ينقل السفير العربي وقائع ندوة "غير المرئيين في حاضر الداخل الفلسطيني" التي نظّمها مسرح "خشبة" في مدينة حيفا المحتلّة. وتتناول هذه الندوة مفهوم "المرئيّة" الذي تتمحور حوله جملة الأعمال الفنيّة في الموسم الجاري للمسرح، والذي يحمل عنوان "أشخاص غير مرئيين".
بدأت فكرة هذه الندوة شهوراً قبل انعقادها، بالتخبّط والتفكير والتساؤل بين أعضاء المسرح وزملاء لهم ــ ومنهم الباحث محمّد جبالي الذي جمع المتحدّثين وأدار الحوارــ حول مفهوم اللامرئيّة. طُرحت أسئلة عديدة بهذا الصدد، وسط تخوّف (أشار إليه محمد جبالي في افتتاح الندوة) من ممارسة "التلصص" تجاه الشرائح المهمّشة، وتحويلها "موضوع بحث"، أو محاولة "إعطائهم" صوتاً.
في مداخلات المتحدّثين في الندوة، يظهر تفاوتاً قوياً في تناول مصطلح المرئيّة من جوانب عدّة، سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة. لكنّ المداخلات كلّها حاولت كشف الإشكاليّات في مفهوم "المرئيّ" وتحدّيها، كما حاولت في الغالب أن تتناوله على ضوء التجارب العمليّة والنضاليّة في الحقلين الاجتماعي والسياسي.
التجنيد الإجباريّ للدروز: الظهور كأداة لكسر الصور النمطيّة
ميسان حمدان، ناشطة شبابيّة من مؤسسي حراك "أرفُض، شعبك بحميك" لمناهضة الخدمة الإجباريّة للشباب العرب الدروز في الجيش الإسرائيليّ.
المساحة غير المرئيّة ضروريّة في عملنا مع الشبّان الدروز الرافضين للخدمة الإجباريّة. نحن بحاجة إلى العمل في الظل، بشكلٍ صامت وصادق لتحقيق الهدف المباشر والأوّل على صعيد فردي ــ رفض الخدمة ــ انطلاقاً من مسارٍ قانوني مركّب وإمكانيّات معقّدة. نحن بحاجة للعمل في الظل لعدم توريط الشباب، علاوة على التحدّي الشخصيّ الذي يخوضونه، بتحديات اجتماعيّة وإعلاميّة واسعة. من جهةٍ أخرى، هناك حاجة مُلِحّة للمرئيّة أيضاً، لأنّ قضيّتنا لا يمكن حصرها في إنجاز الرفض الفردي، وإنما لها وجه أشمل وهو أننا حركة تتحدّى الصور النمطيّة الموجودة في المجتمع الفلسطيني تجاه الشباب الدروز، الناتجة عن سياسات الشرذمة والتجهيل، والتي لا يمكن أن نتجاهلها في إطار عملنا. هناك ضرورة لأن يعي المجتمع الفلسطيني بتركيبته وتفاوتاته وجود مثل هذا النشاط. لذلك، هناك تفاوت أو حتّى تناقض بين العمل الفردي غير المرئي لمساعدة عشرات الشبّان على رفض الخدمة العسكريّة ودعمهم، ومن جهة أخرى إحداث تغيير سياسي ــ اجتماعي ومعالجة غبن سياسي يعاني منه قسم من المجتمع الفلسطيني.
واحدة من المحاولات الهامّة في تجربة "أرفُض" هي ألا يكون حراكنا محصوراً بأعضاء من الطائفة الدرزيّة فحسب، وإنما بناشطات وناشطاء فلسطينيّات وفلسطينيين معنيين بهذا الشأن. لم نحاول فصل أنفسنا عن القضيّة الفلسطينيّة العامّة، ولا أن نتعامل مع القضيّة كقضيّة درزيّة، وهذا ما خلق توتّرات وإشكاليّات أكثر حدّة في مواضع عديدة. بهذه الوضعيّة، فإن ظهورنا كحركة يتطلّب مستويات عالية من المرونة والمناورة في وجه الانتقادات والمحاسبة والملاحقة الاجتماعيّة والسياسيّة. فنعمل من جهة ضمن شريحة محافِظة تعتبر التجنيد مفهوم ضمناً، وهذا يؤدّي في الكثير من الأحيان إلى هجوم وملاحقة من جهات دينيّة أو قيادات مجتمعيّة سياسيّة. من جهةٍ أخرى، نعمل ضمن مجتمعنا الفلسطيني الذي تكرّست فيه الأفكار النمطيّة والمسبقة حول علاقة الطائفة الدرزيّة بالتجنيد. وفي الوقت ذاته هناك تربّص إسرائيلي وملاحقة ومراقبة.
اقرأ أيضاً: التجنيد الإجباري.. خدمة الصهيونيّة لا دين لها
إن طبيعة هذا التركيب الاجتماعي والتجزئة والشرذمة، تضعنا في حالة غير متوازنة. نفكّر كثيراً في كل كلمة وكل تعبير لنُدير توازناً ما. والأهم من هذا، وبما يتعلّق بموضوعنا، أن قرار المرئيّة وغير المرئيّة، المناورة بين الاختفاء والظهور، يُصبح قراراً أداتياً نتخذه لاعتبارات الفائدة والمجازفة. متى تفيدني هذه المرئيّة؟ متى تورّطني بإشكاليّات تعيق عملي؟ ففي أغلب الأحيان نحن نختار عدم الظهور، فحركتنا تعمل مع ما يقارب 50 شاباً بالسنة، ربّما واحد أو اثنين منهم فقط يظهرون بشكلٍ علنيّ، ونحن عملنا أصلاً بصمت ودون ظهور منذ العام 2010، وخضنا صراعات طويلة لنقرر إن كنا نريد أن نعمل بشكلٍ رسميّ ومعلن أم نبقى نعمل في الظل.
تجدر الإشارة إلى أننا حين نصبح مرئيين ومسموعين، فإننا نفقد إمكانيّة العودة إلى المساحة الآمنة. فقد أدركنا أننا بالضرورة نحتاج للظهور، لأن النضال هو نضال مجتمعي أيضاً، ولا يُمكن إحراز الإنجاز من دون الحفر في الرأي العام وتحدّي الأفكار المسبقة. ولكن هذا يتطلّب بالضرورة أن يتحمّل بعضنا عواقب هذا الظهور. أن ندرك أن المرئيّة مركّبة، لأنها تواجه عالماً مركّباً. وبالضرورة علينا أن نكون جاهزين كأفراد، لأننا في وضعٍ يَسهل فيه الهجوم على الأفراد، وقمع الأشخاص، إذ لا مكان للجدل ولنقاش الأفكار والآراء، وتتحوّل أداة النقاش إلى الهجوم البشع الذي لا يترك حيزاً آمناً.
هل يُمكن للمرئيّة أن تكون أداةً للاستغلال؟
إيناس زعبي، عاملة اجتماعيّة ومديرة مأوى للفتيات الفلسطينيّات، متخصّصة في شؤون النساء المًستغلّات بالدعارة
عندما نتعامل مع نساء في أقسى وأصعب مساحات الضائقة الاجتماعيّة، يكون دورنا في الغالب دوراً خارجيّاً ــ علاجي وتأهيلي ــ ويظهر للوهلة الأولى بأنّه مثير مهنياً وشخصياً، ويحمل معه ضجيجاً وتحدياً للمعالِج.، هذه بصراحة كانت أفكاري الأولى عندما كنت شابّة في بداية طريقي الجامعي مثلاً. كنت أبحث عن "الأكشن". ويحضر هذا النوع من التفكير خاصةً ونحن نعيش في عالم ترتبط فيه المرئيّة بوسائل الإعلام الاجتماعي، وبالظهور الشخصيّ، وببروز كل فرد بعمله الإنساني ومساهمته الاجتماعيّة وتسجيل إعجاب الناس العلنيّ بذلك.
يتحوّل الإعلام أحياناً إلى أداة استغلال لمعاناة العاملات بالجنس من أجل الحصول على المزيد من النشر، وهكذا تصبح الحالة المرئيّة هي نفسها قمع واستغلال قائمين بحدّ ذاتهما.
لكن عندما نخوض المجال حقيقةً، تنكشف أمامنا الحقيقة المرعبة، القاهرة والأليمة، التي تضعنا كعاملات اجتماعيّات في مواجهة مساءلة ونقد ذاتيين حول علاقتنا بالحقل الذي نعمل فيه. لماذا نختار المجموعات المستضعفة التي نعمل معها؟ كيف يرتبط هذا بخياراتنا الشخصيّة والمهنيّة؟ هل نُعنى فعلاً بخوض هذه التجربة من باب كونها مثيرة ومتطرّفة وجذّابة، أم لأننا فعلاً مهتمّين بالعمل الشاق لحماية وتعزيز مجموعات مستضعفة بشكل متطرّف؟ شعرتُ أنّي بحاجة، كعاملة اجتماعيّة، أن أخوض مع نفسي هذا الفحص العميق، إذ يدفعنا العمل في نهاية المطاف إلى مساحة نخجل فيها من الظهور والتحمّس للمرئيّة. فما معنى وحاجة هذه المرئيّة والظهور في هذا النوع من العمل؟ ما حاجة وفائدة أن تظهر امرأة تُستغل في الدعارة لتتحدّث في مقابلة تلفزيونيّة عن حياتها، إن كانت لا تزال تُعنّف في الشارع وتعاني؟ على العكس، يتحوّل الإعلام أحياناً إلى أداة استغلال لهذه المعاناة من أجل الحصول على المزيد من النشر، وهذه حالة تتحوّل فيها المرئيّة إلى قمع واستغلال قائمين بحدّ ذاتهما.
المسار الذي تحتاجه النساء هو مسار علاج نفسي، عاطفي وفكري طويل، قبل أن يظهرن وقبل أن يتحدّثن. وهذا يحتّم عليّ أن أعمل في العتمة. أن أكون غير مرئيّة. الاتصال بالمكان العاطفي والنفسي لا بد أن يكون في دوائر مغلقة من أجل أن نكون صادقين في عملنا. لا يُمكن أن يكون مسارنا العلاجي أو الشخصي أو المهني عُرضة للناس. اللا ــ مرئيّة، بهذا المفهوم، هي شرط أساسي للعلاج.
"لماذا لا تظهرون كضحايا؟"
حنين معيكي، المديرة العامّة لجمعيّة "القوس" للتعدّدية الجنسيّة والجندريّة في المجتمع الفلسطيني
كمشروعٍ يشارك في تمثيل هويّات جندريّة وجنسيّة مختلفة، فإن مسألة الظهور والمرئيّة انقلبت في السنوات الأخيرة رأساً على عقب. "القوس" كانت مجموعة تعمل على الأرض، بشكلٍ هادئٍ مقابل مجموعات مختلفة من الناشطين أو معلمي المدارس وغيرهم، كلّ ذلك في غرفٍ مغلقة. منذ عدّة سنوات لحظنا فارقاً كبيراً يرتبط بالمرئيّة، وهو الحاجة العاطفيّة في الشارع لفتح هذه المواضيع علناً، لكسر الوضع القائم، لتحدّي النمطيّة القائمة التي تشرعن العنف. لذلك بدأنا نرى ضرورة استراتيجيّة يتّفق عليها مناصرو قضايا المثليين داخل مجموعتنا وخارجها. وهنا تبدأ الورطة: كيف تنتقل مجموعة بُنيت خبرتها من العمل في الغرفة المغلقة، وراكمت تجربة عشر سنوات من العمل في الظل، كيف يمكنها أن تنتقل فجأة للعمل في الشارع، وتنتقل إلى مرحلة جديدة، وتتحدّى استراتيجيّتك الداخليّة، وتضطر للدفع بأفراد المجموعة إلى الصف الأوّل من المواجهة الاجتماعيّة. ففي نهاية المطاف، الظهور والمرئيّة ليسا حالة مؤسِّسة فقط، وليسا حالة مجرّدة، وإنما يتعلق الامر بوجوه وأسماء تظهر في المقدمة، في التلفزيون والصحيفة والمسرح والشارع.
بالتالي، فإن المشكلة الأساسيّة التي تفرضها علينا المرئيّة هي ضرورة إظهار الوجوه الشخصيّة والإنسانيّة وتحويل الخاص إلى عام، في مجالٍ ــ هو مجال الجنسانيّة ــ يتكوّن ويُدار أصلاً وعموماً في مساحات السر الاجتماعيّة. الجنسانيّة هي المجال غير المحكي عنه في مجتمعنا. نحن لا نتحدّث عن كياننا الجنسانيّ وعن هويتها الجنسيّة. المجال الذي تُريد أن تكون مرئياً فيه، هو من أساسه، غير مرئي. الفئة التي تطالب أن تكون مرئيّة، تمارس ظهورها ضمن مجال غير مرئي أصلاً. بالمقابل، فإن العنف مرئيّ جداً: الهجوم والتهديد والترهيب، ويشكّل حالة ردع وقمع للنشاط. أي أن نقاشاتنا وخطواتنا تسأل نفسها وتتحرّك بالتجاوب مع هذا العنف. وتنشأ معادلة طرديّة بين الظهور والعنف، وهذا معادلة لا حلّ لها. هناك ضحايا لهذا الظهور، وهناك خطاب يُبرر أو يتعامل مع وجود الضحايا كشر لا بدّ منه في حالة نضاليّة وفي مسار تغيير. ولكن هل وقوع الضحايا بهذا الشكل أمر مفروغ منه؟
اقرأ أيضاً: الحركة المثلية في فلسطين ومقارعة الخطاب الإسرائيلي
خلال هذا العام أطلقنا حملة "مخْتلفناش" ضدّ أشكال العنف المختلفة التي تُمارس بحق من يعيشون تجارب جنسيّة وجندريّة مختلفة. إذا حاولنا أن نقرأ النقد لهذه الحملة، فما نوعيّته؟ أولاً نجد نقداً يستهجن أن نتحدّث عن العنف دون أن نحاول إقناع المتلقّي بأنه عنف، دون أن نحاول ابتزاز عاطفته، دون أن نجعله يبكي على حالنا. ينتقدون الحملة لأننا نحاول أن نتحدّى العنف ونحن نضحك، ونحن نعرض الخطاب بشكلٍ حيوي ولطيف. يقولون، بكلمات أخرى؛ لماذا لا تظهرون ضعفكم، لماذا لا تظهرون كضحايا؟
أما الجانب الثاني من النقد، فشدّد على أن الحملة حاولت أن تضع حياة شباب وشابّات مثليين، أسلوبهم ولغتهم، في المركز. ألا تتبنى أسلوب الخطاب المتوّقع في المجتمع، وألا تتحدّث عن المثليين قدر ما تضع هواجسهم وأفكارهم في المركز. يقول النقد أن الوصول للمجتمع هو وصول أداتي، ولذلك يجب أن نجد "الطريقة" للتحدّث معه، بمعنى أن المثلي ليس قسماً من المجتمع، وأن المثليين جزء منفصل عن "جمهور الهدف". وهو نقد يطالب بإقصاء المثليين في سبيل الدعوة لـ"تقبل" المثليين. عزلهم من جديد عن الرأي العام، من أجل محاولة توصيل رسالة عنهم.
أي وجعٍ يدفعنا للبحث عن المرئيّة؟
د. رائف زريق، باحث ومحاضر أكاديميّ في مجال الحقوق
ما هو الوجع الذي يدفع بمفهوم المرئيّة (والصوت) إلى السطح؟ ما هو الوجع الذي يجعلنا نسأل عن المرئيّة؟ نسأل عن هذا الوجع لأنه المنارة التي نسترشد بها لنعرف عمّا نتحدّث. فقد تحدّثنا في هذه الندوة عن قضايا عديدة، ولكننا في لحظةٍ ما ضيّعنا الدافع الأساسي الذي يحرّك كل هذه الأسئلة. أرى أن هذا الوجع، هذا الدافع، يكمن في مفهوم العدل. ويصعب برأيي أن نقبض على أهميّة المرئيّة والصوت من دون التعامل مع مفهوم العدل.
يسأل الكاتب الأمريكيّ توم بريان: "لماذا يموت الناس في الحرب؟" ويُجيب: من الخجل والوحدة. يفضّلون موتاً مشهوداً، فإن ما هو أصعب من الموت هو أن تموت غير مشهود. ألّا يكون ألمك مُشاهَداً. قد تكون حزيناً، لكن الكآبة الحقيقيّة هي أن تتألّم دون أن يرصد أحد ألمك، فيذهب الألم هباءً. أما عندما يكون الألم مرصوداً، فيُعبًّر عنه، وقد يُفيد أحداً، قد يكون مبرَّراً، قد يقدّر أولادك وجعك، فيكون جزءاً من حركة المعنى.
علينا أن نؤسس لهذه المرئيّة، إذ أنّها تحمل منطقاً، كما يحمل الصوت منطقاً. وإذا اجتمعت المرئيّة بالصوت يكون اجتماعمها علامة حضور. وهو ما يحوّل المرئيّة إلى حاجة فطريّة، أوليّة، طبيعيّة للإنسان. فمن أين تنبع المرئيّة؟ لا بد من طرح هذا السؤال لنبحث متى تكون المرئيّة ضروريّة، ومتى تكون هامّة لذاتها، ومتى تكون هامّة لتطوّر الذات، وكشف الجانب التعبيري فيها، أو الجانب القمعيّ فيها.
أسوأ صفة عند البشر هي نكران المعروف، لأنّه يشير للناس بالامتناع عن صنع المعروف، وهذه بداية الطريق إلى الهاوية. لماذا يرتبط هذا بمفهوم "المرئيّة"؟ حتّى يُعطى أولئك اللذين يستحقّون العرفان والجميل حقّهم. ليس أعطاء صوت للضحية، وإنما منح المرئيّة لمن بذلوا وأعطوا وضحّوا، لجدتي، وجدتك، وأمي، وأمّك، اللواتي لم يكتب عنهنّ أحد
يكمن دافع هذه المرئيّة في أن تُشهِد العالم وأن تكون مشهوداً، أن تُرى وتُسمع. فعلى سبيل المثال، أقسى شتيمة في التراث الديني اليهودي هي شتيمة "ييماح شمو"، أيّ ليمحى الله ذكره. لأن هناك ما هو أصعب من الموت: أن تمضي منسياً، أن تُنسى أصعب من الموت. لذلك، عندما كان الرومان يجرّمون شخصاً بجرم الخيانة كانوا يحذفون اسمه من جميع السجلّات ويُمنع أولاده وبناته من حمل اسمه، فيذهب إلى موته بصفته نكرةً. هذا النوع من الاختفاء أصعب من الموت.
أسوأ صفة عند البشر، هي نكران المعروف، لأنّه يشير للناس بالامتناع عن صنع المعروف، وهذه بداية الطريق إلى الهاوية. لماذا يرتبط هذا بمفهوم المرئيّة؟ حتّى يُعطى أولائك اللذين يستحقّون العرفان والجميل حقّهم. ليس أعطاء صوتاً للضحية، إنما منح المرئيّة لمن بذلوا وأعطوا وضحّوا. لجدتي، وجدتك، وأمي، وأمّك، اللواتي لم يكتب عنهنّ أحد. عن البطولات المخفيّة. لأن جزء هام من سؤال المرئيّة يأتي من كون الناس لا تلقى ما تستحقه من اعتراف. دافع العدالة جزء من دوافع المرئيّة – دور المجتمع في أن يعيد للناس الاعتبار لما بذلوه وأعطوه. هذا الدافع الأوّل للمرئيّة، أما الدافع الثاني فهو أن تتمكّن الضحيّة التي سُلبت أدوات التعبير وأدوات إثبات ضحيّتها من التعبير، إذ أن الأسوأ من وضعيّة الضحيّة هي وضعيّة الضحيّة التي لا تستطيع أن تعبّر عن معاناتها. هذا مثلاً هوس كافكا في الأدب – التعبير عن الضحايا اللذين فقدوا قدرة التعبير.
هذه هي الهواجس الأساسيّ التي تدفع سؤال المرئيّة إلى الأمام. أما المرئية باعتبارها نوعاً من العلاقات العامّة من أجل قضيّة أو موضوع، فهذا يتحوّل إلى شأن آخر، مرتبط بعلاقات القوّة في المجتمع وفرض مواضيع معيّنة على الأجندة.