صوت قديم اسمه "أبو الحبايب"

وحده الفلسطيني الذي عاش في رام الله قبل "حزيران 67"، سيتنهد بعمق، أو يقف عند النافذة، فاتحاً إياها، لو ُذكر أمامه اسم "أبو الحبايب". سيقفز من ذاكرة أصواته العتيقة المكدّسة صوت بيّاع الجرائد الثمانيني، وهو يتنقل من شارعٍ إلى شارع صائحاً "فلسطين، الدفاع، الجهاد!". لم يعرف أحدٌ اسمه الأول، أو من أي بلد هو.. ولو بذل الناس جهداً لعرفوا. علاقتهم به كانت لا تتعدى حدود يد
2016-02-18

شارك

وحده الفلسطيني الذي عاش في رام الله قبل "حزيران 67"، سيتنهد بعمق، أو يقف عند النافذة، فاتحاً إياها، لو ُذكر أمامه اسم "أبو الحبايب". سيقفز من ذاكرة أصواته العتيقة المكدّسة صوت بيّاع الجرائد الثمانيني، وهو يتنقل من شارعٍ إلى شارع صائحاً "فلسطين، الدفاع، الجهاد!". لم يعرف أحدٌ اسمه الأول، أو من أي بلد هو.. ولو بذل الناس جهداً لعرفوا. علاقتهم به كانت لا تتعدى حدود يد تمتد من بابٍ أو نافذةٍ، لتأخذ من يد متجعدة جريدةً أو مجلة. لم يكن أحدٌ، ببساطةٍ، مهتماً لمعرفة هوية العجوز الغامض. كانت هويته صوته، يهز نوم رام الله في الصباحات الباكرة، يولد من رحم الرابعة فجراً، ويموت مدفوناً في مقبرة قيظ الثانية عشرة، بعد أن يدفع ما ربحه من بيع الجرائد ثمناً لوجبته اليومية الوحيدة (المسخّن)، من فندق عودة الشهير. كان بيته بيت درج عمارة من عمارات المدينة.
أكثر من خمسة عقود مرت على اختفاء الصوت.. احتل الإسرائيليون رام الله، كما احتلوا باقي مدن الضفة، وصار الصوت الوحيد هو صوت الجنود الغرباء بدورياتهم المتعجرفة، وهم يجرّون فجر المدينة المصدوم، ويصيحون: ممنوع تجول، يا أهل رام الله! حينها انتبه الناس إلى غياب صوت صباحاتهم.
عامل شاب من عمال فندق عودة قال: رأيت أبو الحبايب يركض، بلا جرائد، ورأيت جسده من النافذة، وهو يتناثر. غابت طائرة الاحتلال، وأسرعتُ إلى الأشلاء، جمعتُها، وضعتها في كيس خيش، وخبأتها في مخزن الفندق، وحين جاء الليل، حملتُ الكيس على ظهري، وذهبت إلى (هناك) لدفن الشهيد.. ولم يسأل الناس المصدومون، الذين تجمعوا حوله، أين تعني كلمة (هناك).

من صفحة زياد خدّاش (عن فايسبوك)

 


وسوم: العدد 180