نشأتْ كل "الخصوصيّات" ــ كلّها دون استثناء ــ في السياق السياسيّ الفلسطيني جرّاء النكبة والسياسات الاستعماريّة التي تتواصل حتّى اليوم. حتّى وإن ساهم القرار السياسيّ الفلسطيني في تشكيل أو رسم ملامح هذه الخصوصيّات بواسطة قراراته السياسيّة، فإن النشوء الأوّل للخصوصيّات أساسه في "المُنجزات" الإجراميّة لإسرائيل. الخصوصيّة الاجتماعية ــ السياسية لشعبنا في القدس نتجت عن القرار الإسرائيلي بضم القدس، الذي أوجد واقعاً مركباً من حيث المكانة القانونيّة والارتباطات الحياتية وغيرها. والخصوصية السياسية لغزّة نتجت، إلى حدٍ بعيد، نتيجة الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع باعتباره واحد من الأدوات الأساسية لعزل المقاومة المسلحة وتيسير عملية اقتلاعها من الضفة الغربية. نشأت خصوصيّة لاجئي لبنان أو لاجئي الأردن من فعل تهجيرهم، ونشأت خصوصيّة الفلسطينيين الدروز من إكراههم على الخدمة العسكرية.
بسبب النكبة، وبسبب الاستعمار، اختلفت الوضعيّات القانونيّة والسياسيّة لمجموعات مختلفة من الفلسطينيين، ولحق ذلك فجوات هائلة نتجت عن المستوى الاجتماعي والاقتصادي لتلك المجموعات أو تكرّست عليها، وخلقت مع الوقت تمثيلات سياسية وأنماط عمل سياسي وقيادات سياسية "خاصة" في كلِّ حالة من الحالات. وتتفاوت هذه الحالات في مدى "خصوصيّتها" بعلاقة طرديّة مع حجم عملية "الفصل" وقطعيّتها والعنف الذي مارسته إسرائيل في لحظة "تكوّن" هذه الخصوصيّة.
يجري التطرّق إلى هذه "الشرذمة" غالباً باعتبارها "نهجاً" أو "سياسة" استعماريّة – سياسات التفرقة، "فرّق تسد"، الخ...- لكنّها قبل أن تكون تكتيك إضعاف للمجتمعات، فإنها تحمل صفة أكثر جوهرية للاستعمار الصهيوني: فلتوحيد المصير السياسي للشعب اليهودي، كما يطرح المشروع الصهيوني نفسه، معنى واحد ووحيد - نفي وحدة مصير الشعب الفلسطيني.
لأسباب كثيرة، مبرّرة ومفهومة وطبيعيّة، برزت مكانة الأرض كتعبير مركزيّ عن الصراع مع الاستعمار. وتحوّل البقاء في الأرض، والحفاظ عليها، والعودة إليها، إلى التعبير الأساسي عن طموحات وأهداف الفلسطينيين. إلا أن بروز هذا التعبير همّش المسألة السياسيّة بجانبها الإنساني / الاجتماعيّ: كوننا نناضل من أجل الوطن باعتباره مساحةً لاجتماع مكوّنات الشعب (والأفراد أوّل المكوّنات) لتحقيق ذاتهم من خلال التطلّع إلى مستقبلهم المشترك.
السؤال المطروح هو الآتي: هل نسعى إلى مستقبل سياسي واحد لكل الشعب الفلسطيني أم لا؟ هل مستقبل فلسطينيي الداخل السياسي (والسياسي هنا يعني الإدارة والميزانيّات وجهاز التعليم وجهاز الصحّة والمواصلات وقوانين الزواج والرفاه الاجتماعي..) مشترك مع شعبنا الفلسطيني أم مع الإسرائيليين؟
في حالة اللاجئين في الشتات، كان الارتباط بين وحدة المصير والمستقبل والعودة إلى الأرض ارتباطاً واحداً ومتساوياً. العودة معناها أن يعود الفلسطيني إلى مكانه الطبيعي ويعيد بناء مجتمعه. أما داخل الأراضي التي سيطرت عليها العصابات الصهيونيّة، فقد اضطرّ بقيّة الفلسطينيين إلى الخضوع للدولة الإسرائيليّة بهدف البقاء في الأرض وتجنّب عمليّات تهجير جديدة. بكلمات أخرى، فقد تحوّل هدف "البقاء في الأرض" إلى مبرّرٍ للحصول على المواطنة الإسرائيليّة، وبالتالي إنتاج خصوصيّة سياسيّة جديدة للفلسطينيين في الداخل تسلخهم عن وحدة المصير والمستقبل للشعب الفلسطيني – وهو ضرب من ضروب الهزيمة السياسيّة التي أرغم عليها فلسطينيّو الداخل تحت وطأة الحكم العسكريّ والمجازر والتهجير المستمر.
هناك أسئلة كثيرة حول تلك الحقبة وحول تشكّل ا لقرار السياسيّ فيها، لكنّنا اليوم لسنا بصدد محاسبةٍ تاريخية. أولًا، لأنه من غير العادل أن تُلام الضحيّة على قراراتها السياسيّة المتّخذة تحت أشد أنواع العنف الدمويّ والقهر والحكم العسكريّ والهزيمة النكراء (حتّى وإن كنّا نعتقد اليوم بأنّها كانت خطأ تاريخياً)، وثانيًا، لأن هذا النقاش من شأنه أن يثير مناكفات كثيرة ويؤجج حساسيّات سياسيّة، تتعلّق أساساً بدور الحزب الشيوعيّ في تلك الحقبة، وهي تفضي إلى نقاشٍ عقيم في الغالب، بينما نحن نتطلّع إلى نقاش يبني ويؤسس للمستقبل.
اقرأ أيضاً: التحريض.. الاسم الإسرائيليّ لوعي الفلسطينيين السياسي
لكن المطروح أمامنا الآن هو سؤال بسيط: هل هذه الخصوصية التي نتحدّث عنها اليوم (بكل تعبيراتها) للفلسطينيين بالداخل هي خصوصيّة يتمتّع بها فلسطينيّو الداخل أم هي خصوصيّة فُرضت على الفلسطينيين بالداخل بقوة الاحتلال والقمع لسلخهم عن شعبهم؟ هل عناصر هذه الخصوصيّة (المشاركة في البرلمان الإسرائيلي، الحصول على ميزانيّات حكوميّة، التقدّم في المجالات الأكاديمية.. الخ..) تمّ "إنجازها" و"تحصيلها" على الرغم من القمع الإسرائيلي، ويجب الحفاظ عليها والذود عنها كمُنجزات، أم أنّها تجلّيات للحالة الكارثية التي أنتجتها النكبة والاستعمار والقمع والجريمة، وبالتالي يجب التعامل معها انطلاقًا من معيار الوحدة الوطنيّة؟ هل يجب توسيع المساحة الخاصة بفلسطينيي الداخل من خلال توسيع اندماجهم "وازدهارهم" بالمواطنة الإسرائيليّة، أم يجب تقليص المساحة الخاصّة لصالح ممارسة حياتنا مع شعبنا ومجتمعنا الذي بُترنا منه؟ وبكلمات أخرى فإن السؤال الوحيد والبسيط المطروح هو الآتي: هل نسعى إلى مستقبل سياسي واحد لكل الشعب الفلسطيني أم لا؟ هل مستقبل فلسطينيي الداخل السياسي (السياسي يعني الإدارة والميزانيّات وجهاز التعليم وجهاز الصحّة والمواصلات وقوانين الزواج والرفاه الاجتماعي) مشترك مع شعبنا الفلسطيني أم مع الإسرائيليين؟
واحدة من المفارقات التي تُنتجها إسرائيل في النقب مثلاً، أنّها لا تعترف بأن ملكيّة الأرض تعود لشخص ما إلا في حالة وافق هذا الشخص على بيع الأرض. الورقة الوحيدة التي تعترف بها إسرائيل بملكيّة الفلسطيني للأرض هي عقد بيعه لأرضه. ولا تعترف إسرائيل بأي "طموح سياسي" أو "حق تقرير مصير" للفلسطينيين في الداخل ولا بتمثيل سياسي "شرعيّ" لهم، إلا حين يهدف هذا "الطموح" إلى الاندماج داخل المواطنة الإسرائيليّة والانفكاك عن مشروع التحرر الوطني الفلسطينيّ. لذلك، فإن مسألة "خصوصيّة فلسطينيي الداخل" ليست مسألة رغبة أو قرار، وليس فيها حريّة اختيار - فالمواطنة فُرِضَت ولم تُحصَّل. كما أنها ليست مسألة تخصّ فلسطينيي الداخل وحدهم، بل مسألة كل الشعب الفلسطيني.
لا تعترف إسرائيل بأي "طموح سياسي" أو "حق تقرير مصير" للفلسطينيين في الداخل ولا بتمثيل سياسي "شرعيّ" لهم، إلا حين يهدف هذا "الطموح" إلى الاندماج داخل المواطنة الإسرائيليّة والانعتاق عن مشروع التحرر الوطني الفلسطينيّ.
يُمكن لل"خصوصيّة" أن تُعتبر امتيازاً استعمارياً لو تحوّلت إلى "مُنجز" يجدر الحفاظ عليه. ولكني أعتبرها حاجزاً نكبوياً أسسه الاستعمار لمنع تحقيق مستقبل مشترك ومجتمع فلسطيني واحد يتعدد ويختلف تحت مظلة سياسية إدارية واحدة. وعلينا أن نسعى إلى تذويب هذه الخصوصيّة من خلال توسيع رقعة العمل السياسي والشعبي المشترك بين جميع أبناء الشعب الفلسطيني، الإنخراط تحت حالة نضاليّة واحدة (كما كان من الممكن أن يحصل في الهبة الأخيرة في المسجد الأقصى مثلاً)، وبناء حالة سياسيّة فلسطينيّة في الداخل تُركّز على تعزيز المقدرات الذاتيّة والاستقلاليّة عن الإسرائيليّين، وبناء البدائل الوطنيّة واعتمادها حصراً، وتحديد العلاقة مع الإسرائيليين بالضروري والطارئ لحياة الناس (مع السعي المستمر لتوفير إجابة وطنية ولائقة لهذه الضرورات)، ولفظها حين تكون رفاهية وامتيازاً ومجرد تسهيل للحياة.
ويترتب على هذا تضحيات معينة من واجب القيادة السياسية إدارتها والإستعداد لها: عدم إنهاك المجتمع من جهة، والحفاظ على كرامته وعلى مستقبله من جهة أخرى. فلا التبعية، ولا حياة الريع ولا توسُّل الميزانيات، ولا الاندماج بمجتمع المستعمِرين يضمن لأولادنا مستقبلاً كريماً وحراً ومشرقاً. وينطبق هذا على الفلسطيني أينما كان: لا يُحصر بالداخل، ولا يُستثنى الداخل منه.