تبنى رئيس الجمهورية المصرية، عبد الفتاح السيسي، عقد خمس مؤتمرات للشباب بين تشرين الاول/ اكتوبر 2016 وتشرين الثاني /نوفمبر الحالي. بدأت المؤتمرات بشعار "ابدع .. انطلق"، وانتقلت إلى "نريد أن نتحدث" (هاشتاغ weneedtalk #). من القاهرة إلى شرم الشيخ، من حديث للشباب المصري إلى شعار "السلام" بمؤتمر عالمي للشباب.
في حفل الافتتاح في المؤتمر قبل الأخير، قال الرئيس أن الهدف الحقيقي من تلك المؤتمرات كان بالنسبة له رغبته في التواصل مع الشباب، وأن تكون فرصة له لكي يتحدث هو مباشرة للشعب، لأن لا أحد سيتحدث مثله عن حقيقة ما يدور، بهذه الصراحة والدقة.
على الجانب الآخر، خارج قاعات تلك المؤتمرات كانت الأسئلة تتراكم عن مدى مصداقية تلك الشعارات، بينما تعج السجون بما لا يقل عن 30 ألف شاب مصري ــ حسب تقديرات حقوقية ــ باتهامات تتعلق أغلبها بالتظاهر والتعبير عن الرأي، من دون أن ينفي هذا تورط بعضهم بعمليات إرهابية.
مجموعة ثانية من الأسئلة تتعلق بتكلفة تلك المؤتمرات، وهل تحتاج مصر التي وصفها الرئيس في أكثر من لقاء بتلك المؤتمرات بـ"وطن ضايع" و"أشلاء وطن" و"إحنا فقرا أوي" إلى التعاقد مع شركة تنظيم خليجية وأخرى محلية من أجل هذا الإخراج الفاخر وسط تقديرات تشير إلى أن تكلفة المؤتمرات المحلية، من دون الأخير في شرم الشيخ، قد بلغت 200 مليون جنيه.
مجموعة ثالثة من الأسئلة تتعلق بمن هم "الشباب" المشاركون بتلك المؤتمرات، وعمن يعبرون؟ وتأتي الإجابة لتشير إلى ارتباط بين تلك المؤتمرات وما يسمى بـ"برنامج الرئاسة لتدريب الشباب" وهو بمثابة "مفرخة" انتاج رسمية تعمل على تبني عدد من الشباب وإعدادهم حيث يقدم لهم مجموعة من أساتذة الجامعة المنتقين دورات تثقيفية على مدار ثلاثة أشهر وتكون المشاركة بالمؤتمر القادم بمثابة حفل التخرج.
لذا لم يكن غريباً أن كل هذه الساعات من الحديث لم تخرج برسالة احتجاج حقيقية واحدة، بل كانت جميعها تتبع الشعار الذي ردده السيسي نفسه في بداية حكمة "نريد أن نتحدث لغة واحدة.. لغة الفهم الصحيح".
فما هي هذه اللغة؟ وما هي مفراداتها؟
الخوف من الحرية: "انتوا لازم تتخلصوا من الوعي الزائف عشان ما تنزلوش في مظاهرات تقضي عليكم وعلى البلد"
في المؤتمر الثاني في نيسان/ إبريل 2017 بمدينة الاسماعيلية، وبانفعال إثر سؤال عن مقاومة الفساد وفعالية جهاز الدولة، قال السيسي نصاً: "التوصيف لمشكلة مصر في الـ30 سنة كان مش حقيقي، كان خدّاع، كان وعي زايف لكم وبالتالي قالك حِل المشكلة: اتحرك انزل الشارع وشيل.. وانت بتتحرك وتشيل بتشيل مستقبلك.. عايز تتحرك تاني اتحرك . انت هاتضيعها خالص وهاتضيع مستقبلك انت وولادك".
اقرأ أيضاً: كيف ثبّت السيسي أركان حكمه بوجه حلفائه وأعدائه؟
وأكمل: "لازم تعرفوا ان الخلل موجود في كل مؤسساتنا.. طيب حد يقول كده ع الهوا؟.. آه انا هاقول كده واكتر من كده .. لأن الأخطر من اني ماقولش.. إن انتوا ما تعرفوش، ولما ما تعرفوش تتحركوا.. ولما تتحركوا تهدوا بلدكم.. وبلدكم تضيع يبقى ماكسبتش حاجة.. يبقى أعرفكم عشان تصبروا وتتحملوا.. مفيش غير كده".
لا بديل عن تحمل مزيد من الأعباء الاقتصادية: "يعني انا قادر اديكم ومش عايز.. لازم تستحملوا"
"احنا ممكن نبقى بناكل كلنا وبنتخانق سوا.. ممكن نكون ماناكلش وبنحب سوا". هكذا عبر الرئيس في الاسكندرية عن رؤيته لضرورة الاصطفاف من أجل أمرين، الأول مواجهة الإرهاب، والثاني هو تحمل برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتم اتباعه والذي أدى إلى ارتفاع جنوني في الأسعار، إضافة الى اتخاذ السلطات إجراءات لرفع الدعم بينما تزداد نسبة العاطلين عن العمل والمسرحين منه، ما نتج عنه تزايد شرائح الفقر في مصر.
وكان من أشهر المواقف التي ضمّتها هذه المؤتمرات، هو ممازحة السيسي لشاب أرسل له سؤال قال فيه: "انت طلبت منا نصبر سنتين وصبرنا، ومفيش حاجة اتغيرت والاوضاع الاقتصادية ما تحسنتش"، ضحك السيسي بشكل لافت ثم قال: "طيب يا لؤي ماشي، يعني ولا حاجة اتغيرت"، و أكمل: "هو انا لو أقدر مش هاعمل، الاجراءات الاقتصادية دي مفيش بديل عنها حتى لو هايتحمل تبعاتها فئات من الشعب واحنا بنحاول نقلل الآثار، هو دوا مر قاسي، ولكن لازم نستحمله وناخده عشان نتعافى، ونتايجه ان شاء الله هاتكون هايلة".
وعرج للحديث عن دور الجيش التنموي فقال: "انا شغلت الجيش تحت رجليكم لاجل ماتقعش مصر.. وبرضه باقولكوا حجم التحديات كبير والدولة مش هاتقدر لوحدها، وانا اللي عايز اسأل كل المصريين دلوقتي انتوا مستعدين تحطوا كل جهدكم في دعم جهد الدولة وتصبروا وتشتغلوا وإلا لأ؟".
أما عن الفساد وسؤال احد الشباب عن حملة سحب أراضي الدولة من المعتدين عليها من دون محاسبة المانحين لها، وبشكل خاص تلك الممنوحة لكبار رجال اعمال (ممن لم تطلهم حملة السحب بطبيعة الحال)، فأجاب الرئيس بشكل مباشر قاضياً على واحد من اهم بنود العدالة الانتقالية التي نادت بها ثورة "25 يناير": "هانحاسب على الفساد في اللي جاي بس مش هانقدر نتكلم في القديم".
الإعلام الموحد: "في أزمة عندنا في الإعلام لأنه صناعة.. هانطلق قناة اخبارية.. ومجالس لمراقبة الصحافة والاعلام"
منذ اليوم الأول لوصوله الى الحكم، تعامل الرئيس دوماً باعتبار أن جزءاً رئيسياً من المشكلة القائمة في مصر ترجع الى الخطاب الإعلامي المنتقد لسياسات السلطة ــ أياً كانت ــ دون مراعاة للظروف المحيطة والأولويات. وكان في وقت مبكر قد هاجم مانشيت إحدى الجرائد المنتقدة للانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي وقال: "علينا أن نتحدث لغة الفهم الواحد.. لغة الفهم الصحيح".
وفي المؤتمر الأخير أعلن السيسي أن محاصرة السعي الإعلامي وراء الربح كصناعة والفساد بالذوق العام تتطلب اتجاه الدولة لإنتاج قناة اخبارية خاصة، وكذا تركيزه عن الحديث على انشاء مجالس مراقبة الاداء "الأخلاقي" للصحافة الاعلام.
أهل الحكم أدرى: "مش عايزكم تتعودوا تتكلموا وانتوا مش فاهمين.. وانا شايف الصورة من فوق كويس"
في افتتاح إحدى المشروعات خلال هذا العام، هاجم "السيسي" بحدة نائباً بالبرلمان لحديثه عن رفع الحد الأدنى للأجور وقال له ناهراً: "انت دارس الموضوع ده قبل ما تتكلم؟ مين.. انت مين؟"
وفي مؤتمر الشباب قبل الأخير، وفي رد على سؤال "احنا ليه دايماً حاسين انك زعلان من المصريين"، رد "السيسي" مداعباً: "لا ولله العظيم، انا مش زعلان منكم أبداً، لكن صعبان عليا حالنا بسبب أفعالنا، انتوا تستاهلوا افضل من كده بكتير.. بس بابقى عايز إبني أو بنتي أو أي حد ييجي يتكلم في الموضوع ويبقى عارفه ودارسه".
وفي موقع آخر أكمل في الاتجاه نفسه، فقال: "اللي بيبقى فوق بيبقى شايف الصورة أفضل، وانا فوق وشايف الصورة كلها.. شايفكم كلكم وقادر أقدر الأمور على حقيقها".
نحن الوطنية: "ماحدش هايجامل على حساب بلده.. ومش عايز حد يتكلم في الموضوع ده تاني"
عام من الحديث مرّ، بينما في خط موازٍ كانت تنمو حركة شبابية واسعة ضد توقيع مصر اتفاقية تنازل عن جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، أدت الى ملاحقة واسعة للشباب وتفريق للمظاهرات ووقف وسجن ما لا يقل عن 1000 شاب على مدار عام كامل.
وفي حديثه للشباب القادم من برنامج الرئاسة لتدريب الشباب، وجواباً على سؤال حول الأمر اكتفى بالضحك قائلاً "ده احنا لسه راجعين من السعودية"، وأضاف:"عايز أأكد: مصر دولة مؤسسات وهنحترم القضاء والبرلمان بس عايز اقول ماحدش هايجامل حد في شبر من أرض مصر".
اقرأ أيضاً: هنا نفعل أشياء لا تصدّق
لم يسأله أحد من الحضور عن مصير الشباب المعارض للاتفاقية، ولم يفكر هو في التعليق، وهو الذي ذكر في لقائه مع المثقفين والإعلاميين فور الاعلان عن تلك الاتفاقية: "أنا قلت اللي عندي ومش عايز حد يتكلم تاني فى الموضوع ده".
***
انتهى عام الأحاديث والرسالات المباشرة، المقصودة والمرتجلة. ومن المشهد تتضح ملامح رئيسية للخطاب الذي تتبناه السلطة والذي حاولت بشكل مباشر، على لسان رئيسها، إيصاله للشارع. تحولت تلك المؤتمرات الى وسيلة الدعاية الرئيسية للنظام الحاكم (الآخذة شعبيته في التآكل) قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة المنتظر اجراءها في منتصف 2018.
اقرأ أيضاً: السيسي خليفة السادات!