نُشر النص الأصلي لهذا الموضوع في موقع "مدى مصر"، وهو منصة إلكترونية تأسست في مصر، ونعيد نشره هنا بالاتفاق مع الموقع. في إطار حملتها المستمرة للتضييق على الصحافة، حجبت السلطات المصرية "مدى مصر"، ضمن مواقع أخرى. والتزمًا منا بمبدأ حرية الصحافة واستقلاليتها، يقوم "السفير العربي" بإعادة نشر نصوص ينتجها "مدى مصر" لمساعدة الموقع في التغلب على إجراءات الحجب والوصول إلى القراء داخل مصر.
غدير أحمد
دخلت دورة مياه بأحد المولات ومعي شريط اختبار حمل. نصحتني بشرائه صديقة أكدت عليّ مرارًا: «جيبي التيست واعمليه برة البيت. في مول أو أي حتة. وارميه وانتي واقفة. ما تاخديش التيست معاكي في أي حتة خالص. ما يدخلش شنطتك أصلًا ولا تدخلي بيه في مكان. اعمليه برة. وشوفي النتيجة برة. وارميه برة».
لحظة ترقب تلك التي فصلتني عن إدراك مغزى كلام صديقتي ونتيجة الاختبار الإيجابية. أنا حامل. لا وقت للصدمات. لا مساحة للانهيار. أنا حامل وعليّ أن أتعامل مع الموقف.
اتصلت بشريكي، ومرّت ساعات على مقابلتنا الطارئة ونحن نُفكر ونبحث على الإنترنت عن أنسب وسيلة للإجهاض، حتى اهتدينا إلى اسم دواء مُحفز للإجهاض، واتفقنا على التنفيذ، وانهمرت الأسئلة: كيف سنفعل ذلك، وأين، وكم يومًا يلزمنا لإتمامه؟ بالصدفة توفرّت مساحة لمدة أربعة أيام، فلم نتردد في قصدها. أهذا كل شيء.. مكان نختبئ فيه وعدة شرائط من الدواء؟
جهّزنا المكان. اشترينا فوطًا صحية، ومُسكنات، وبعض الأطعمة وتبادلنا مخاوفنا؛ هو خائف من حدوث أي مضاعفات، وأنا خائفة لأني أفعل الآن ما لم أتخيل أن أفعله قط في حياتي. منذ سنوات قالت لي طبيبة نساء إن نسبة حملي 30% فقط، وأنا حامل الآن في عامي الثاني والعشرين ولا أعرف كيف أشعر حيال ذلك. أفرح؟ أحزن؟ كيف أعبّر عن فرحي وحزني تجاه نفس الأمر وبنفس القدر؟
من ضمن التجهيزات كانت قائمة أرقام طوارئ لصديقات أثق بهن. أعددتها رغم تواجدهن في محافظة أخرى، وأصبح كل شيء جاهز.
كانت المرة الأولى التي أدخل فيها هذا المكان. قلبي مقبوض، وعليّ أن أختبئ من الجيران حتى لا يكتشف أحدهم وجودي ويتساءل: ماذا يفعل شاب مع فتاة بمفردهما؟ لا أحد يعرف أن هذه المرة بالذات استثنائية.
دخلت ولم أخرج إلا بعد أربعة أيام قضيتها بين الأدوية والفيتامينات وحميمية شريكي. أعتقد أن عدم راحتي ينبع من أني لا أنتمي لهذا المكان. هذا ليس مكاني. ولكني «مش قادرة أحدد مثلًا هل هيبقى لطيف إن الأحداث مرتبطة بمكان أنا مش هادخله تاني أبدًا؟ فـ الذكريات دي مش هتجيلي بالقوة اللي كنت هاعيش فيها لو كنت عملت ده في أوضتي مثلًا. فـ كنت هاضطر أفتكر في كل مرة أدخل أوضتي لمدة كام شهر بعديها.. ولّا إيه؟ أعتقد بـ أميل أكتر لفكرة إنه لطيف إنى مش هادخل المكان تاني».
اقرأ أيضاً: الإجهاض السري في المغرب
ورغم اختياري أن أخبر بعض الأصدقاء إلا أن المساحة ظلت مُتحكمة فينا، ولم تسمح بزيارات مَن أحتاج إليهم بالفعل في هذا التوقيت. أنا نفسي كنت مختبئة. لم يكُن هذا الخيار مُتاحًا، ولم أتمكن من الوصول لأشخاص كانوا سيهوّنوا الأمر بالمشاركة. أعتقد أن وجود أشخاص في دائرتي القريبة كان ليمتص مشاعر التخبّط لدي ولدى شريكي.
لو كنت متزوجة، فسأجهض في منزلي، ولا حاجة لاختراع الحجج للإفلات من عائلتي أثناء الإجهاض. كنت سأستقبل صديقاتي مثلًا، أو على الأقل سأتحرك إلى الحمام بحريّة دون أن أنحني أمام شباك الطرقة للاختباء من الجيران، كنت سأقصد أي مستشفى في بداية النزيف وأدّعي أنه إجهاض طبيعي، وأحصل على رعاية طبية. ولو كنت متزوجة، كان استقبالي لخبر الحمل سيختلف، حتى لو قررت الإجهاض في النهاية.
جزء كبير من سخطي كان شعوري بأني أقوم بفعل غير قانوني، رغم أنه جسمي.
لو كنت في بلد آخر، ربما كان بإمكاني الذهاب إلى المستشفى، ثم أطلب تأهيلًا نفسيًا. وكان ذلك غير مطروح أيضًا. مُزعج ألا نقدر على طلب المُساعدة وأن نشعر بالقهر والوصاية التي يفرضها علينا القانون والمجتمع. كل شيء في هذه التفصيلة سخيف.
بدأت أول جرعة من أصل أربع. وضعت الحبوب تحت لساني وانتظرت. لم يحدث شيء. أين الألم، أين التقلصات، تخوّفت كثيرًا أن أكون من هؤلاء اللواتي لا تناسبهن الحبوب، وأني سأحتاج إلى عملية. وفكرت كثيرًا وامتلأ رأسي بهواجس عن تدبير مصاريف العملية، هذا إن وجدت طبيبًا في الأصل. وراودتني خواطر عمّا إن كنت سأحتاج إلى جرعات أخرى بعد مرور الأربعة أيام، وهل سيكون هناك وقت ومكان مُتاحين؟ لأني، في كل الحالات، لن أخذ الجرعات في منزل عائلتي. في الجرعة الرابعة بدأت أشعر بوخز خفيف في الرحم، وبدأ الألم والنزيف.
اقرأ أيضاً: هل تُمنح ضحايا الاغتصاب حق الإجهاض؟
في لحظات النزيف الأولى بكينا معًا. كل الاتزان اختفى، واختفى معه أي تماسك. رغم أنني قرأت مرارًا عن أن النطفة بغير روح، شعرت أنني أقتل ابني، آلمني الفقد، وحاوطتني أسئلتي: «ليه مضطرة أعمل ده بالشكل ده مثلًا. يمكن كنت قلقانة أكتر من مستوى الحياة وشكل الحياة اللي إحنا عايشينها. طيب أنا لو مش مضطرة أحارب عشان آكل وأشرب وأعمل كل الحاجات دي هل كنت مثلا هاحتفظ بيه؟».
في هذه الأثناء انطوينا على بعضنا. احتضنني شريكي واحتضنته بالحميمية ذاتها، واعتبرت نفسي محظوظة عن بطلات حكايات الإجهاض التي سمعتها وقرأت عنها. غالبًا ما كنت أسمع أن الشركاء الرجال يختفون في هذه المواقف، وتنتهي العلاقة كلية بعد فترة وجيزة. أما هو فكان مسئولًا، هو مَن دبّر المكان، واشترى الحبوب من السوق السوداء، وهو مَن اشترى الفوط الصحية. وكان حريصًا على الجرعات ومواعيدها وكذلك الفيتامينات والطهي. قضينا وقتنا بين الجرعات في مُشاهدة قائمة أفلام أعدّها خصيصًا لي. وفي كل مرة ذهبت للحمام انتظرني وأخذ الفوطة الصحية ليرميها. هذا مُريح، شعرتُ بالقبول، «ما كانش قرفان من الدم بتاعي»، لم أشغل بالي بشيء، كل ما ركزّت فيه هو الألم الذي أشعر به الآن، في أسفل بطني.
«منظومة فالصو. الفكرة بتاعة إن الشخص اللي ملتزم ناحيتك جوزك ومش عارف إيه وهو اللي بياخد باله منك فـ الحاجات اللي زي دي. فـ انتي لازم تتجوزي ويبقى لازم فيه حد في ضهرك. لأ. الحقيقة إن اللي خد باله مني كنا في علاقة بالنسبة لكم مش رسمية ومش شرعية وهو اللي كان مهتم ومعتني».
برغم تلك المشاعر الطيبة، شعرتُ بأن شيء ما ينقُصني. كنتُ بحاجة لصديقة.
أخبرت صديقين ولكني كنت على يقين أنهم لن يفعلوا شيء في حال حدثت أي مضاعفات. هؤلاء لم يختبروا هذا الموقف من قبل، ولم يمسّ محيطهم بأي شكل. أقصى ما سيفعلونه هو المواساة. أما الصديقات في قائمة الطوارئ، فعرفتهن عن طريق الإنترنت، وكنت أعلم أن أغلب تجاربنا مُتشابهة. «كان هيفرق معايا إن أنا أكون وقتها مثلًا قادرة أكلمك. أو أكلم فلانة إنه: طب ما تيجوا.. تعالوا اقعدوا معايا يوم مثلًا. تعالوا زوروني. تعالوا أنا مش عارفة أبقى لوحدي. تعالوا أشوفكم ساعة وامشوا».
في النهاية حتى إن حدثت أي مُضاعفات صحية، يلزمكن على الأقل 6 ساعات للوصول إلى مكاني. إن كنتُ مُصابة بنوبة هلع، فستنتهي قبل وصولكن. أتعرفين ما الذي أشعرني بقدر من الطمأنينة؟ «الإحساس بتاع إنك عارفة إن في بني آدمين انتى واثقة إنك لو بتموتي مثلًا همّا هيعرفوا ياخدوا التصرف الصح. أو هيعرفوا يتعاملوا مع الموقف».
رغم رغبتي المُلحّة في وجود امرأة بجانبي وقتها، لم أتخيلها أبدًا أمي. علاقتي بأمي لا تسمح بهذا النوع من الحكايات، أنا أفعل كل شيء عكس ما تعتقده. أنا مرتبطة وهي علمت بارتباطي من فيسبوك. وكانت فكرة الارتباط نفسها تحررية أكثر من اللازم في سياق عائلتي المحافظة المتدينة. أما النقطة الأهم فكانت صورتي ومستقبل أسرتي الصغيرة جدًا التي أعتبر نفسي سببًا رئيسيًا في هروبها من والدي.
اقرأ أيضاً: ما سقف المطالب النسوية في المغرب؟
«انفصالنا عن بابا كان مخلي وجودي فـ البيت عمود قوة. أنا الكبيرة. أنا كنت في ضهر ماما دايمًا في الحاجات. أنا اللى كنت باشجعها تسيب البيت، فـ كان هيبقى مخزي للفكرة كلها. أنا باتعامل معانا مش كأني فرد مستقل. بس كأننا بيت دفع تمن اختياره لراحته النفسية. دفع تمن الاختيار ده إن هو قاعد في بيت أقل من المستوى بتاعه. بيصرف أقل من مصاريفه. فـ إحنا حرفيًا دفعنا تمن ده. فـ كان عندي مشكلة إني أسقط منهم. إن ده كان ممكن يخليهم يتراجعوا ويرجعوا البيت. أو لو بابا عرف ياخدهم كلهم بالعافية مثلًا. من منطق إنه: أنا لما سيبتهُملِك واحدة فيهم رجعت لي حامل».
مرت الأيام القليلة، وتوطدت معها علاقتي بشريكي، واكتمل جزء من صورة لم أكن لأدركه لولا التجربة. لم يستمر النزيف كثيرًا وكان هو يسألني باستمرار عمّا إذا توقّف أم أحتاج أدوية تساعد في توقيفه. حتى وقف الدم، ووقف معه الزمن عند نقطة معينة.
«في وقتها ما كنتش عارفة أقول لحد. وما كنتش حاسة إني عارفة أقول لحد».
أعتقد أن الإجهاض تجربة خاصة، أي أنني لم أكن لأشاركها على العلن، فقط احتجت أن تتوفر المساحة ﻷتأكد أن التجربة رغم خصوصيتها هي تجربة عادية. من حين لآخر، أشارك بضعة سطور منها على فيسبوك، لكن مشاركتها بعمق ما زالت مرهونة بالأشخاص وعلاقتي بهم. حتى في دوائرنا التقدمية نسبيًا، تكون المُشاركة بحساب. أتذكّر أن أحدهم تبرع يومًا لإخباري أن «ناس كتير من دايرتنا عرفت». رديت باستنكار: «ما يعرفوا. مش المفروض إن أنا حرة في جسمي؟».
التجربة تستدعي أن المُستمع لن يتأفف، لن يمل، ولن يحكم عليّ. لأن ذلك إن حدث، فهذا يعني أننا نعيش تجاربنا كنساء بمفردنا. هذا مُرعب، أن أواجه كل شيء وأنا وحيدة، لا أسمع سوى صوتي، ولا أشارك أفكاري، وأعيش التجربة بمعزل عن باقي العالم.
الحكاية اﻷولى في سلسلة حكايات الإجهاض المنشورة على موقع مدى مصر. القصة كما روتها صاحبتها، وفي بعض المناطق تنقل الكاتبة عنها نصًا.