يخرج الوطن العربي، تدريجياً، من العصر عائداً إلى القرون الوسطى، بل ربما إلى الجاهلية: تنهار دوله التي اقيمت بقرارات من محتليها: اذ أن بريطانيا اساساً، ومعها فرنسا، هما من رسما حدود "الدول" في المشرق العربي: سوريا ومعها لبنان (بعد عملية ضم وفرز فرنسية فيما يتصل بالحدود) ثم إمارة شرقي الاردن التي استُولِدت على عجل لاسترضاء الحليف التاريخي لبريطانيا أمير مكة والحجاز، الشريف حسين، بشخص ابنه الامير عبد الله، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني تمهيداً لإعداد "الارض" لإقامة دولة اسرائيل، والعراق لبريطانيا ومعه معظم الخليج العربي الذي لم تكن قد استنبتت فيه "الدول" التي نعرفها اليوم. أما مصر (الملكية، آنذاك) فكانت خاضعة للاحتلال البريطاني.. وفي ليبيا التي كان الاستعمار الايطالي قد احتلها بقواته العسكرية في العام 1911، ثم دخلتها في الحرب العالمية الثانية القوات البريطانية فاحتلت الشرق (بنغازي وطبرق حتى الحدود المصرية)، في حين احتلت فرنسا الجنوب ( سبها حتى حدود تشاد)..
أما تونس فكانت تحت الاحتلال الفرنسي حتى انتفاضتها الشعبية التي اوصلتها إلى الاستقلال في اواسط خمسينات القرن الماضي.
وأما الجزائر فكان الاحتلال الفرنسي قد فرض عليها لغته ورفض الاعتراف بعروبتها واعتبرها مقاطعة فرنسية.. وكان على شعبها أن يخوض غمار ثورة طويلة امتدت طوال خمسينات القرن الماضي وحتى بداية ستيناته لتستعيد هويتها ولغتها وموقعها في نضال أمتها.
وحدها المملكة العربية السعودية قامت بالسيف تحت أنظار بريطانيا التي تخلت عن الشريف حسين. بعدما كانت قد أطلقت باسمه نداء "الثورة العربية" ضد السلطة العثمانية لإقامة "دولة كل العرب" في العام 1915 تخلت عنه، بل ونفته إلى جزيرة قبرص التي كانت تحتلها لإزاحة آخر عقبة امام "توحيد" نجد والطائف وامارة مكة مع شرق المملكة، وصولاً إلى الظهران التي ستتحول إلى مقر أكبر مصفاة لتكرير النفط وشحنه تحت ادارة شركة "ارامكو" الاميركية.
***
ها هي المملكة المذهبة تقْدم على سابقة خطيرة وفريدة في بابها: تقدم على احتجاز رئيس حكومة دولة أخرى، عربية ولكنها ليست من ولاياتها، وليس مواطنوها من رعاياها، وتمتنع عن الافراج عنه برغم الوساطات الدولية (رئيس فرنسا) والشفاعات العربية، والتمني اللبناني بلسان رئيس الجمهورية الذي نفد بالأمس صبره، فجاهر زواره بأن رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، محتجز في السعودية مع عائلته، من دون تبرير أو تفسير مقبول، مما يشكل اعتداء على سيادة لبنان وكرامة شعبه.. ولن نسكت أو نهدأ حتى يُطلق سراحه ويعود الينا سالماً!
ولان عملية الاحتجاز كانت على هذه الفظاظة، وتعبر عن امتهان لكرامة لبنان بكل أطيافه، فقد استفزت اللبنانيين جميعاً، على اختلاف طوائفهم ومواقفهم السياسية، فهبوا يستنكرون هذا التصرف الاخرق، ويعلنون تضامنهم مع رئيس حكومتهم "الاسير"، مدينين الموقف المستهجن والذي لا سابقة له، أقله على المستوى العربي: احتجاز رئيس حكومة لدولة عربية في دولة عربية أخرى، من دون تبرير او تفسير.
اقرأ أيضاً: لبنان بعد استقالة الحريري
هذا في الوقت الذي تفرض السعودية (ومعها دولة الامارات العربية المتحدة) حصاراً قاسياً على اليمن، ويواصل طيرانها الحربي ومدفعية جيشها قصف مدن الحضارة الانسانية الأولى وقرى الفقر والتعاسة في اليمن، دون خوف من رقيب أو حسيب، وتحتجز "رئيس جمهورية اليمن" الذي عينته بنفسها، مع حكومته في الرياض.. ثم انها تفوض نفسها ودولة الامارات لإقامة قواعد عسكرية على الشواطئ اليمنية المطلة على بحر العرب وعلى مضيق باب المندب بشكل خاص.
ومن أسف فان الدول العربية مجتمعة لم تستطع أو هي لم تشأ أن تحرك ساكناً او أن تسعى (ولا نقول: أن تضغط ..) لإطلاق سراح رئيس الحكومة اللبنانية المحتجز في السعودية، من دون وجه حق، ومن دون أي تبرير، أو خوف من المساءلة.
هذا مع الاشارة إلى أن السعودية لم تستأذن احداً في إعلان حربها على اليمن، بكل الضحايا في الارواح والعمران التي تسببت فيها.. وكذلك دولة الامارات. أن "العرب"، حالياً، بلا مرجعية، بلا قيادة، بلا رأس جامع..
***
أن الدول تتصرف بحسب ثرواتها في النفط والغاز، وبهذين "الكنزين" هناك من يقرر مصائر الدول، فضلاً عن اسعار السلعتين واسواقهما و"خزينة" عوائدهما.. وعلى هذا فتصنيفها لا يخضع لا لعراقتها في التاريخ، ولا لدورها في خدمة أمتها، ولا لأهمية موقعها وكفاءات شعبها، حتى ليكاد يكون الفقراء من أبناء هذه الامة "فَعَلة" و"شغيلة" و"كتبة" في دول النفط والغاز. على أن المستهجن أن تتقصد المملكة العربية السعودية ايذاء لبنان، الذي لم يصدر عنه وفيه، ما يهدد أمن المملكة وأهلها (بمن فيهم اسرتها الحاكمة) بالخطر.. أو حتى بالمساءلة.
هل أن السعودية قد استضعفت لبنان، دولة وشعباً، فتجرأت على احتجاز رئيس حكومته (الذي يحمل جنسيتها) مع عائلته ومنعه من العودة إلى بلاده التي يشغل فيها موقعاً سامياً، برغم كل الوساطات والشفاعات المكتومة منها والعلنية، كما زيارة جمهورية فرنسا الطارئة والتي التقى خلالها ولي العهد الامير محمد بن سلمان.. من دون جدوى!
اقرأ أيضاً: السعودية.. نصحاء السوء!
إن هذه الواقعة الشنيعة تكشف هزال الاوضاع السياسية العربية، وافتقاد المرجعية المؤهلة على فض الخلافات ومنعها من التفاقم. الطريف أن المملكة السعودية، وفي هذا الوقت بالذات، تستدعي جامعة الدول العربية إلى الانعقاد بصورة طارئة، لتنظر في شكواها ضد التدخل الايراني في الشؤون العربية.. بينما هي تحتجز في قصر ملكي بالرياض (وليس في طهران) رئيس حكومة لبلد عربي آخر من دون تفسير او تبرير، لا لشعبها الذي تنظر اليه على انه مجاميع من الرعايا، ولا للبنان، ولا لسائر الدول العربية، ولا لرئيس فرنسا الذي خرج عن جدول اعماله ليزورها متشفعاً لسعد الحريري.
ومعروف أن الجامعة العربية تعاني من موت سريري، من بين أسبابها تجاهل الدول العربية النافذة، وبالأخص الغنية، وتخليها عنها كمرجعية عربية مؤهلة لان تحل النزاعات بين دولها، اذا ما حدثت.. أن العرب يخرجون من العالم، بفضل قياداتهم الحاكمة، التي حرمت عليهم العمل السياسي والاهتمام بالشأن العام.
والى أن يعود العرب إلى وعيهم وإمساكهم مصيرهم بأيديهم، كشعوب وأمة، سيظلون عرضة للمفاجآت الخفيفة او الصاعقة كمثل احتجاز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري في مملكة آل سعود.