مرت خمسة عقود بائسة، ولا زال الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة يعيشون تحت نير الاحتلال العسكري الإسرائيلي. خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية ساهمتْ عملية السلام في كبح جماح المقاومة الفلسطينية بقدر ما رسّخت جذور الاستعمار الإسرائيلي. وتماما كما وصل مشروع التحرر الوطني الفلسطيني إلى طريق مسدود، إذ سجل فشلاً تاريخياً في سعيه للتحرر من الاحتلال، ينطبق الأمر على الظروف المواتية لإحداث تنمية اقتصادية انحسرت هي ايضاً من الأفق.
منذ بدأتُ بدراسة الاقتصاد الفلسطيني في الثمانينات من القرن الماضي وحتى اليوم، لازمتني بعض الأفكار بشكل متكرر ورسخت في قناعاتي. بغض النظر عن موقفي السياسي وتحليلاتي حول فرضية حل الدولة أو الدولتين للقضية الفلسطينية، إلا أنه من الواضح أن كلا الحلين يفرض ظروفاً وخيارات مختلفة للتنمية الاقتصادية الفلسطينية.
لنتفحص الخلاف الناتج عن التناقض الأساسي المتمثل في مفهوم "التنمية في ظل الاحتلال، أم بالرغم من الاحتلال". وهو نقاش محتدم بين هؤلاء الذين يعتبرون التنمية بديلا، أو ناتجا - فرعيا، أو شرطا مسبقاً، للاستقلال.
تنمية تحت الاحتلال؟
السؤال الأول والرئيسي الذي يستوجب طرحه هو "ما الدور الذي يلعبه الاقتصاد الفلسطيني في ظل الهيمنة السياسية والعسكرية لإسرائيل على الأراضي الفلسطينية؟".
الإجابة على هذا السؤال تنطوي على فحص مقاربتين متناقضتين، أحداهما متجذرة في مفاهيم راسخة حول "علاقات مزدوجة ومتكافئة" نظرياً بين اقتصاد إسرائيلي/ يهودي وآخر فلسطيني/عربي. وهي مفاهيم يعود ترويجها إلى فترة الانتداب البريطاني. أما المقاربة الأخرى فتقوم على معتقدات فلسطينية ثابتة حول التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار الاستيطاني.
كانت المقاربة الأولى، أو ما سمي بفرضية "الاقتصاد المزدوج"، الأكثر تفضيلاً على المستوى الأكاديمي والسياساتي قبل عام 1948. حيث تفترض تحقيق التنمية الاقتصادية الفلسطينية، والحداثة، والإصلاح المؤسساتي بغض النظر عن آفاق إقامة الدولة، أو في الآونة الأخيرة، كخطوة نحو التأهل لإقامة الدولة. تقع نظرية الازدواج الاقتصادي والتقسيم السياسي هذه في صميم تبرير والدفاع عن حل الدولتين.
إذا استمر وضع ميزانية السلطة بالكفاءة الحسابية نفسها، فإنه سيكون بالإمكان قريباً تغطية تكلفة الاحتلال الاقتصادية والاجتماعية بشكل كامل من خلال الموارد الفلسطينية ودعم المانحين.. مما يزيل العبء عن القوة القائمة بالاحتلال، ويترك موارد أقل للاستثمار في التنمية.
مشكلة هذه النظرية هي أن تحقيق ما يسمى بالتنمية الاقتصادية هو عملية مختلفة تماماً عن إحداث نمو هش لاقتصاد مشوه معتمد على الغير، وهو نوع التغيير الذي شهدته الأراضي الفلسطينية في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
ثبت أن تحقيق "التنمية" أمر مستحيل في ظل الاحتلال العسكري، مع أن جميع الخطط والبرامج الاقتصادية الفلسطينية ما تزال تنشد ذلك الشعار العريض. برغم أن اقتصاد الأراضي الفلسطينية المحتلة قد نما فعلاً خلال الخمسين سنة الماضية، إلا أن هذا النمو اتبع مساراً متقلباً وعشوائياً، وقد صاحبته عملية "نكوص التصنيع" وانهيار للقطاع الزراعي وأزمات اجتماعية متتالية. فالنمو المفاجئ الناتج عن المساعدات أو إحراز تقدم دبلوماسي، دائماً ما كان يتبعه انكماش وكساد اقتصادي نتيجة الحروب والانتفاضات والعقوبات الجماعية التي تفرضها إسرائيل. دورة الركود الاقتصادي المستمرة منذ توقف المفاوضات واندلاع هبات متكررة في القدس ومناطق أخرى، هي مثال آخر على ذلك.
أيما كان ما تم تحقيقه في السنوات الخمسون الماضية من انجازات اقتصادية أو اجتماعية أو مؤسسية، إلا انه لم يكن بمثابة تنمية. وذلك ليس مفاجئاً، فسيادة دولة إسرائيل الفعلية على كامل أراضي فلسطين التاريخية تمنحها السيطرة الكاملة على المحددات الرئيسية للحياة الاقتصادية الفلسطينية: الحدود، والحركة الداخلية وإمكانية الوصول، والإيرادات الضريبية على التجارة والموارد الطبيعية والمعادن الفلسطينية، ناهيك عن تدفق حركة العمالة الفلسطينية إلى إسرائيل. هكذا تعودت إسرائيل ــ وعودتنا ــ على استغلال اعتماد الفلسطينيين على اقتصادها لتفرض شروطاً مجحفة على التعاملات المختلفة الاقتصادية والمدنية والسياسية.
اقرأ أيصاً: الخيارات الفلسطينية أمام "السلام الاقتصادي"
إن تنفيذ خطة تنموية وطنية فعالة، والإشراف عليها، يتطلبان إتاحة الوصول للموارد وتنسيق الجهود الاستثمارية الوطنية، وهذا أمر مستحيل مع انعدام السيادة. وقد لاقت جهود رئيس الوزراء ــ آنذاك ــ الدكتور سلام فياض لإصلاح المؤسسات الفلسطينية خلال الفترة 2009 ــ 2013 استحساناً واسع النطاق من قبل الخبراء والدول المانحة وكذلك المنظمات الدولية. أياً كانت الإنجازات على المستوى الفني التي قد تكون حققتها تلك الموجة الإصلاحية، إلا أنها لم تتمكن من تجاوز رفض إسرائيل للتنازل عن سيادتها على أي جزء مما تعتبره "أرض إسرائيل" أو التغلب عليه. اليوم امتدت جذور الاحتلال أكثر من أي وقت مضى. فالدولة الفلسطينية التي أعلن عن استقلالها عام 1988، ثم عن إقامتها في عام 2012، مسلوبة من حقها بفرض سيادتها بأي شكل كان. وبالطبع في ظل هذا الوضع تبقى التنمية حلماً بعيد المنال.
أما الرأي الثاني، والذي كان منتشراً على مستوى الرأي العام الفلسطيني طيلة جيلين من النضال التحرري، فهو يصر على أن الاستقلال الوطني مطلب مسبق للتنمية الاقتصادية المستدامة. وهنا لا ينصب التركيز على نموذج الدولة، بل على مقاومة الاستعمار وعلى أبعاد تتعلق بالحقوق وبآفاق التنمية الاقتصادية. فأي خيار آخر كبديل للعدالة يعتبر مرفوضاً أو محاولة أخرى مشبوهة لشراء إذعان الفلسطينيين للحكم الإسرائيلي الأبدي.
قد شكل هذا الفهم للعلاقة بين التنمية وتقرير المصير الوطني العقيدة الاقتصادية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أولاً في سياق هدف الدولة الواحدة الديمقراطية العلمانية، ثم مع التحول إلى صيغة الدولتين منذ منتصف سبعينيات القرن الفائت. تمسكت م.ت.ف. بمبدأ السيادة قبل التنمية، على الأقل لفظياً. المشكلة الأساسية التي تواجه هذا النهج هو أن الاستقلال الوطني تعذر تحقيقه خلال 70 عاماً وليس وارداً، في المستقبل متوسط المدى على الأقل.
السؤال الذي يخص مستقبل نحو 5 ملايين فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال، و1.5 مليون فلسطيني يعيشون كمواطنين في إسرائيل، هو ما إذا كان هناك مسار بديل للمسار الفكري والسياسي الذي وصل طريقاً مسدوداً. فهل يمكننا أن ننظر للاقتصاد الفلسطيني وتنميته ليس كبديل أو كناتج فرعي أو كشرط مسبق لتحقيق الاستقلال الوطني، وإنما كوسيلة وأداة لتحرير الشعب الفلسطيني من الظلم الوطني والاجتماعي؟
منذ عام 1994، أصبح جزء من الشعب الفلسطيني في حوالي 40 في المئة من الضفة الغربية وفي قطاع غزة "يحكمون أنفسهم"، من خلال سلطة فلسطينية تعد "سلطتها" رهينة للمساعدات الدولية، وللمصالح الأمنية الإسرائيلية، ولما تبقى من شرعية لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية التي قادت منذ زمن الكفاح الوطني للتحرر.
من المؤكد أن السلطة الفلسطينية تتمتع بمظاهر الدولة وتمارس بعض وظائفها. ولا يمكن لأحد أن يشكك في كفاءة تعاملها مع ملف الأمن الداخلي، وفي مساعيها لتوفير أهم الخدمات الاجتماعية، وفي تنظيم الشؤون المدنية، وفي جباية الضرائب الداخلية، وفي تأمين رواتب القطاع العام، وغير ذلك من المسؤوليات غير السيادية. بالنسبة للكثيرين من الفاعلين في المجال السياسي والقطاع الخاص، فإن السيطرة الفلسطينية على هذه الشؤون ليست إنجازاً قليلاً، بل هي خطوة ضرورية في طريق إقامة الدولة والتأهل لممارسة السيادة.
لكن على أرض الواقع تبدو الحقائق مثيرة للقلق: فأعداد المستوطنين والمستوطنات الإسرائيلية في تزايد أكثر من أي وقت مضى، وأصبح خطاب السياسيين الإسرائيليين الاستعماري والعنصري والمؤيد لضم الأراضي وتهجير سكانها العرب أمراً طبيعياً، ونادراً ما كانت الضغوط الدولية لإنهاء الاحتلال بهذا الضعف أو الخجل. كما أصبح معظم الفلسطينيون (حتى فلسطينيو قطاع غزة المحاصر) غير مستعدين للمجازفة بالحياة التي يعيشونها وفق الترتيبات الحالية، أو بالرفاهية المحدودة التي يتمتع بها البعض، في سبيل النضال لنيل الاستقلال، أو التضحية من أجله، على الأقل في غياب إستراتيجية مجدية أو الوحدة السياسية الضرورية.
اقرأ أيضاً:
الطريق من بيروت إلى القدس يمرّ بواشنطن
صعود الفكر والممارسة الاقتصاديين الفلسطينيين وسقوطهما
باختصار، رغم قرن من المواجهة مع الاستعمار الاستيطاني، وخمسون عاماً من الاحتلال العسكري، ما زال الشعب الفلسطيني محروم من كل من حقوقه الوطنية ومن إمكانية التنمية. معظم الفلسطينيين اليوم يختارون، ولو على مضض، التركيز على المكاسب الفردية والمادية التي من الممكن تحقيقها على المدى القصير. سواء أكان ذلك مخططاً له أو بفعل الظروف، فإن البديل الذي بات الفلسطينيون رهائن له اليوم هو السلام الاقتصادي، ما يعتبره البعض سبيلاً لتحقيق مستوى معقول من الحياة، بينما يرفضه البعض الآخر باعتباره تعاوناً / تطبيعا مع دولة الاحتلال إسرائيل.
على أية حال، فإن الواقع الإقليمي السائد يعني أن نظام الحكم الفلسطيني المسمى بدولة فلسطين موجود ليبقى. مع أن خيوط سيطرة السلطة الفلسطينية تنسل من بين أيديها عند أطرافها. وعلى الرغم من استمرار أعمال المقاومة الفردية والشعبية يومياً، إلا أن إنجازات السلطة الملموسة قد أمنت قبل أي شيء درجة من الاستقرار، أو ربما حالت دون اندلاع ثوري واسع، كما نجحت في حشد رأي عام وطبقة وسطى مؤيدة لمبادئ المواطنة الليبرالية.
لكن مع ما هو متاح لديها من أدوات، لا يمكن للسلطة الفلسطينية أن تأمل في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية التي تواجه الشعب الفلسطيني أو تخفيفها، خاصة دون التمتع بقرار سيادي. وعلى الرغم من هذا العجز البنيوي، يتوقع العالم من السلطة الفلسطينية أن تكون "مسؤولة مالياً". الواقع أنه إذا استمر وضع ميزانية السلطة بالكفاءة الحسابية نفسها، فإنه سيكون بالإمكان قريباً تغطية تكلفة الاحتلال الاقتصادية والاجتماعية بشكل كامل من خلال الموارد الفلسطينية ودعم المانحين، مما يزيل العبء عن القوة القائمة بالاحتلال، ويترك موارد أقل للاستثمار في التنمية.
وصل اليوم التناقض بين هاتين المقاربتين نقطة لا رجوع فيها. فالمفاضلة بين السلام السياسي والاقتصادي أصبحت صارخة اليوم، مما يستدعي إعادة تقييم للأهداف الوطنية والاستراتيجية للشعب الفلسطيني. هذا بدوره يتطلب تقديراً واقعياً للتكلفة التي يتكبدها النضال من أجل التحرر الوطني نتيجة تحويل الاهتمام الشعبي تجاه المشاكل الحياتية بضرورة العيش، والعمل، والإنجاب. في الحالة الفلسطينية، فإن هذه المشاكل لا تقل حقيقية أو أهمية عن الواقع المرير الناجم عن سلب الوطن، وخيبة الآمال بكل ما وُعد به هذا الشعب ولم يتحقق.
السؤال الذي يخص مستقبل نحو 5 ملايين فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال، و1.5 مليون فلسطيني يعيشون كمواطنين في إسرائيل، هو ما إذا كان هناك مسار بديل للمسار الفكري والسياسي الذي وصل طريقا مسدوداً. فهل يمكننا أن ننظر للاقتصاد الفلسطيني وتنميته ليس كبديل، أو كناتج فرعي، أو كشرط مسبق، لتحقيق الاستقلال الوطني، وإنما كوسيلة وأداة لتحرير الشعب الفلسطيني من ظلمه الوطني والاجتماعي؟ بالتالي هل يجب أن نتصور اقتصادنا المستقبلي في سياق دولة وطنية مستقلة، أو كمناطق تتمتع بدرجات متفاوتة من حكم ذاتي تحت سيادة إسرائيلية، أو كمواطنين متساوين باليهود الإسرائيليين في دولة ديمقراطية؟
لابد من الانطلاق في تطوير فكر جديد حول ارتباط السياسة والاقتصاد بفهم واضح لما نعنيه بمصطلح "الاقتصاد الفلسطيني".