في هذا الشهر، كانون الثاني / يناير، سيحتفل أهالي بلدة "جمنة" (محافظة "قبلي"، 600 كم جنوب العاصمة تونس) بالذكرى السابعة لتحرر بلادهم من الديكتاتورية و"تحرير" واحتهم بعد قرن من الاستلاب متعدد الأشكال.
واحة جمنة الصغيرة هي واحدة من نقاط الضوء والأمل الكبيرة في تونس "الانتقال الديمقراطي". تجربة اقتصاد تضامني صمدت على الرغم من أنّ الدولة وصناع القرار إعتبروها خطراً داهماً وأعدّوا ما استطاعوا من قوّة لوأدها. قبل سبع سنوات، سيطر الأهالي على هذه الأرض "الميري"، وحولوها من شبه "إقطاع" الى شبه ضيعة أشتراكية. الذين يحلمون باقتصاد عادل ونمط إنتاج إنساني فرحوا لثبات هذه التجربة. لكن هذه النشوة لا يجب أن تخفي حقيقة أنّ وضع الواحة هشّ بعض الشيء، وأنّ المُعادين لها كثر وما زالوا يتربصون بها.
الدولة تحارب الواحة..
لم تخفِ حكومات ما بعد انتخابات العام 2014 توجهاتها اليمينية المعادية للفقراء وللطبقات الوسطى:
تقليص النفقات العمومية في القطاعات الحيوية، السعي للتصرف بالمؤسسات العمومية، تعويم العملة الوطنية والتصلب في التعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية...
الائتلاف السياسي الحاكم الذي أنتجته الصناديق والصفقات والسفارات، اعتبر أن فرض "الأمن" و"التصدّي للفوضى" من أولوياته. وهكذا صارت الأراضي "الميري" ــ التي كانت طيلة عقود مهملة او مقطوعة لمقربين من السلطة قبل ان يستولي عليها مواطنون بعد العام 2011 ــ أصبحت فجأة مسألة حيوية بالنسبة للدولة.
كان من الطبيعي أن تكون "واحة جمنة" الأكثر ازعاجاً، نظراً لخطرها كنمط انتاج بديل وكتجربة إجتماعية إنسانية مختلفة. أعلنت السلطة الحرب على التجربة، وامعنت في سعيها للقضاء عليها ولكنها في الوقت نفسه وبهذا السلوك، فقد سلطت عليها الأضواء جاعلةً منها قضية رأي عام. سيكون كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية" في حكومة "الوحدة الوطنية"، السيد مبروك كورشيد، ابن الجنوب الذي درس في محافظة قبلي هو قائد معركة الدولة في حربها على جمنة . وقد تميزت قيادته تلك بشراسة لا يمكن فهمها إلاّ إذا اعتبرناها سعياً منه للتكفير عن ذنوب الماضي حين كان معارضاً للنظام، زمن بورقيبة وبن علي. وهكذا اعتبر كورشيد استرجاع واحات جمنة قضيةُ شخصية، ووصف القائمين عليها ب"القرامطة".
تميز قائد معركة السلطة في حربها على "جمنة" بشراسة لا يمكن فهمها إلاّ إذا اعتبرناها سعياً منه للتكفير عن "ذنوب" الماضي حين كان معارضاً للنظام زمن بورقيبة وبن علي. وهكذا اعتبر كورشيد استرجاع واحات جمنة قضيةُ شخصية، ووصف القائمين عليها ب"القرامطة".
في أواخر تشرين الأول/ اكتوبر من العام 2016، وتزامناً مع بداية موسم جني التمور، وصلت الأزمة مداها بعد تدخل الدولة لمنع بيع محصول الواحة. تحدّى أهالي جمنة القرار وباعوا المحصول لتاجر من المنطقة، فردت الدولة بتجميد الأرصدة البنكية لكل من جمعية حماية واحات جمنة والمشتري. ولم تكتفِ الحكومة بالحرب المباشرة، بل لجأت الى أساليب أخرى: حملات شيطنة شنتها وسائل اعلام مقربة من الإئتلاف الحاكم، تحريك القضاء ضد الجمعية وضد السيد طاهر الطاهري الشخصية الأبرز في تجربة واحة جمنة، والتهديد باللجوء الى العنف لتنفيذ قرارات الوزير والقضاء. كما اعتمدت السلطة تكتيكاً ذكياً يقضي بعزل تجربة واحة جمنة، وذلك عبر التوصل الى حلول مع واحات صغيرة أخرى في المنطقة كانت ستسير على نفس الدرب.
ثلاثة أرباع انتصار.. وربع هزيمة؟
على الرغم من شراستها، لم تستطع السلطة إنهاء تجربة واحات جمنة. كان صمود الأهالي والتفاف العديد من الناشطين والمنظمات حولهم سبباً لإحراج المسئولين دفعهم الى مراجعة تكتيكاتهم.
في أواخر العام 2016، سُحب الملف من المسؤول عن الأراضي الميري وتمّ تحويله الى وزير الفلاحة انطلاقاً من مبدأ أن السيد كورشيد لم يعد مقبولاً كمفاوض نظراً لحدّة خطابه وتعنته. كان هذا ربع الانتصار الأول. خففت هذه الخطوة الاحتقان بعض الشيء، خاصة وأنّ وزير الفلاحة محسوب على اليسار. استمرت المفاوضات بين الوزارة والجمعية لمدة أشهر، وفي الثاني من نيسان /إبريل من العام 2017 توجه وزير الفلاحة لزيارة جمنة. كان هذا ربع الانتصار الثاني.
جاء الوزير حاملاً مشروع اتفاق مبدئي لتوقيعه مع جمعية حماية واحات جمنة. الفقرة الأولى من البيان تقول: "حيث وضعت جمعية حماية واحات جمنة منذ شباط/فبراير 2011 يدها على الضيعتين الفلاحيتين التابعتين للدولة المعروفتين باسم "هنشير الصالحية وهنشير حميدان وجزء من سكاست التابع لضيعة "وادي المالح"، وباشرت استغلالها وتثمينها وحمايتها وحافظت على وحدتها وباشرت خدمتها وتطويرها وبيع صابات تمورها والتصرف في محاصيلها المالية للصالح العام".. وهكذا اعترفت السلطة بتجربة واحات جمنة وأقرّت بحسن تصرف المسيرين وبأهمية ما قدّموه للصالح العام، بعد أن كانت تصفهم بالقرامطة والخارجين عن القانون. وهذا ربع الانتصار الثالث.
اقرأ أيضاً: تونس.. فلاحون من دون أرض وأراضٍ بلا فلاحين
أهم بنود الاتفاق تنصّ على "تكوين شركة جديدة للتنمية والأحياء الفلاحي" بين مؤسسة عمومية من جهة وهيكل يضم أهالي جمنة من جهة أخرى. أمّا المساهمة في رأس المال، فثلث للدولة وثلثين للأهالي. وحسب الاتفاق تقوم الدولة بتأجير الأرض للشركة الجديدة لمدة 30 سنة قابلة للتجديد. أمّا بالنسبة للإدارة، فيتكون مجلسها من سبعة أعضاء: اثنان يمثلون الدولة، والبقية يختارهم المساهم الأكبر، أي أهالي جمنة. كما تم النص على ادماج العمال الذين سبق لهم العمل في الواحة، وإعطاء أهالي البلدة الأولوية في أي انتدابات مستقبلية. طبعاً ستخضع الشركة للرقابة المالية، وسيتعين عليها دفع الضرائب والمساهمات في الصناديق الاجتماعية وتقديم تقارير سنوية حول أنشطتها وميزانيتها.
على الرغم من شراستها، لم تستطع السلطة إنهاء تجربة واحات جمنة. كان صمود الأهالي والتفاف العديد من الناشطين والمنظمات حولهم سبباً لإحراج المسئولين ودفعهم الى مراجعة تكتيكاتهم. وفي أواخر العام 2016، سُحب الملف من المسؤول السابق وتمّ تحويله الى وزير الفلاحة، واقترح على الاهالي عقداً تنظيمياً للعلاقة.
عبّر مسيرو الجمعية والأهالي عن تحفظهم على بعض البنود، وتخوفهم من أن تكون هذه خطوة من السلطات لتهدئة الأوضاع في مرحلة أولى، ثمّ استرجاع الأرض في مرحلة ثانية. ولكن على الرغم من هذه التحفظات، فإن الاتفاق يحظى بالقبول في المُجمل. لم يتم توقيع وثيقة رسمية حتّى اليوم ، لكنّ الأمور تسير في هذا الاتجاه. وهو حل وسط سيحفظ "ماء وجه" الدولة، ويُرضي نسبيّاً أهالي البلدة.
لم تمت تجربة واحة جمنة، لكنها سلكت طريقاً مختلفاً عمّا حلم به المؤمنون بالاقتصاد التضامني. وقد اعتبر البعض هذا ربع هزيمة. إلا أنه لا يمكن تحميل أهالي جمنة وقادة التجربة أكثر من طاقتهم. فاقتناعهم بالتسيير الذاتي وتقاسم الثروة، وصمودهم طيلة سنوات في وجه أجهزة الدولة هو بحدّ ذاته إنجاز. ثم يصعب تخيل نجاح مطلق لتجربة واحدة في مكان محدد من البلاد بينما لا تسير الوجهة العامة في إتجاه تحصينها ومحاكاتها. وكان من الممكن أن تكون هذه التجربة فرصة لفرض اعتراف الدولة بالاقتصاد التضامني وتقنينه، لو أنها حظيت بالتفاف شعبي أكثر وقوة ضغط أكبر.
***
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، تمّ بيع محصول التمور من دون أية مشاكل، وذلك تحت اشراف جمعية حماية واحات جمنة وبحضور ممثلين عن الدولة، وهو ما يعتبر مؤشراً آخر على أن "اتفاقيات السلام" ستُبرم قريباً. بيع المحصول تزامن مع احتفالات وأنشطة ثقافية أقيمت على أرض الواحة، حضرها الأهالي ومشاركون قدموا من مناطق أخرى.