دفعت أحداث العام 1958 اثنين من أبرز الرحالة التشيكوسلوفاكيين، يرجي هانزيلكا (1920-2003) وميروسلاف زيكموند (ولد سنة 1919)، إلى زيارة لبنان، فانطلقا في رحلة بريّة طويلة في نيسان/ أبريل 1959 من العاصمة براغ نحو بيروت، حيث اقاما فيها لعدة أشهر كتبا خلالها ملاحظاتهما التي نشرت في صحف بلدهما ثم في كتاب صدر في العام 1961، بعنوان "الهلال المقلوب". بعد الجزء الأول، والجزء الثاني، هنا الجزء الثالث والأخير، حيث نقع على "استشراق" هذين الرحالتين، وكيف انهما يعجزان عن استساغة الغناء العربي ويعتبرانه نواحاً، ويفاجأن بحركات الصلاة وطقوسها.
يمكنك أن تنزوي في شقتك في بيروت، لكن ذلك لن يحميك من غزو الأصوات. قد تبدو أنّها فوق قدرة الإنسان على التحمّل. بحلول منتصف الليل تشرع جوقة الديكة بالصياح، معلنة عن بدء الحفلة الموسيقيّة إذ سرعان ما تنضمّ إليها القطط العاشقة بمواء متواصل. كانت آذاننا قد اعتادت ذلك، حتى أنّها بدأت تعتاد غناء المؤذّن المتكرر الرتيب وطريقة تلحينه صوته وحازوقته (فواقه). بات وكأنّه يقصّر نهاراتنا وبتنا نعتبره جزءًا من يوميّاتنا.. حتى أنّنا لم نعد نشعر بأيّ إزعاج من أصوات زمامير (منبّهات) السيّارات ليلًا ولا من هدير سيّارات التاكسي (الأجرة). بغياب تلك الأصوات، فلنعترف، بغياب زعيق بائع التين ورفاقه، ربّما لشعرنا بالملل.
لكنّنا وإلى الآن لسنا قادرين على التعود على الموسيقى العربيّة. لم نتمكن أن نتهادن معها، على الرغم من المحاولات العديدة للتواصل معها ليس فقط على مستوى القلب، بل وعلى مستوى العقل أيضًا. ونحن نسعى جاهدين أن نتلمّس بعض ما قيل لنا عنها: صدى مساحات صحراويّة شاسعة، وقت لا متناه، إيقاع قافة من الإبل، ولاء الزوجة المنتظرة زوجها الغائب، حجاج فوق الكثبان، رياح الخماسين الحارقة التي تتسبّب كما قيل لنا بموجة غريبة من الإثارة لدى البدو الرحّل... لكن بدل تلك إثارة رياح الخماسين التي لا توصف، تجتاحنا أعاصير من الأصوات المتنافرة محدثة ثقوبًا في القلب.
تأتينا أصوات من الشارع كرشقات نارية لا يمكن تجنّبها، مصدرها المنازل والحوانيت تهيم كثعبان زاحف مصحوب بآلاف الأجراس.. ضجيج لا يمكنك التآلف معه يسحق الروح بمطرقة اليأس.
وبين كل هذه الأصوات، في هذه اللحظات، ينتحب أحدهم بحرقة على الطبقة الثالثة من مبنانا، تحتنا بطبقتين، ينوح ملحّنًا نواحه بتعاسة. يتهيّأ لنا أنّ طفله الحبيب، الذي يشكّل المعنى الوحيد لحياته قد اختطف. فما الذي يدعو بشريًّا للنوح بهذه الطريقة إلا سببًا كهذا؟ وأراد أن يتقاسم ألمه مع الجميع، خرج من "صحرائه" ودوزن (ضبط) ميكروفون حنجرته على مستوى عال من الجنون وصبّ فيه كل الألحان المفجعة التي يتعذّب بها قلبه، فعمل على بثّها لتذوق قلوب من هم حوله ما يذوقه من العذاب. يجتاح نواحه الجميع إلا أنّه يتوقف أحيانًا، يستجمع قواه، يعيد دوزنة مستوى الأسى لديه، يختار "مزمورًا" حزينًا جديدًا، ويشرع في بكائه مصحوبًا بارتجاجات شديدة في صوته وبحّة. أتراه يقول: ارحمني يا أرحم الراحمين، اقطع حزني، أعد لي ولدي الحبيب؟
هيّا.. استجيبوا يا كلّ المستمعين إليه.. بحق ما تعبدون! أعيدوا إليه طفله.. أشفقوا عليه! سترون كيف أنّه سيهدأ، وستنهمر دموع الفرح من عينيه. وفي لحظة واحدة سيتوقّف عن النحيب، وسيحل السلام علينا جميعًا، خاصّة نحن الذين نتأذّى من نحيبه المتواصل. أعيدوا إليه طفله وسيحلّ السلام على الكوكب وستتألق قطرات الندى، سيخترقها شعاع الشمس ويتكسّر الضوء فيها مطلقًا قوس قزح فتتراقص ألوانه على الشرفة. فالآن فقط بداية النهار، إنّه الصباح، ارحمونا.. دعوا النهار يتنفّس بالزهور المتفتّحة، ولا تتركوها فريسة الذبول متأثّرة بصدى أحزان البشر ومصائبهم.
***
اللغة العربيّة حادّة ورجوليّة، لكنّها في الوقت عينه ذات ألحان ممغّطة، فيها تتقاطع هشاشة الكثبان الرملية وقساوة رؤى جنيّة مورغان [فاتا – مورغان بالإيطالية، ظاهرة خداع بصري تصنّف كأحد أنواع السراب تظهر فيها الأجسام في الأفق مشوّهة متكسّرة]. باعتقادنا، إن حفيف سعف النخيل في واحة عربيّة بعيدة تصدر عنه أصوات تحاكي اللغة العربيّة السليمة النحو المتمثّل بتغيّر أواخر الكلمات، بحلّة أدبيّة كلاسيكيّة، تحاكي لغة أبناء اللغة وممثليها الشرعيين. نستمع إلى ذلك التناسق اللفظي عبر جهاز الراديو، مع أننا لا نفهم أيّ كلمة. هي لغة منمّقة ذات صوائت طويلة، مثل البادية نفسها، ألفاظها الأنيقة تتراكض، تتلاحق كأمواج إثر أمواج.
لكن فجأة، يندلع شجار بين الجيران تحتنا، فتتحوّل اللغة العربيّة نفسها وعلى الفور إلى أداة قتل فظيعة مشحونة بالعصبيّة وبغطرسة فيها مسحة إقطاعيّة، توحي بأن ثعالب وضباعًا تتجه معًا لتنهش لحم جيفة متعفّنة، تعول وتعوي على بعضها البعض.. أين اختفت اللغة الشعريّة؟
***
جُنّ جنون بيروت أمس.
مع اقتراب موعد غروب الشمس أُضرمت النيران في أكوام من الأوراق والنفايات التي كانت متناثرة بين البيوت، وجمعت في موقد كبير وسط الشارع.. ثم ألقيت في الموقد نفسه صناديق خشبية تستخدم لنقل الفواكه وبراميل زيت. كانت ألسنة اللهب تتراقص بين كتل الدخان الكثيف، ما بدا وكأنّ عدوًّا متربّصًا قد أشعل المدينة من أطرافها. اشتعلت سماؤها أيضًا بصواريخ خضراء وصفراء وحمراء، ترافقت مع فرقعة طلقات نارية من أسلحة حربيّة. أهي الثورة قد اشتعلت من جديد؟ ربّما.
بالأمس فقط كان رئيس الوزراء قد توجّه إلى نيويورك لحضور اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، كان ليفاجئه بالطبع وهو في ذلك المكعّب الإسمنتي المنتصب على ايست ريفر أنّه لن يعود إلى بلده رئيساً للوزراء!
- لماذا يطلقون النار؟ ما الذي يجري؟
- ألا تعرفون؟ أجاب مصطفى مستنكراً، إنّها ليلة رأس السنة!
- رأس السنة؟ أيّ سنة؟ ما هو رقمها؟
أخذت الدّهشة مصطفى. صمت، ولم يعرف بما يجيب. ذهب للتشاور مع الجيران حول الأمر، وقال أثناء مغادرته إنه ما إن يعرف سيعود إلينا على الفور لإخبارنا، أو أنّه على أي حال سنعرف من الجريدة.
هو يوم عطلة رسميّة بالفعل، فالمباني العامة والمكاتب مزدانة بالأعلام المرفرفة، وإطلاق النار ابتهاجاً لم ينقطع، وهو يسمع في جميع أنحاء المدينة. وفي أحد البيوت ذات الطبقة الواحدة، تحتنا، فتاة في السادسة عشرة من عمرها (في الواقع تبدو راشدة أحياناً) تضرب في كلّ مرّة تسمع فيها الرصاص بكل ما أوتيت من قوّة درجات معدنيّة ملتصقة بالبيت، وفي يدها شيء ما، وكأنّها تخلق صدى للأزيز. تنحني الفتاة وترفع ذلك الشيء، تنتظر، تسمع الأزيز فتضرب الدرجات وتتطاير شرارات فوسفوريّة من بين يديها.. تبيّن أنّها تحمل قضيباً معدنيّاً. شيطان ما جنّ جنونه من فعلتها فغدا يعوي عليها.
اقرأ أيضاً: بيروت منزل العرب في السبعينات
في الحديقة المجاورة يجلس ربّ عائلة القرفصاء، يبدو غير مكترث، وبحكم التقليد يطلق ألعابه النّارية الخاصّة. يشعل عود ثقاب ويقرّبه من علبة معدنيّة فيها القليل من مادة البنزين، يرميه داخلها بحذر ثم يبتعد. و"باف.. باف"، ثمّ يعيد الكرّة مرّات ومرّات. وفي كلّ مرّة يثير عاصفة من الانفعالات والصراخ عند حلقة أطفاله المتجمّعين حوله. إلا أنّ الملل تملّكهم من تكرار اللعبة عينها، فلحقوا بأحدهم استطاع اصطياد صرصار الحقل (جدجد)، محاولين ربط علبة ثقاب فارغة به، كي تغدو كعربة يجرّها حصان. أما أبوهم فتابع طقوس لعبته بضمير حيّ.
في التاسعة مساء أطل مصطفى حاملًا الصحف، وبدت على وجهه خيبة أمل. اتضح أنّها ليست ليلة رأس السنة، لكن "عيد مولد النبي".
- عيد قدّيس من القديسين؟
- نعم، ومن أكثر قداسة من النبي، إنّه النبي محمد نفسه، رسول الله (اتضح لنا أن "مولد النبي" تعني يوم ولادة النبي محمّد).
في السابق، كان الاحتفال بهذه المناسبة يتلخّص بالأناشيد الدينيّة والرقص الفلكلوري، والعروض الخطابيّة وتلاوة القصائد، وقراءة سيرة النبي محمد، ومسيرات راجلة في الشوارع يتقدّمها حملة المشاعل، بالإضافة إلى الموائد الباهظة التي تقدّم أصنافًا متنوّعة من الطعام. أما اليوم فالمفتي اللبناني الشيخ محمد علايا يرتّب حفل استقبال رسميّ لرئيس الجمهوريّة والوزراء والدبلوماسيين، ثم يتوجّه إلى المسجد الكبير لتلقّي التهاني. بطبيعة الحال، سيجنّ عملاء الشرطة السرّية لأن أولاد بيروت سيرمون المفرقعات وعبوات الفوسفور بين أقدام الوزراء المهنّئين. ويجب عليهم أن يراقبوا ذلك المهرجان بصمت لأنّه بات مسموحًا به، وهو كذلك مبارك من الله في آن.
وفي غياب رئيس الوزراء عن البلاد، ولتغيّب وزير الخارجية بسبب المرض، سيشارك في الاحتفال الرسمي وزير الداخليّة ريمون إدّة، كما تقول صحيفة "الدايلي ستار" الصباحيّة، "إنّه التسامح الديني النبيل والتعايش"... وكل ما في الأمر أنّ وزير الداخليّة ماروني (يعني مسيحي).
***
في شارعنا، بالقرب من الخضرجي يقع صالون حلاقة، والحلّاق (مصفف الشعر) يبدو أنيقًا ذا تصفيفة شعر جميلة كإعلان حيّ لمؤسّسته. على جدران الصالون إعلانات ذات عبارات عربيّة عليها صور شقراوات أمريكيّات، وفي واجهته قوارير عطور مستوردة، وحلى مقلّدة ذهبيّة مرصّعة بالماس، وأصابع أحمر الشفاه، ومياه البتولا ومساحيق تجميل. وهو، بالإضافة إلى أنّه يحلق الذقن ببطء ويقص الشعر ببطء أكثر، إلا أنّه فنّان مبدع في استخدام خيط سميك يحزم به أصابعه، وبمهارة يخلّص الزبون من الشعيرات النامية على الأذنين والوجنتين، بغض النّظر عن رغبات هذا الأخير.
وها هو الآن قد دعك ذقن شاب – بنت ثلاثة أيام – بين يديه بالصابون، حتى ظهرت الرغوة البيضاء، حمل الموسى وشرع في الحلاقة. فجأة، كأنّما مسّه شيء ما، بدأ يزيح بقدميه بقايا الشعر المقصوص عن أرضيّة المحل، ثم وضع الموسى أمام المرآة، انتصب وجمع يديه إلى صدره، انحنى واضعاً كفّيه على ركبتيه، ثم هوى وألصق رأسه على الأرضيّة الحجريّة ويداه أمامه قرب كرسي زبون. ثم استقام ووضع يديه على صدره، ومن جديد انحنى وكرّر فعلته الأولى.. أما الزبائن من حوله فلم يرفعوا حواجبهم لينظروا إليه، كانوا جالسين، بين من يتصفّح مجلّة مصوّرة أو من يقلّم أظافره.. أحدهم كان ينظر عبر الباب إلى خارج الصالون، وقد لفتت نظره فتاتان ترجلتا من سيارة أجرة عند المدخل. أما الحلاق، وبعدما كرّر تمرينه ثماني مرّات، عاد إلى زبونه الذي جفّ الصابون على ذقنه، بلل الفرشاة بالماء، وأعاد إحياء الرغوة، حمل الموسى وتابع الحلاقة من حيث توقّف.
في تلك اللحظة انطلق صوت المؤذّن ذي الحازوقة من المسجد القريب، كانت الساعة الرابعة وخمس دقائق عصرًا. هزَّ الحلَّاق رأسه، رفعه عن ذقن الزبون ونظر نظرة فيها قليل من الخبث باتجاه المسجد، ثم رسم ابتسامة على شفتيه.. تقول الابتسامة "أترى! ها أنت تأخّرت من جديد خمس دقائق كاملة حتى تدير إبرة الفونوغراف، لكن يا صديقي الله أكبر من كل شيء، ويأتي في المقام الأوّل".