"بلوزة"

نص من اليمن بقالب قصصي، يروي على لسان شاب يافع الحنين إلى أشياء الحياة العادية..
2017-12-15

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
حكيم العاقل - اليمن

آنذاك، كنت أحاول توفير ما استطعت من المال. كان الشتاء غاضباً، وكنا أشد منه غضباً وشعوراً بالخذلان. لكننا بطريقة ما كنا ننْفذ من تلك الفجوات الضيقة التي اعتدنا العيش فيها، ثم نعيش في الفسحة المتسعة لدقائق أو لساعات. نفعل ذلك ما استطعنا، كأن يقرر أحدهم دعوتنا لعزومة قات. كنا قد نزحنا جميعاً، وكان يجب علينا ــ كرجال ــ أن نفعل شيئاً. نساءنا كن قد استنفدن كل حيلهن الممكنة ولم يتبق لهن سوى ذلك الكمد الناتج عن قلة الحيلة. كنا نعيش جميعاً في بيت خالي. خالي، الذي مثله كالآخرين، كان وجهه قد تآكل بفعل الكمد أيضا وقلة الحيلة، لذا كنا نتناوب على الصمت، واتفقنا من دون حديث على ألا نشكو. كان هذا ما حدث وكانت الحرب، وصادف أن أبي قد مات منذ زمن، لذا لم يعد أحدنا يشكو لأننا جميعاً نقتسمه ونتشاركه، أمي فقط تهمس أحيانا في أذن أختي الكبيرة المتزوجة والقاطنة غير بعيد عنا، بشكوى مريرة عن وضعها وعن نظرات زوجة خالي وكيف لا تريدنا أن نبقى معها في البيت. زوجة خالي كانت أكثر تصميماً على التحمّل والأمل من أن ترمق أمي بنظرات من أي نوع، لكن هكذا كانت أمي تشعر.
ذلك المنظر الشهي للحياة وللمال أصبح منسياً بشكل ما، أصبح حراماً بشكل مفرط، إذ لو عرف أحدهم أن آخر لديه مال، ترتسم على وجهه ملامح مفزوعة لمن عَرف بارتكاب جريمة، وتلتمع العينان بأمنية وخيال. كنت أحاول ألا أرتدي ذلك الوجه، على الأقل ليس بشكل واضح وفج، وأيضا ألا أرتدي ذلك الوجه الكامد لخالي أو أمي، لكني في مرايا الحمامات التي كنت أغسلها في المطعم الكبير، كنت أراه ــ وجهي ــ  بالغ الكمود، وبعينين تعطيانه ذلك البؤس، وإن لم أكن بائساً. عينان صغيرتان غارقتان، كأنهما فقط مآق لدموع ستنهمر في أي لحظة، ولم تكونا لامعتين، والشعيرات الخشنة المنثورة بدون ترتيب على فودين جافين، تعطيني سمة البلوغ كما تعطيني سمة التسوّل، لذا استبدلت خيبة الأمل بعقد حاجباي. كان الغضب أكثر احتراماً من البؤس، على الأقل بالنسبة لي، كنت أمسح المرايا الجديدة بينما أعقد حاجباي على أقصاهما، وقد فقدت تلك التجعيدة الخاصة بالضحك، لكني لم أكن أفقدها بالمطلق، كنت أستبدل هذا بذاك.


اقرأ أيضاً: بريد مؤجّل لأمي


كنت بحاجة لجاكيت، لشيء ألبسه في البرد المعتوه. قبل زمن كنت أمشي من شارع 16 ذاهبا للمدرسة، وعلى الطريق كنت دائماً أرى ملابس منشورة في الشمس، وكانت لمحل ملابس. وحين استغربت قالوا لي أنها ملابس مستخدمة، وضحكت، آنذاك لم أكن قد أٌجبرت على استبدال تجعيدة بأخرى، واستغربت بسذاجة كيف لأحد أن يرتدي ملابس مستخدَمة، واستغرب صديقي كيف لأحد أن يبيع ملابسه. أتذكر ذلك بينما أعبر على أنقاض الأرصفة، متساءلا إن كان سيأتي يوم تبنى هذه الأرصفة بشكل أجمل مما كانت، هل ستستبدل من جديد؟ كان يجب علي أن أجد هذه الملابس المستخدمة علّني أفوز بدفء رجل عجوز أو شاب ميت، إذ يجب أن أرتدي شيئا وأن أرتديه بـ200 ريال لا أكثر. ولم أسأل، فقط مضيت، كنت أحفظ ما تبقى من كرامة بألا أسأل هذا السؤال، ومع أنه لم يكن من شيء ليختبئ مع هذه العينان البائستان إلا أني ما زلت أدعي بقوة وبوقاحة، وأكاد أدلي بآرائي السياسية في الحافلات التي لا أدفع أجرتها، لكني أتراجع حين أسمع صوتي ووقعه الغريب في أذنيّ فأمقته وأصمت.

 

كان الغضب أكثر احتراماً من البؤس، على الأقل بالنسبة لي. كنت أمسح المرايا الجديدة بينما أعقد حاجباي على أقصاهما، وقد فقدت تلك التجعيدة الخاصة بالضحك، لكني لم أكن أفقدها بالمطلق، كنت أستبدل هذا بذاك..

 

وجدته كما كان، أبعد قليلاً من القبة الخضراء الرابضة في نهاية الشارع قريباً من الجامع، هنا أيضا ذات يوم هرعت لأشاهد بقايا تفجير، وأشتم تلك الرائحة المهلكة للبارود والدم ولدموع الرجال، جئت مدفوعاً بفعل الحنين لأول منزل، ولم أفكر بهذا المحل، لكنه ها هو كما كان، كالحاً، لم يستبدل شيئا، محتفظا بكآبته ورائحة عفن خفيف تصدمك عند أول خطوة تخطوها للداخل. يقف رجلان شائبان، يتحدثان بهدوء وينظران إلي بشفقة وحيرة، أردت أن أفرد يداي ثم أتحدث طويلاً. هناك مدرستي، كان هذا منذ زمن طويل جدا جدا، لكنه في الحقيقة خمس سنوات فقط لا غير. ستذكراني أيها الرجلان لا محالة، في ذلك الزمن الغابر كنت أعيش غير بعيد من هنا، ثم قررت أمي بعد وفاة أبي أن ننتقل قريباً من بيت خالي في "فج عطان"، ثم ضعنا وضاع فج عطان (منطقة من مدينة صنعاء، وهي جبل مشهور لكثرة ما تعرض لقصف طيران "التحالف العربي" بقيادة السعودية حتى صار عنواناً لمأساة صنعاء).
وسأتحدث عن الحمامات ورجال الميليشيا والطائرات ووجبات الثالثة عصرا التي نجمع فيها الغداء والعشاء، وابنة أختي الجريحة، لكن العجوزان كانا أهدأ من أن يستمعا لحكايتي. أخذت أجول في المكان، كان الدكان مكتظاً وسأجد شيئاً لا محالة. حينما عبرت من قسم ملابس النساء، اندفعت عيناي وبإحساس الحرمان المرير والعشق المتقد تتفحصان زاوية المكان قريبا حيث أقف وتصنعان الخيالات. أخذت أنظر في البداية محرجا تحت وطأة الجرم المشهود، لكن فكرة أني من الممكن أن أكون أخاً أو زوجاً أنقذتني، واستعدت شجاعتي، أخذت ألمس القطع الصغيرة الملونة، كمن يلمس فسيفساء، ثم التقط أنفي رائحة غريبة، لا علاقة لها بالعفن الذي يحتشد في الدكان. ربما كان خيالي، ولا وجود لرائحة. كانت "بلوزة" معلقة أمامي تماما، وسعرها يتدلى: "70 ريال". التقطتها وتأكدت أنهما لا يراني، ثم شممتها، تأكدت أنها كانت رائحة خاصة، قررت أني سأحتفظ بها.


اقرأ أيضاً: في قرية من جبال اليمن.. مزاريب الذكريات


كنت محموماً، كأنما ارتكبت شيئا قذراً، نسيت شأن الجاكيت، اشتريت منهما "البلوزة" متلعثما، وضعاها في الكيس بدون نظرة الشك. كان طبيعياً، كنت أسير بها مطأطأ رأسي، فقط أردت أن أشتمها مرة أخرى لأتأكد من رائحتها، أخذت بالمشي دون وجهة، لكني عرفت أين تقودني قدماي، نحو المناطق الخلاء في مخروبة فج عطان المدمر، كان ذلك الوعي الملتهب لمجرم يجد حله دون التفكير فيه، حين إختبأت بين الأنقاض، منهكا للحد الذي لم أرغب فيه بأكثر من النوم، كانت الشمس تغرب، ذلك الأصيل الفاتن لمدينة منكسرة، لمدينة صارت تبدأ بالقتل وتنتهي به، المدينة التي كانت ترتفع فيها المنازل باذخة الجمال وعلى جانبيها يموت الناس بسبب الجوع، كنت ازداد بغضاً في كل لحظة ويحفر قلبي مسمار السؤال: لماذا أنا؟
كانت "البلوزة" خضراء اللون، مزهرة بزهور بيضاء باهتة، قماشها قطني، وعلى أطرفها دانتيل أبيض ناعم، وكانت صغيرة، ربما لمراهقة رشيقة، فردتها على ركبتاي، كي أحتفظ بشكلها في مخيلتي، وليتسع لي المجال لتخيّل الجسد الذي سكنها يوما. كنت أرتعش من البرد، والرائحة ما زالت عليها، رائحة خفيفة لعطر أو ربما بخور، رائحة لجسد، وضعتها على وجهي ثم تكومت كي احتفظ بدفء نفسي، كانت الرائحة في عيني وأنفي وفمي وقلبي، كانت رائحة الأيام التي ذهبت للأبد، رائحة أحلامي وخيالات اليقظة، رائحة كل البيوت التي قطنتها ثم رحلت، كنت سأجهش بالبكاء، لكني عند أول دمعة ساخنة، أحسست باللاجدوى فنهضت ومسحتها بالبلوزة، التي أعدتها إلى الكيس مستسلماً، لم يكن من ضياء في المدينة، وضعتها هناك بين الأنقاض وعدت أدراجي، محموماً..


اقرأ أيضاً: اللحظة الأخيرة قبل الصاروخ


مقالات من اليمن

للكاتب نفسه

رثاء...

ريم مجاهد 2023-07-06

"صلاح" لم يكن ابن أمي الوحيد، لكن أمي كانت - تقريباً - عالم صلاح الأوحد. هذه العلاقة التي تُسلّم بها العائلات التي تحظى بطفل/ة من ذوي الاحتياجات الخاصة... يعرف الجميع...