تحولتْ الدول العربية جميعها إلى ممالك يحكم كل منها شخص واحد، غالباً مع إسرته، حتى يقضي الله أو القدر أمراً كان مفعولا.
لم يعد في المنطقة العربية "جمهورية" إلا لبنان.. وحتى في لبنان الديمقراطي صار طبيعياً أن تمدد ولاية رئيس الدولة فتصير تسع سنوات وإلا فالفراغ.
حكم الرئيس الراحل حافظ الاسد سوريا ثلاثين سنة مستمرة، ورحل بالوفاة ليتم اختيار نجله الدكتور بشار رئيساً، تعويضاً عن وفاة شقيقه الاكبر باسل الذي كان "مهيأ " للوارثة.
وحكم الرئيس الراحل صدام حسين العراق خمسة وثلاثين عاماً خاض خلالها حروباً كثيرة (ضد إيران وضد الكويت الخ)، ولم يسقط الا بالاحتلال الاميركي في العام 2003.
وحكم الرئيس اليمني على عبد الله صالح اليمن لمدة مماثلة، ولم يترك الحكم الا بعد انتفاضة شعبية مشهودة.. وظل يحاول العودة إلى الرئاسة حتى إغتيل قبل أسابيع وهو يحاول مغادرة صنعاء إلى مسقط رأسه غير بعيد عنها.
وحكم معمر القذافي، الذي رفض الالقاب الرئاسية جميعاً واكتفى "بالأخ القائد" ليبيا لأكثر من أربعين عاماً، وانتهى صريعاً خارج مدينة سرت شرقي ليبيا.
وحكم حسني مبارك رئيساً لجمهورية مصر العربية لمدة ثلاثين سنة حتى خلعته الثورة الشعبية.
ومن قبل، حكم الحبيب بورقيبه تونس حوالي ثلاثين سنة حتى خلعه انقلاب عسكري.
***
أما الملوك والامراء فيحكمون حتى الوفاة الا إذا خلعهم بعض أبنائهم (كما جرى في قطر مرتين، في السنوات الاخيرة). أو بعض أعمامهم أو ابناء أعمامهم (كما جرى في السعودية للأمير مقرن ثم للأمير محمد بن نايف).
الطريف أن المسؤولين في هذه الدول لا يتعبون من الحديث عن الديمقراطية، وعن الارادة الشعبية والتقدم والرخاء والمنشود الخ..
توكيداً لهذه الانجازات، تتم الاعتقالات المذهبة في الرياض، ويتم ترحيل الرعايا العرب من الامارات من دون ابداء الاسباب ومن دون السماح للمبعدين بترتيب أوضاع عائلاتهم في انتظار الترحيل، وتسمح قطر، نكاية بالإمارات، بدخول الرعايا العرب من دون تأشيرة.
أما في لبنان، حيث النظام نموذجي في "ديمقراطيته الطوائفية"، فإن التحايل مستمر على المدة القانونية لمجلس النواب، وهي أربع سنوات، بالتمديد الاول ثم التمديد الثاني فالثالث، ولرئيس الجمهورية بحيث تمدد ولايته بمقدار النصف فيحكم تسع سنوات متصلة بدلاً من ست.
كل حكام العرب "خلفاء". السلطان منهم والملك، الامير منهم والرئيس المنتخب مدى العمر أو لأجل مفتوح.. فالديمقراطية العربية قابلة للتمدد والتمديد والتجديد والوراثة بولي العهد أو بالضابط الطموح الخ..
ثم أن التجربة اللبنانية الفريدة، كما السورية والعراقية والمصرية والليبية والجزائرية، دلت جميعها على أن "الشعب" قطيع، وأن القطيع بحاجة إلى "كرّاز" علامته الجرس في رقبته، فاذا انتقل الجرس إلى "مرياع" آخر اندفع القطيع خلفه بلا مناقشة او تردد.
اقرأ أيضاً: الحرب الأميركية الجديدة على منطقتنا
كذلك فان "التغيير" يعطل دورة الانتاج، وتكفي مقارنة أولية بين بلاد الثبات الملكي ولو برئيس منتخب بالإجماع وبلاد الديمقراطية الكافرة في الغرب لنتبين حجم الفروق في مستوى النهوض والتقدم الصناعي.
وهذه أهمية الاستقرار.. فالتغيير جلاب المخاطر.
ألم يكن العصر الذهبي عند العرب عصر "الخلفاء" الذين كانوا يحكمون مدى العمر ما لم يقفز على أحدهم أحد أبنائه أو أحد أشقائه فيقتله ليرثه في موقعه السامي؟
***
ثم هؤلاء هم ملوك عصر النهضة في أوروبا أو حتى أباطرتهم مثل نابليون أو القياصرة في روسيا، هل عطل استمرارهم في الحكم تقدم بلادهم وتعاظم قوتها بحيث اجتاحت بلاد الآخرين فألحقتها بممالكها ملغية الحدود والسدود من أجل امبراطورية قوية يمكنها أن تجتاح العالم بشرقه وغربه؟
إن الديمقراطية بدعة، وكل بدعة ضلالة، والحكم من عند الله يعطيه لمن يشاء، والخروج على ارادة الخالق، عز وجل أقصر طريق إلى جهنم.
انظروا إلى اوروبا وكم حرباً شهدت فغيرت الحدود واصطنعت دولاً لم تكن موجودة، وكم احتلت من بلاد بينها بلادنا بذريعة نشر الديمقراطية، فلم تنشر إلا الفتنة والشقاق وتحريض الرعايا على أولي الأمر فيهم، حتى انتهى الامر ببلادنا على ما نحن عليه!
***
إن الانظمة العربية تحاول ــ عبثاً ــ اقناع رعاياها بأن الديمقراطية "رجس من عمل الشيطان"، وأن الله سبحانه وتعالى قد "فضل بعضهم على بعض"، وهل يستوي الذين آمنوا مع الذين لا يؤمنون.. فالله واحد، والملك واحد، والزعيم واحد، والرئيس واحد، والأمير واحد، أما الشعب فكثير، كما القطيع ولا بد له من رأس.
فاذا خرج على الملك أخوه ضرب رأسه، وإذا خرج عليه أبناء أخيه حز رؤوسهم، وصادر ثرواتهم، وتزوج نساءهم أو وزعت سبايا على أعوانه والمخلصين من رجاله.
وها هو محمد بن سلمان يركع عند قدمي إبن عمه الامير نايف فيسلبه ولاية العهد، ثم يسجنه مع أنصاره، ومجموعة من الأمراء ورجال الاعمال الأثرياء ويسلبهم ثرواتهم بقوة سيفه ووهج صاحب الجلالة أبيه الملك سلمان..
فالأمير ولي العهد السعودي "اشتراكي" ولا يقبل باحتكار الثروة. أما السلطة فلا تقبل الشراكة أو القسمة لا على اثنين ولا على ثلاثة، بل هي كما الله سبحانه وتعالى "واحد أحد، لا شريك له ولا مثيل".
اقرأ أيضاً: في عهد "الامير الطائش"
إنها ديمقراطية السيف أو السيفين المتقاطعين على جذع نخلة يتوجهما شعار "لا إله الا الله، محمد رسول الله".
والملك لله. والله واحد. وتلك هي الغاية المثلى للديمقراطية العربية. حتى في لبنان، الذي يعطِّل فيه "مرسوم دورة ضباط العام 1994" الحياة السياسية، بالعنوان الديمقراطي الفريد لها ولوطن الارز الذي تحكمه المقادير وأمزجة الرؤساء..
وهذا دليل اضافي على أن الحكم يكون لواحد أحد أو لا يكون أبداً.