بين 28 تشرين الثاني/ نوفمبر والرابع من كانون الاول/ ديسمبر 2017 حدثت أكثر التطورات درامية في حياة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، كما في المشهد اليمني الراهن بشكل عام.
في اليوم الأول اختلق صالح مناسبة لتكريم مناضلي عيد الاستقلال (30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967) بغاية الإطلال على شاشات التلفاز بعد انقطاع. فقد أراد بعث رسالة للسعودية، تحديداً، بأنه مستعد لمد يد السلام مقابل وقف القصف الجوي ورفع الحصار عن اليمن، وقيامه بإقناع حلفائه الحوثيين بوقف إطلاق الصواريخ على الأراضي السعودية. لكنه جدد رفضه لشرعية هادي، معتبرا الشرعية الوحيدة هي للمجلس السياسي الأعلى المشكل مناصفة بين حزبه وبين جماعة "أنصار الله" (الحوثيون). ظهيرة اليوم التالي قام مسلحون حوثيون بمهاجمة جامع الصالح أحد رموز صالح الأثيرة التي ظلت تحت سيطرته منذ 2012، وانتهى الهجوم بوساطة قبلية قضت بالسماح لمسلحين حوثيين بالتمركز في حوش الجامع كترتيب أمني في إطار إعداد الجماعة للاحتفال بالمولد النبوي حيث سحشد أنصارها في ميدان السبعين المحاذي للجامع. وحدثت التسوية بعد سقوط قتلى وجرحى من الجانبين.
ويبدو أن الحوثيين لم تقنعهم نتيجة الاشتباكات مع صالح، وأنهم قرروا إرضاخه بالقوة وإخراجه من الحياة السياسية كما صرح قياديان في الجماعة لاحقاً. فقاموا في اليوم التالي بالضغط عليه لجره لمواجهة أوسع عبر محاصرة منازل أقاربه وأبناء شقيقه محمد (طارق ومحمد وعمار) تحديداً، باعتبارهم قادة الجيش الموالي له والمسؤولين عن حمايته. فتدخلت وساطة أخرى مع فشل الجماعة بالسيطرة على المنازل المستهدفة.
تحدث الحوثيون لاحقاً عن معلومات وصلتهم تفيد بتنسيق صالح مع "التحالف العربي" بقيادة السعودية للانقلاب عليهم. أي أن محاصرتهم لمنازل أقاربه كان الهدف منها إرغامه على المواجهة واستفزازه حتى يخوض معركته المؤجلة معهم قبل نضوج ترتيباته العسكرية.
يوم الجمعة، الأول من الشهر الجاري، احتشد مصلون موالون لصالح بكثافة في جامعه وخرجوا بمظاهرة هي الأولى من نوعها، رفعت شاعر "لا حوثي بعد اليوم"، لتشتد المواجهات مساء اليوم نفسه وتستمر حتى صبيحة السبت، مع إعلان صالح عبر وسائل إعلامه عن انتصار حاسم ضد الحوثيين، بدحرهم من أماكن هجومهم وفك الحصار عن منازل أقاربه كهدف كان واضحاً أن الحوثيين قد اختاروه بعناية.
قبل ظهر السبت (2 كانون الاول/ ديسمبر) ظهر صالح في خطاب تلفزيوني هاجم فيه حلفائه الحوثيين بشدة منتقداً سياساتهم مُسوِّءاً إدارتهم للبلد خلال ثلاثة أعوام، وداعياً الجيش والأمن إلى رفض أوامرهم، ومواجهتهم لاستعادة الجمهورية كما قال. وأعلن أن السلطة ستسلَّم للبرلمان الذي يمتلك حزبه أغلبية مقاعده، مجددا الدعوة للسلام مع "التحالف". وكان ذلك بكل المعاني بمثابة إعلان حرب ضد حلفائه / الخصوم.
خلال 24 ساعة تغير المشهد والتوازن كلياً، ومالت الكفة لصالح الحوثيين، وقاموا بالاستيلاء على قناة صالح وحجب مواقعه الإخبارية وقطعه عن العالم. وتحولت صنعاء إلى مدينة رعب، وتعرض سكان المناطق المشمولة بالاشتباكات العنيفة للحصار لمدة ثلاثة أيام كاملة
قبل ساعتين تقريبا من خطاب صالح، كان زعيم جماعة أنصار الله قد القى خطاباً استباقياً هادئاً ومرناً دعا فيه صالح وحزبه إلى التعقل واللجوء إلى الحوار بينهما كحلفاء ضد ما وصفه بـ"العدوان". لكن صالح لم يشر إلى الخطاب، ولم يلتقط تلك الرسالة في خطابه، ما دعا عبد الملك الحوثي إلى الظهور في خطاب آخر مساء اليوم نفسه، متبنياً لهجة ومضموناً مختلفين، وصف فيه القوات الموالية لصالح بالميليشيات، ووعد بالقضاء على ما اعتبره خيانة وانقلاباً على تحالف الطرفين. وتحدث باعتباره ممثلاً للدولة.
لا أحد يعلم ما الذي حدث خلال تلك الساعات المصيرية في تاريخ البلد وفي مسيرة الحوثيين وحزب المؤتمر ليعلن صالح انقلابه على حلفائه، ولا ما الذي دفع زعيم الحوثيين إلى تغيير خطابه بتلك الدرجة.
هل كان صالح على تواصل مع دول "التحالف العربي" بقيادة السعودية فعلاً، أم أن ضغط الحوثيين عليه وعلى أقاربه قد دفعه لإعلان المواجهة وفك تحالفه معهم من باب الثأر لكرامته ومكانته. وهل كان قد أعد نفسه للمواجهة أم أن الحوثيين نجحوا في استدراجه إليها. وما الذي منح الحوثي كل تلك الثقة بالقدرة على إزاحة خصمه من المشهد؟
كثف الحوثيون هجماتهم على الأماكن المستهدفة كمنازل خصومهم وتحديداً أبناء شقيق صالح، وحشدوا رجالهم بكثافة وسرعة، وعاودوا الهجوم باستماتة. فالمسألة معركة مصير وبقاء، وليست فقط حصول على مكاسب إضافية. وفي الوقت نفسه، كثفوا مساعيهم لاستقطاب قبائل طوق صنعاء الذين بيدهم مفاتيحها دون سواهم.
خلال 24 ساعة تغير المشهد والتوازن كلياً، ومالت الكفة لصالح الحوثيين، وقاموا بالاستيلاء على قناة صالح وحجب مواقعه الإخبارية وقطعه عن العالم. وتحولت صنعاء إلى مدينة رعب، وتعرض سكان المناطق المشمولة بالاشتباكات العنيفة للحصار لمدة ثلاثة أيام كاملة.
اقرأ أيضاً: اليمن.. الإمعان في الحرب وإدارة العنف بأبخس الأثمان
أصبحت قوات صالح في موقع الدفاع، وقاتلت باستماتة هي الاخرى، فمصير صالح أصبح على المحك، ولا مجال للتراجع، على الرغم من حديث عن وساطات تمت خلال الاشتباكات. إلا أن صالح رفض شروط الحوثيين باعتزال الشأن العام، والخروج من صنعاء إلى قريته القريبة منها سالماً، كما صرح قيادي حوثي بعدها بيومين.
ليلة االرابع من كانون الاول/ ديسمبر توسع حصار الحوثيين ليشمل منزل صالح نفسه في منطقة حدّة، مع سيطرة الحوثيين على منزل آخر له في شمال صنعاء. ولم تتغير المعادلة على الرغم من إعلان "التحالف العربي" وقوفه في صف صالح في وجه جماعة الحوثيين كخصم مشترك.
عرض الحوثيون صوراً وفيديوهات لمحتوى منزل صالح الذي سقط في أيديهم، وسيطروا على منزل نجل شقيقه وقائد حرسه الشخصي طارق محمد عبد الله الذي كان هدفاً رئيسياً للجماعة يوازي صالح في أهميته تقريباً. وأيضا سقطت منازل أشقائه في منطقة بيت معياد بصنعاء. وأصبح رمزياً في حكم المنتهي.
تراجع الزخم الجماهيري الذي أبداه سكان صنعاء أمام انتصارات قوات صالح قبل يومين، صبيحة 2 كانون الاول/ ديسمبر، وحل محله الصمت والخوف.
صباح الرابع من الشهر، كانت مفاجأة كبرى تنتظر صنعاء. أعلن الحوثيون انتهاء "الانقلاب" و"وأد الفتنة"، وبدت الأنباء والتسريبات عن مصير صالح موضوع الساعة، وليس فقط هزيمته أو انتصاره في معركة أعلنها قبل 48 ساعة بكل ثقة بالنصر على خصومه فيها.
ظهيرة ذلك اليوم، أعلنت وزارة الداخلية الواقعة تحت سيطرة الحوثيين أنها ستلقي بياًنا هاماً لتوضيح مصير صالح. وقبلها انتشرت كالنار في الهشيم صوراً فوتوغرافية ومقطع فيديو لم يتجاوز الدقيقتين لعدد من المسلحين الحوثيين بلباس شعبي يحملون جثة صالح ملفوفة في بطانية على ظهر سيارة بيك أب. وقالت روايتهم أنه تم قتل الرجل في الطريق بين صنعاء ومأرب اثناء محاولته الفرار باتجاه الأخيرة، وهي مركز سلطة "الشرعية" الموالية للرئيس هادي.
أصبح همُّ قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام والموالين لصالح يتركز في دحض رواية الحوثيين عن مكان وطريقة مقتل الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وأكدت روايتهم أن الرجل قتل أثناء اشتباكه مع الحوثيين المهاجمين لمنزله في حدّة، وأن الجماعة نقلت جثته من المنزل إلى المكان الذي تم فيه تسجيل مقطع الفيديو الذي نشره الحوثيون، بهدف تشويه سمعته وتقديمه كرجل جبان حاول الفرار من المعركة، وكرجل خائن كان في طريقه إلى معقل خصومهم في مأرب.
اقرأ أيضاً: تدحْرُج "العربية السعيدة" إلى الجحيم.. صفقات صالح السريّة
وكما تدرج صالح في إعلان تحالفه مع جماعة الحوثيين بداية الحرب الجارية، فهو انتقل خلال أسبوع واحد وإن تدريجياً، من حليف إلى خصم لهم. وخلال 48 ساعة فصلت بين خطابه كمنتصر وبين إعلان مقتله، تغيرت المعادلة السياسية والعسكرية في اليمن. وكانت تلك النهاية أسرع وأغرب مما تخيل أي متابع للوضع اليمني، على الرغم من أن خلافات المؤتمر وأنصار الله كحليفين في مواجهة قوات الرئيس هادي و"التحالف العربي" بقيادة السعودية كانت تظهر للعيان وتتصاعد بين وقت وآخر، وعلى الرغم من معرفة الجميع أن تحالفهما "تحالف ضرورة" وأن استمرار الحرب ضد خصوم مشتركين كان مبرره الوحيد. إلا أن المفاجأة أسرت الجميع، وغموض الدوافع والأسباب المباشرة لما حدث لم يُكشف بعد بشكل يمكن الاعتماد عليه بثقة.
75 عاماً من حياة صالح وتقلباته اختصرتها 7 أيام لا أكثر. و33 عاما من الحكم لم تزل انعكاساتها ومعطياتها ماثلة في حياة اليمنيين كأقوى رجل في اليمن على مدى أربعة عقود، وسنوات من التحالف الفاصل بين حروبه ضد الحوثيين كرئيس وحربه معهم كحليف ما تزال بحاجة للبحث والدراسة.
هو الرئيس اليمني الخامس الذي يموت قتلاً، ويبدو أن الحوثيين دفنوه سراً تفادياً لتشييعه ودفنه في العاصمة صنعاء. وبكل الأحوال، أنه لم يعد هناك من أسرته من يستطيع الظهور واستلام الجثمان لأنهم هدف للحوثيين الذين احتفلوا بمقتله في حشد جماهيري أقيم في المكان نفسه الذي احتفلوا فيه بدخولهم صنعاء كحلفاء له في ايلول / سبتمبر 2014.