لماذا ثارت حمص؟

كان الحماصنة نهباً للشعور بظلم لا يستحقونه، وكانوا يتساءلون: لماذا ندفع نحن ثمن تحديث لا نريده، وليس هناك ما يبرر أن نكون ضحاياه؟ ولماذا يصير غيرنا غنياً من التحديث ونصير نحن فقراء ودون ملكية أو حقوق؟ وكانت أسئلتهم تنتظر دون جدوى من يرد عليها بتفهم عادل.
2012-07-02

ميشيل كيلو

كاتب من سوريا


شارك
من دفتر:
مدن سوريا
لوحة للفنان السوري مهند عرابي

لحمص جاذبية إنسانية وشخصية لا تقاوَم. هذا ما قالته أحاديث ومذكرات بناتها وأبنائها النثرية والشعرية، الذين كانت ظروفهم اضطرتهم لمغادرتها. لكن البعد عنها لم يخمد حضورها في قلوبهم، بل أبقاها حيّةً، وجعلهم يتغنون بكل شيء حمصي، بما في ذلك حجارة براريها وبيوتها السوداء. 

هذه "الحمصية" التي تكاد تكون وطنية قائمة بذاتها، ميزت أهل المدينة الأذكياء وجعلتهم طلاب المعرفة. وقد روى لي أستاذي الراحل انطون المقدسي حكايات حنونة عن الفترة التي قضاها هناك مدرّسا مبتدئا للفلسفة، وكم كان مضطربا وحائرا وكم ساعدته حوارات مقهى الروضة ونقاشات ومجادلات ومجاقرات مثقفي المدينة، على تخطي لعثمات البوح الفلسفي الاولى، وكم صار حمصيا بعد أشهر قليلة من وجوده في المدينة، وبقي حمصيا بقية حياته. كان الأستاذ الكبير يروي نكاتٍ حمصية موشاة بروح وطنية ومجتمعية زاهية وأصيلة، ويحكي قصصا بعضها هازل وبعضها الآخر جاد عن أسر شكلت في أواخر الثلاثينيات عوالم سياسية ثرية، متناقضة ومتعارضة، أهمها آل الأتاسي: الأسرة / القبيلة التي برز منها ساسة ومثقفون وتكنوقراط بارزون، ربما كان أكثرهم أهمية في تشكيل وعي السوريين الحديث الراحل الكبير جمال الأتاسي، الذي حار وهو طالب في كلية الطب في ما يجب فعله لطرد الفرنسيين من سوريا، فهو تارة يترك دمشق ويلتحق برشيد عالي الكيالي في العراق، قبل أن يعود إلى دمشق لينضم إلى الدرك الوطني المؤسس حديثا برتبة دركي، ثم يذهب إلى فلسطين مقاتلا شبه أعزل ضد الصهاينة، قبل أن ينضم إلى حزب البعث ويبتكر صيغة "الامة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة"، التي نُسبت إلى عفلق، وينتهي أخيرا مناضلا ناصريا وحدويّا وقائدا للمعارضة السورية الديموقراطية ضد البعث المنحرف عن أغراضه التاريخية الأصلية، بعد حقبة مر خلالها بالماركسية فالوجودية فنزعة علمانية إنسانية طاولت كل ما هو نبيل وحي في الروح والقلب: روح وقلب إنسان جسّد، مع صديقه أنطون المقدسي، اليبرودي (من بلدة يبرود) المسيحي المتدين، أكثر من أي شخص آخر روح سوريا خلال حقبة من أغنى وأكثر حقبها حراكا وانفتاحا وتنوعا ونضالية.

اهتمام وحراك ثقافي وسياسي متنوع، تقدمي وإنساني وعروبي على وجه الإجمال، بما في ذلك عند معظم الإسلاميين والليبراليين. ونظرة ساخرة إلى الوجود جعلت من الأربعاء يوماً يحتفي الحماصنة فيه بـ"بتفرُّدهم" الذكي والمرح، الهازئ من كل شيء بما في ذلك "النفس الحمصية"، متفاعل مع وطنية أصيلة، جعلت من إحسان الحصني المسيحي، مدير الميرة في حمص أثناء الثورة ضد الانتداب الفرنسي، أبا روحيا لنظير نشواتي، بطل الثورة، ومموّلا رئيسا – على كيس الفرنسيين - لثوار المدينة وريفها، وحاميا لهؤلاء وناصحا لهم لا يُرَدّ له أمر. انتخبته حمص نائبا عنها مطالع الخمسينيات على قائمة صديقه الحموي أكرم الحوراني بوصفه أحد رموز الحراك المعادي للإقطاع والظلم الاجتماعي والنخبوية السياسية المغلقة أمام الفقير والكادح في المدينة والريف، مع أنه كان مثقفا ألمعيّا ومترجما متمكنا ورجلا يتذكر أصدقاؤه اليوم أيضا، بعد سنوات من غيابه، تعليقاته اللاذعة والغنية بالمعاني، التي لم تترك شيئا إلا عرّته وفضحت ما فيه من زيف وادعاء، خاصة خلال سنوات حياته الأخيرة، التي آلمه كثيرا فيها ما فعلته السلطة البعثية بالشعب السوري وبالفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين، وبالمعرفة والثقافة، وبكل شيء، حتى ليقول من لازموه خلال سنواته الأخيرة أنه مات كمدا. ثم تبعه بعد حين صديقه المصيافي علي الخش، الذي أمضى فترة طويلة من شبابه جائعا، لأنه كان معلّما شبه متطوع يعمل في مدارس أسسها أكرم الحوراني وحزبه لتحرير الفلاحين من الإقطاع، وبناتهم وأبنائهم من الجهل والأمية.

هذه الـ"حمص"، التي تقع بين فتحة أرضية واسعة تطل على البحر من الصحراء، يسكنها ما يزيد على 2,3 مليون نسمة (في مدينة حمص وحدها مليون نسمة)، وتعيش على شيء من الصناعة – مصفاة ومصنع سماد آزوتي ومعمل سكر ومحالج قطن – وكثير من الزراعة والتجارة، وكثير جدا من السياسة والثقافة والانفتاح والتاريخ، والتي ينتصب في منتصفها جامع سيدي خالد أعظم قادة التاريخ العسكري العربي / الإسلامي، التي دخلها سلما بفضل أبناء عمومته، سكانها المسيحيين، وعاشت في سلام داخل أحياء يدخل إليها من أبواب حملت حاراتها أسماءها. هذه الحمص عاشت خمودا تنمويا واجتماعيا امتدّ لفترة طويلة، ثم تعرضت خلال العقد الأخير لهجمة تحديث ليبرالي جديد اقتلعت سلامها الروحي وقوضت مصالح أهلها ومسّت بجذورهم الجماعية والفردية، وأحلّت محلها، دفعة واحدة ودون مقدمات، نمطا من العيش، استهلاكيا وفاجرا ومسرفا وأقلويا / سلطويا، مصحوبا بفساد يومي وشامل لم تعرف مثيلا له، قاده محافظ شاب، قليل الخبرة وافر الغرور، اسمه إياد غزال، صديق رئيس سوريا الجديد آنذاك الدكتور بشار الأسد، ومحل ثقته منذ الطفولة والمدرسة. أعطاه الرئيس صلاحيات جعلت منه قيصر مدينة مليئة بالمشكلات المزمنة، أراد أن يجعل منها ضربا من دبي سوريا، ولكن على كيس المعوزين من أهلها. لذلك وضع يده على قسم كبير من أراضيها الزراعية، وقرر بناء فيلات جدّ مترفة، أميركية المستوى، لا محل لأيّ حمصي عادي فيها، استوحاها من نمط هندسة قطَري شاع آنذاك في كل مكان، ودمر قسما مهما من الشاطئ الأزرق، كي يقيم فيلات ثمن الواحدة منها ما بين خمسة وخمسة وعشرين مليون دولار، أميركي بالطبع، ما لبث أن سيّجها وعزلها عن بقية المنطقة وحرسها بمسلحين فرضوا سطوتهم على العباد، و"خوّاتهم" حتى على المارة، هم أسلاف الشبيحة الحاليين. أبعدوا الشعب المتطفل أو الفضولي عنها، وأشعروه بقهر أقنعه بأنه صار غريبا في وطن لطالما قالت حكومته انه ملكه وحده.

طرد المحافظ الحداثي سكان "الغوطة" و"الوعر" (أحياء حمص الطرَفية) من أرضهم بالقوة، كلما تطلب الأمر، ورفض استقبالهم وتسلم عرائضهم وتظلماتهم خلال أشهر وسنوات طويلة، تحوّلوا خلالها إما إلى مشردين أو مهددين بالتشرد، ومقهورين وقابلين للانفجار، تزايدت أعدادهم باطّراد، بينما كان نمط استهلاك آل الأخرس، أسرة حرم الرئيس بشار الأسد، يقوّض وجود صغار الكسبة والتجار ومتعيشي أسواق خبا نشاطها أكثر فأكثر لمصلحة محال كبرى نبتت كالفطر على أطراف المدينة الغارقة في الغضب والذهول. فيما كان قلب المدينة القديم يُنتهك بدوره ويعاد تنظيمه لمصلحة قبضة من تجار البناء والمضاربين بالأرض وشركاء رجال السلطة، اقتداءً بتحديث عبد الله الدردري المسمّى "اقتصاد السوق". كان السوريون يسمونه ساخرين "اقتصاد السوء"، الذي عمق كثيرا الطابع الريعي، وقوض قطاعات واسعة ومتنوعة من الاقتصاد الإنتاجي السوري، وأقحم البلد في علاقات وبيئات اقتصادية غير متكافئة أخذت شكل انفتاح اقتصادي لا قيد عليه مع الخارج، حتى أن عددا كبيرا من رجال الصناعة الحلبيين أرسلوا عام 2008 رسالة إلى رئيس الوزراء ناجي العطري، يهددون فيها بإغلاق مصانعهم ورمي العمال في الطريق والتحول إلى تجار سلع صينية مستوردة، أسوة بغيرهم من التجار الأجانب والمحليين الذين يغزون سوريا بسلع كهذه.

كان تحديث المحافظ يطرد الفلاحين من أرضهم ويقوض الزراعة، وكان الدردري يقول في تصريحات رسمية محتفى بها إعلامياً: إن الزراعة ليست قطاعا اقتصاديا يُعتمَد عليه، متجاهلا أن 40% من سكان سوريا يعيشون منه. فلا عجب ان انفجر رئيس "اتحاد الفلاحين"، الرسمي والمخابراتي، خلال مؤتمر الاتحاد عام 2008، وسأل رئيس الحكومة في حينها ناجي العطري إن كانت الدولة قد قررت القضاء على الفلاحين، ولا غرابة في الصراخ الغاضب الذي أطلقه مندوب محافظة اللاذقية إلى المؤتمر في وجه رئيس الوزراء وهو يقول: لم يبق لدينا أرض نزرعها، لقد استملكتم كل شبر وطردتم الفلاحين من أراضيهم، بأن جعلتم ثمن الدونم الواحد منها بين عشرة وعشرين مليون ليرة سورية. لقد أفسدتمونا وقتلتم الفلاح وقضيتم على الزراعة. 

راجع الحمصيون المسؤولين وتظلموا وشكوا أمرهم، دون جدوى. قصدوا القصر الرئاسي فلم يستمع إليهم أحد، لأن نشوة النمط الاستهلاكي كانت قد أسكرت هؤلاء، وأرقام وزارة السياحة الكاذبة عن عشرات ملايين السياح ومليارات الدولارات قد لعبت برؤوسهم، ولأنهم اعتقدوا أنهم ضربوا ضربتهم وانتهى الأمر، وأن المجتمع لن يجد في نفسه الجرأة على الاحتجاج، ما دامت قبضة الأمن كلية الحضور، تطبق بقوة على أعناق المواطنين وتتربص بحركاتهم وسكناتهم. في هذه الأثناء، كان التحديث يوسع الهوة بين المحافظ وناس حمص، ويدفعه إلى التعامل معهم بأعلى قدر من التعالي والاستخفاف، وإلى استفزازهم بحفلاته الفاجرة وفساده و"برجوازيته"، ويشجعه على التدخل المفتوح والسلطوي في كل شؤونهم، بالطريقة التي يصعب أن يتقبلها حتى المواطن الذليل. وفيما كان قلب حمص التاريخي يمارس الـ"ستربتيز" العمراني، كانت قصور السلطة ومكاتبها تذكر الشعب بمثيلات لها بناها مستوطنون مسلحون وغرباء في مجاهل أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، وحموها بالقوة كي يمنعوا الشعب من إلقاء نظرة إلى ما بداخلها، أو من الاقتراب منها.

أسهم المحافظ والحاشية التي أحاطت به، ومعظمها من أسر وأثرياء اقتصاد الانفتاح الليبرالي الجدد، في تأسيس ظاهرة أفلتت من أي قيد، بدا معها وكأن البلاد تنقسم إلى مجتمعين وشعبين، يمتص أحدهما دماء الآخر ويعامله بكل ازدراء وتعالٍ وعنف، ويضع المسدس على صدغه ويجبره على الوقوف متفرجا على انتهاك حياته وحقوقه، يقتله العوز ويفزعه الفقر، فلا مخرج له من مأزقه غير خروجه على المحافظ ونظامه قاتلا أو مقتولا، وسيفه بيده.

كان الحماصنة نهباً للشعور بظلم لا يستحقونه، وكانوا يتساءلون: لماذا ندفع نحن ثمن تحديث لا نريده، وليس هناك ما يبرر أن نكون ضحاياه؟ ولماذا يصير غيرنا غنياً من التحديث ونصير نحن فقراء ودون ملكية أو حقوق؟ وكانت أسئلتهم تنتظر دون جدوى من يرد عليها بتفهم عادل. أخيرا، وحين ملوا الانتظار وضجروا من العيش مع اليأس، انفجروا كالقنبلة الموقوتة، ودخلوا في رهان على الخلاص يعلمون أن لفشله بديلا واحدا هو الموت تحت أنقاض منازلهم أو في شوارع المدينة، التي بدأت الجرافات بتدميرها باسم التحديث، ويكمل القتلة اليوم عملها بقتلهم هم أنفسهم، بحجة قمع مؤامرة انخرطوا فيها خدمة للأصوليين وأعداء الوطن، لا علاج لها غير قتلهم!

مقالات من سوريا