دفعت أحداث العام 1958 اثنين من أبرز الرحالة التشيكوسلوفاكيين، يرجي هانزيلكا (1920-2003) وميروسلاف زيكموند (ولد سنة 1919)، إلى زيارة لبنان، فانطلقا في رحلة بريّة طويلة في نيسان/ أبريل 1959 من العاصمة براغ نحو بيروت مروراً ببودابست، بلغراد، سراييفو، سكوبيه، تيرانا، صوفيا، إسطنبول، إزمير، الساحل السوري، واستقرّا في مبنى قانصو الكائن في شارع مدام كوري في رأس بيروت. وقد شاركهما هذه الرحلة رفيقان هما الميكانيكي أولديرجي هالوب والطبيب روبرت وست، واستعانا فيها بسيارتين من نوع "تاترا 805". قضى هانزيلكا وزيكموند في لبنان شهوراً فكتبا عدداً من المقالات التي نشراها في صحف براغ، تناولا فيها ثورة العام 1958: نتائجها وآثارها، الطائفية والتحاصص، الطبقات والغنائمية والاستزلام، الحياة السياسيّة في لبنان، العائلة اللبنانية، الاقتصاد اللبناني وعلاقته بدول الخليج العربي، والاستثمارات العربية والأجنبية والتجارة العامة، المهاجرون اللبنانيون، العمارة والفنون، مهرجانات بعلبك الدولية.. وقابلا كذلك الزعيم الراحل كمال جنبلاط، مقابلة نأى فيها عن السياسة المحليّة. وقد جُمعت مواد رحلة لبنان من مقالات وصور ومشاهدات، في كتاب صدر في العام 1961، بعنوان "الهلال المقلوب".
كما صوّر هانزيلكا وزيكموند اثني عشر فيلماً تلفزيونيّاً في لبنان وسوريا، بثّت عبر التلفزيون الحكومي التشيكوسلوفاكي في العام 1960، وهي من محفوظات الأرشيف الوطني التشيكي اليوم. ومن عناوينها: سليم الكريم، تحية من حلب، تحيّة من الشرق الأوسط، سيدة النوريّة، البدو الرحّل، فوق خليج القديس جاورجيوس، في السوق العربية (من مدينة طرابلس)، الحشّاشون، أرز لبنان، وغيرها..
على الرغم من أنّي لم أوفق في الحصول على نسخ من الأفلام، إلا أنني كنتُ قد طالعتً "الهلال المقلوب" قبل سنوات، ونسيت أمره إلى أن دُعيتُ إلى تيسير الجلسة الأولى في "الحوار الوطني حول أجندة 2030 للتنمية المستدامة"، الذي نظّمته "شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية"، في معهد عصام فارس – الجامعة الأميركية. وما إن تلقيت الدعوة حتى تبادرت إلى ذهني صور فقراء البيارتة، الذين وثّق حالتهم زيكموند وهانزلكا بالتشيكية، آنذاك، وتساءلت هل أبناؤهم وبناتهم وأحفادهم أوفر حظًاً منهم مع الفقر، إذ يمكن التحدّث عنهم كحالة راهنة مع إضافة بعض الأصفار إلى جردة المصاريف الشهريّة. وفكّرت في نقل بعض النصوص التي قرأها التشيك عن أهلنا في لبنان قبل نحو ستين عاماً، ولم تصل إلينا. وأعتقد أنّ أهمّ ما قد يُنقل هو مشاهد الحياة اليوميّة لسكان العاصمة، وليس ما دوّناه عن الساسة والاقتصاديين والتجار والمصطافين والعاملين في قطاع الخدمات. وتحتل هذه المشاهدات الفصل الحادي والعشرين من الكتاب، وهو بعنوان "أناس بيروت الصغار".
هنا الجزء الأول من المشاهدات، ويليه جزآن..
أناس بيروت الصغار
الكاتبان أثناء الرحلة إلى لبنان أمام سيارة "تاترا" التشيكيّة
***
***
إثر ذلك الرجل يصل إلى جوار البيوت فتى على درّاجة هوائيّة. فوق عجلة الدراجة الأماميّة صندوق تموضعت فيه زجاجات تحتوي سائلاً أبيض اللون. يبيع الحليب المعقّم من شركتين متنافستين لكل مشتر حسب ذوقه. حليب الشركة الأولى جيد، وحليب الشركة الثانية أكثر جودة من الأولى، وهو ممتاز إلى درجة أنّه يُهرّب من الجارة سوريا، حيث، كما يُقال، لا يمكن أن يكون الحليب رديئاً فإن تم غشّه فلا طريقة لديهم للحفاظ عليه من يوم إلى آخر.
اقرأ أيضاً: بيروت منزل العرب في السبعينات
وفي العادة، ومع ابتعاد طرطقة زجاجات الحليب فوق الدّراجة، يقترب صوت خارق للصمت شيئاً فشياً، يترافق الصوت مع قرقعة حوافر حمار على الطريق.
- رينياتييييين! يصرخ البائع العجوز بكلّ ما أوتي من قوّة يضخّها القلب في العروق. وهذه العبارة التي يصرخ بها ربما هو الوحيد القادر على فهمها، أحياناً تبدو "بورياتيييين"، أو ما يشبه ذلك من الأصوات. لكن الجميع يعلمون أنه بعد وصول هذا الصوت سيرون عجوزاً يجرّ حماره المحمّل بصندوقين صغيرين وخرجين إلى جانبيه. في الخرج الأيمن يضع العجوز ميزانه وبعض الأحجار التي يستخدمها كأوزان ومجموعة من الأكياس الورقيّة. أما الحمار العنيد، الذي يطيب له أن يعاند العجوز، فيلتقط عن الأرض بفمه ما يمكنه ما دام لا يستطيع الوصول إلى أكواز التين الطازجة التي يحملها على ظهره. على الأقلّ يحظى بين الحين والآخر بأوراق الهندباء قرب جدران البيوت، أو الحشائش المزروعة التي يسقيها النواطير صباحاً، فتكون محتفظة برطوبتها التي لا تزال تبرق كحبّات اللؤلؤ. يتحرّك العجوز وحماره، وتتقدم منه مشتريتان تفحصان حبّات التين الخضراء بأصابعهما وتنتقيان الفضل. إحداهما فتاة في مقتبل العمر حافية القدمين، أما الثانية فيبدو أنّها ارتدت ملابسها على عجل، وهي تحمل طفلاً صغيراً على ذراعها ربطت رأسه بخرقة بيضاء كي لا يلسعه الذباب.
انتهت كلتاهما من شراء تين الصّباح، بعدما مدّ العجوز يده بميزان هو عبارة عن عصا يتدلى من طرفيها حبلان ينتهيان بكفّتين، في الأولى أحجار (أوزان) وفي الثانية التين الموزون. أعاد الميزان والأحجار إلى الخرج، جذب الحمار من رقبته وصرخ بحرقة من جديد، من كلّ قلبه: ريناتيييين! ثم انتهر الحمار: يللا، يللا!
***
"يللا" هذه، لفظة متعدّدة المعاني. قد تكون بمعنى "اذهبْ"، كفعل أمر ملطّف، إلا أنّه لا يكثر استخدامها بهذه الصيغة عند العرب، ففي الغالب تترافق هذه اللفظة مع نظرة غاضبة وحركة مفاجئة من اليد، وفي هذه الحال تعني "انقشع من هنا!"، "غور!"، "انقبر!". وفي أحيان أخرى، اللفظة نفسها "يللا" تعني العكس تماماً: "تعال إلى هنا، أريد أن أقول لك شيئاً.. يللا، يللا".
ويصدح بهذه اللفظة، مرتين في الأسبوع، صوت رجل ذي قبّعة مهترئة مدهنة. يخرج صوته مكسوراً حزيناً، يتبع اللفظة بـ"ع الزيتون". وتوحي طريقة أدائه بأنّه يقول: هلمّوا يا أهل الخير، اشتروا منّي الزيتون ولا تتركوني أموت تحت ثقل هذا الشوال.. ". يبدو مثل نملة. نعم، كنملة عاملة نشيطة تنوء بحمل ثقل يفوق حجمها. يمرّ بطيئاً في الأزقّة بين البيوت ذات الحدائق. يتنقّل من جانب إلى جانب ويمشي على حافة حديقة حديثة الحراثة، ثم يحوّل مساره يميناً. وإذا به هذه المرّة يتوقّف فجأة، فأمس الأول كان بإمكانه أن ينعطف أمّا الآن فقد سدّ طريقه أحدهم بجرّار زراعيّ. ملأت الحيرة رأس الرجل النملة، نظر ثم صاح: ماذا فعلتم؟ لماذا؟
ثم بعدما أدرك ما الذي حدث، صرخ بصوت حاد "يللا ع الزيتون"، وشدّ الشوال بكلتي يديه فوق رأسه كي لا يقع، واستدار ثم انطلق في رحلة العودة. توقف عند البئر القريبة، أراح جسمه من ثقل الشوال بعدما وضعه على رحى اسطوانيّة. أخذ قبّعته بيده ومسح بها فمه، ثم مدّ يده على الشوال وأخرج قبضة من الزيتون، ألقى بالزيتونات في فمه، مضغها ببطء ثم شرب وراءها جرعات من دلو ماء البئر.. وصاح "يللا ع الزيتون"، إلا أنّه لم يتحرّك، أمضى بقيّة نهاره مكانه قرب البئر، كما لو أنّ ألماً غير مفهوم شاب روحه، بدا مثقلاً بشوق أكبر من شواله، أو ربّما بيأس مرير.