصواريخ الطائشة. نتكوم على أنفسنا في الليل شبه عراة، ولا يغمض لنا جفن بسبب الحر، إلا إن منحتنا الكهرباء ساعتين من هواء المروحة المعلقة في السقف.
أتكوم حول نفسي فزعاً، وجهي قريب من قدمي عبد العزيز. كان عبد العزيز نحيلاً كالعصا، وكان لديه ذلك الصوت الغريب حين ينام، مثل النشيج الأخير لمحتضر. يرعبني منامه كما أكره صحوه. في صحوه كان دوماً مدعاة للبؤس لكنه بغيض ولا يحتمل. كنت أقضي الليل أفكر كيف يستطيع أن ينام في هذا الحر وكيف ينشج نشيجه الميت دون أن يموت فعلاً، أما البقية فقد تكوموا على هواتفهم الناقلة وفيما بعد منتصف الليل، حين يشتد أوار المعارك، كنا نصمت جميعاً، باستثناء نشيج عبد العزيز. كانوا يقولون أنه ماذا لو متنا، الموت أهون من هذه الحياة. وتكبر رائحة العفن في الغرفة فتأكلنا جميعاً ولا يتذمر أحد، لم تكن هناك من نسمة واحدة، والنيران القريبة من البحر تزيد الهواء سخونة، وهناك في القريب كانت مولدات الكهرباء تعمل، وأصواتها تبدو كما لو كانت تنتحر بالتدريج. لم تكن لدينا سوى فكرة من أين سنأتي بالمال إن عشنا، تفقدنا صوابنا وترمي بنا إلى الصمت المشابه تماماً للنشيج.

 

تكومنا في نزل صغير. كنا ثمانية، في غرفة ستة في ستة أمتار، نذوب في الليل من الحر ولا نستطيع فتح الباب مخافة أن يمر مقاتلي الشوارع فيعتقدون أننا ثكنة معادية..

 

بعد أسابيع من الحرب والحصار، كنا أنفقنا آخر ما نمتلكه من النقود، لو أن أحداً تبقى لديه فهو بالتأكيد لن يشاركه الآخرين. لم يمت أحد، وتبقت لدي ألف ريال خبأتها جيداً في ثياب العمل القذرة، كانت الأخبار سيئة للغاية، وصفوا لنا كيف أن الكلاب تتغذى على الجثث في منطقة دار سعد، وكيف أن عويل النساء يشق أرجاء المدينة في الليل ولا يعرف أحد سر العويل. أخبرونا أن الحرب لا تنتهي وأن الرؤوس مجزوزة في حفرة كبيرة قرب الشيخ عثمان، وأن الصيادين دُفنوا في البحر، وأن الطائرات قصفت مصانع الغلال ففاض الطحين للبحر بينما لم يحاول أحد أن يجترف كيلو واحد مخافة أن يُعجن هو في البحر بسبب القصف المجنون. كانت عدن تغلي وتلتهم كل يوم وجبة أكبر من الدماء واللحم البشري، بينما كنا نموت من الجوع، قسمت المدينة، ولم نعرف من يحاصر من. كنا في المنصورة نعتقد أن المعلا كوكب آخر من هول ما نسمع عنه، ثم فجأة أخبرونا أنه برغم أن الحوثيين يحاصرون المعلا، إلا أنهم لا يمانعون من عودة الفارين بعد أن دمروها تماماً.
كنا جوعى، ولم يكن أحدنا واثقاً إن كان يريد فعلاً أن يحيا، كنا كل يوم نخوض الجدل الذي لا ينتهي حول من الذي سيذهب للجبهة للقتال، في الأخير لم يذهب أحد. كنا نظل كالفئران ندور من جحر لجحر، حتى قررنا أخيراً أن نشترك في لعبة الحياة والموت. قال يومها غالب، أنه ذات مرة كان يمشي في شارع صغير في المعلا، ورأى كومة نساء وشابات صغيرات يمشين محملات بأطنان الذهب. كان غالب يصف الذهب كأنه يتحسسه بيديه، أخبرناه أن لا أحد يترك ذهباً وراءه، وهو أخف الأشياء. قال أننا أغبياء، وأن المقصود ليس الذهب ولكن ما سيتركه الناس وسيكون بإمكاننا أن نستغله حين تنتهي الحرب. كان غالب يعرف عدن خطوة خطوة، لم يعرف جغرافيا غيرها، قال أن بإستطاعته أن يصل إلى المعلا مغمضاً عينيه، وأخذني معه في النهار الأول، لم نكن معصوبي العينين، كانت أحشائي عبارة عن أخاديد من الرعب والتوقع، تصرف غالب كلص حقيقي، بعينيه اللتان تشبهان عيني ثعبان، قال أننا يجب أن نعرف ما الذي سنذهب إليه في الليل.


اقرأ أيضاً: اللحظة الأخيرة قبل الصاروخ


عبرنا الشوارع، ملتصقين بالجدارن، بدت المدينة مغتَصبة، مررنا بجثث مرمية بجانب صناديق الزبالة الضخمة، كانوا مراهقين. نَهرني غالب، لا تنظر، سيزورونك في الليل، حذرني. كنت أراني ميتا هناك بجنبهم، ولم أخش مجيئهم في الليل بقدر ما خفت من رعب نفسي على نفسي ذاتها. تجمعت الغربان على السطوح وفوق الشجيرات القليلة. كان منظرها مخيفاً، رائحة خانقة تعبئ الجو الملتهب، والبيوت التي تعرضت للقصف ما زال الدخان يتصاعد منها " بسبب السجاد الذي يفرشونه"، شرح لي غالب. ولم أكن أفكر فيها، لكني أردفت أنها الجلود أيضاً، ولم يعرني هو أي إهتمام، كان يعرف أين سيذهب، اعتقدت أننا سنظل نراقب البيوت، لكن عرفت بعدها أن هناك بيت وحيد كان غالب متجه إليه وكان في ذهنه منذ البداية. كانت عمارة من ثلاثة طوابق، تبدو عليها الفخامة من الخارج، وعلى البوابة الحديدية السوداء لوحة مستطيلة مكتوب عليها: "منزل القبطان كريم نور الدين"، مررنا به دون أن نتوقف ثم في ناصية الشارع، وقف غالب وأمعن النظر، ثم أمرني بأن أتمدد تحت الشجرة كما يفعل الجائعين، افترشنا الأرض بينما ظل يراقب البيت. ظللنا هناك لساعات في الحر المهلك، ولم ينتبه لوجودنا أحد. كان المكان مقفراً، مرت سيارات مهرولة، بينما كانت دبابة الحوثيين تقف في الشارع الخلفي بعيدة عن أنظارنا.

 

كانت الكلاب تتغذى على الجثث في منطقة دار سعد، وكان عويل النساء يشق أرجاء المدينة في الليل..

 

شرح لي غالب أن هذا رجل من أغنى الرجال، وأن غالب عمل لديه حمالاً قبل عقد من الزمن، كان غالب يعرف كل شيء، وآمنت أنه قد حاول سرقته من قبل، وأنه سيسرقه هذه المرة بدون فشل. كان غالب يكره ذلك الرجل، قال أن هذه أملاكه وأنه كان يؤجر الطابقين العلويين، لكن يبدو أن الجميع قد فر، " لديه إمراة متوحشة وفتيات أكثر توحشاً"، كان يتحدث عنه باستمرار، ولم أسأله قط، كنت أعرف كل شيء، ولم أر أي جدوى من نقاشه. كان غالب سيسرق الرجل ولو اضطر فسوف يقتله ويغتصب فتياته، وسأقف هناك متفرجا آملاً بأن أحظى بجرام واحد من الذهب يطعمني في المرحلة الآتية، كنا ننتظر غروب الشمس والبحر يهدر غير بعيد. وفي الميناء ترنحت السفن وحيدة، فكرت بأنه كان قبطاناً لواحدة من تلك السفن وأنها ستصبح مهجورة للأبد بدونه. بحثت عن الطحين المتدفق في البحر لكني لم أجده، كان البحر قد خبأه في أحشائه وعاد نظيفاً من جديد.
حلقت طائرة، كنا في الشارع، والسماء صافية، وبدت الطائرة واضحة تماماً، قريبة جدا، فتاكة بشكل مرعب، " قطعة حديد ونار" لخصها غالب. بالنسبة لي كانت أكثر من ذلك بكثير لكني لم أستطع وصفها حتى لنفسي. ابتعدت الطائرة، وصليت ألا تقصف، "ستقصف في تعز" قال غالب. كان يرعبني بقراءة أفكاري، لم يكن أحمقاً، كان شخصاً ضارياً وخبيثاً ولم يثق به أحد. كنت مدفوعا بقوة غامضة وأملت أن أجني بطولة أمام من كانوا معنا في النزل. ولو مت، أخبرتهم ألا يخبروا أهلي أني كنت ذاهباً لأنهب المنازل. أخبروهم أني كنت أبحث عن عمل،. بالطبع لن يخبروهم هذا، وسينعتوني باللص أمام كل من عرفتهم يوماً، لكني ميت ولن أهتم، ولا أهلي أيضاً، كان لدي يقين بأني سأموت وسيخبر عني غالب النكات بعد موتي واصفاً إياي بالجبان، تمنيت أن يقتل غالب قبل أن نسرق البيت، لكنه لم يقتل ولم أمت حتى اللحظة.


اقرأ أيضاً: بريد مؤجّل لأمي


تدبر غالب كل شيء، وبعد ليلتين فقط كانت هناك سيارة نقل في الأسفل. في الليلة الأولى وقفت كالمأخوذ في شقة القبطان، لم أعرف أبداً أن هناك منازل كذلك المنزل، كانت المرايات في كل مكان، وخشب الأثاث يلتمع كأنه أشتري بالأمس، وغرفة نوم الزوجين هائلة وتشي بالقدسية، وأربع غرف أخرى، كان غالب يتمشى كأنه عاش هناك حياته. كنا لصوص، وجعله ذلك مُثاراً راضياً. قال أننا سنقتسم الأشياء مع مالك سيارة النقل ومن سيأتي من الشباب لمساعدتنا. تحول إلى قائد، كان يعطي الأوامر بينما يصلح الحزام على  فوطته المهترئة، أصبحت أبغض الرجل حتى لأكاد أقتله، وتخيلت نفسي عشرات المرات أقتله وأرمي بجثته بجانب صناديق القمامة الضخمة، وربما كان يقرأ هذا.
جمعنا كل ما باستطاعتنا بيعه، والتقطنا صور للأثاث كي نعرضه على محلات الأدوات المستخدمة. كانت هذه الطريقة الوحيدة التي سنحصل فيها على المال بسرعة. رمينا الملابس التي كانت في الخزانات أرضاً وارتدينا ملابس القبطان، جميعنا ارتدى ملابس القبطان، كانت ثياب النساء جميلة وزاهية وجديدة، ولديهن الكثير من الأشياء. وكفكرة أخيرة مهينة، طلب مني غالب أن أجمع ملابس النساء في أكياس القمامة الضخمة، لأننا سنبيعها أيضا لمحلات الملابس المستخدمة. كنت أكرهه بدقة وبتركيز واع، ابتدأت بغرفة إحدى الفتيات، كانت ملابسها منثورة على الأرض، نثرتها بيديّ، وسأجمعها أيضا. جلست القرفصاء بجانب تل الملابس، رائحة جميلة جداً، رائحة الأغنياء.. هكذا كنت أشتم الفتيات في "مول" عدن، أقترب كثيراً لأحظى بهذه الرائحة. دفنت وجهي في التلة، وتساءلتً كيف كانت هذه الفتاة، وتملكتها في خيالي، ودعوت ألا تكون قد قُتلت. سأبيع هذه الملابس بنفسي وسأبقي لأخواتي منها، كنت أرميها بإهمال في الكيس الكبير، وأحياناً أقٌبّل الملابس الصغيرة. التقطت بلوزة خضراء اللون، مزهرة بزهور بيضاء باهتة، قماشها قطني، وعلى أطرفها دانتيل أبيض ناعم، قبلتها ثم شممتها طويلاً، وكنت أحس أن كل هذا جميل جداً ولا علاقة له بكراهيتي لغالب ولا بالسرقة ولا بالرجال القذرين الذين يجولون في الشقة ويخططون للرحيل بالخزانات اللامعة للشيخ عثمان وبيعها هناك واقتسام مالها، كنت أشعر برضا مريض بينما أعبث بملابس المراهقة التي لن أعرف كيف هي ولا أين هي.


إقرأ أيضاً: في قرية من جبال اليمن.. مزاريب الذكريات


مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...