أدين للكتب والمجلات - وليس للأحزاب والمنتسبين إليها - بتشكل وعيي السياسي والأيديولوجي الأول: حنّا مينه، عبد الرحمن منيف، محمد الماغوط، غسان الكنفاني، صنع الله إبراهيم، وسواهم.. شكراً لهم جميعا فلقد "أفسدوا" أفكاري ومراهقتي وما سيليها. مثلاً، اكتشافي للحركة النسوية ومسائل المساواة بين الجنسين بدأ مع قراءة لعدد من مجلة الآداب اللبنانية صدر في صيف 2003.
كنت في أواخر سنوات المراهقة وبدايات الوعي السياسي، وكان من الطبيعي أن تشد انتباهي مجلّة يحمل غلافها عنوانين ملفتين، الأول حول الحرب على العراق والثاني حول "أسئلة الاختلاف الجنسي". لا أتذكر كثيراً محتوى الملف الأول، لكن الملف الثاني مثّل اكتشافاً بالنسبة لي: الجندر/ الجنوسة، نظام أبوي/ بطريركي، أمومي/ ماترياركي، الحركة النسوية، الخ... ملف الآداب وما أثاره من أسئلة جعلني اقرأ كتابات أخرى ستغيّر تدريجياً نظرتي للمرأة وللرجل والمجتمع عموماً. ومع دخولي الجامعة واحتكاكي باليساريين والحقوقيين والنسويات، سيزداد اهتمامي بمسألة المساواة وفهمي لجذور الاختلاف.
في تلك الفترة، كنت متأكداً تماماً من أنني رجل تقدمي تخلّص نهائياً من عبء "ذكوريته الشرقية"، وكنتُ أعتبر أن نقطة الضوء الوحيدة وسط عتمة الديكتاتورية كانت وضعية المرأة التونسية والمكاسب التي حققتها مقارنة بدول المنطقة، وحتى عالمياً. قناعاتي تلك رافقتني مدة سنوات إلى أن زعزعها حدثان كبيران في حياتي: الثورة التونسية وزواجي.
نساء (ورجال) في مهب الثورة..
"الثورة التونسية" أهدتنا مكسباً عظيماً: لقد خلّصتنا من أوهامنا. الواقع لا يشبه كثيراً الملاحم والسرديات الجميلة التي قرأناها في الكتب وشاهدناها في الأفلام. الأمور أكثر تعقيداً وتخييباً للآمال. الثورة ليست أصعب ما في الأمر: صباح اليوم التالي أصعب بكثير. الأدهى أننا لم نصطدم فقط بصعوبات إدارة الحاضر وصياغة المستقبل، بل وجدنا أنفسنا في لحظة ما خائفين من أن نخسر "المكاسب" القليلة التي تركتها لنا الديكتاتورية.
أيام وأسابيع قليلة كانت كافية لكي نكتشف زيف الدعاية الرسمية عن مدى تجذّر قيم الحداثة والمساواة بين الجنسين في المجتمع التونسي. الإسلاميون العائدون من منافيهم وإقاماتهم الجبرية، والسلفيون الخارجون من مخابئهم اعتقدوا أن ساعة التمكين أتت ولم يطيقوا صبراً. سرعان ما بدأوا في تطبيق وصفتهم التقليدية: أسلمة المجتمع تمهيداً لأسلمة الدولة. وطبعاً كانت المرأة خصوصاً والعائلة عموماً مربط الفرس. كانوا متأكدين من أن جزءاً كبيراً من التونسيين ــ وبالأخص من الرجال ــ لم يهضم "الإخصاء الرمزي" الذي قامت به دولة الاستقلال عبر إصدار "مجلة أحوال شخصية" (آب /اغسطس 1956) تُعتبر على الرغم من كل شيء تقدمية وتحررية. الخيام الدعوية، المدارس القرآنية، وسائل التواصل الاجتماعي، وسائل النقل كلها كانت أماكن صالحة لتحريض التونسيين (وحتى التونسيات) على هذه المرأة التي تخالف شرع الله والعرف، وتهمل عائلتها، وتختلط بالرجال في الجامعات ومراكز العمل، وتتولّى كلّ المناصب.
الثورة ليست أصعب ما في الأمر: صباح اليوم التالي أصعب بكثير. الأدهى أننا لم نصطدم فقط بصعوبات إدارة الحاضر وصياغة المستقبل، بل وجدنا أنفسنا في لحظة ما خائفين من أن نخسر "المكاسب" القليلة التي تركتها لنا الديكتاتورية.
فوز الإسلاميين الكبير في أول انتخابات عزّز مخاوف الكثير من التونسيات والتونسيين، وسرعان ما تحوّلت وجهة الصراع من ثورة ضد الإفقار والتهميش والطغيان إلى صراع مشاريع مجتمعية وهويات. فمن كان الرابح الأكبر؟ طبعاً رجالات العهد القديم الذين عادوا إلى المشهد مسوِّقين أنفسهم كحل وحيد لمحاربة الظلامية وإنقاذ مكتسبات "دولة الاستقلال" و"الحداثة". وفعلاً نجحت دعايتهم وفازوا في الانتخابات التالية، ثم تحالفوا مع.. الإسلاميين.
عندما تقول لي زوجتي: "أنت رجل، لا فائدة، لن تفهم.."
هذه الجملة تتكرر تقريباً في كل مرّة أتناقش فيها مع "حرمي المصون" حول مسألة المرأة وحقوقها في تونس خاصة، وفي بقية العالم عموماً. هي تؤمن بأن أي قانون أو تشريع لصالح المرأة مهما كانت خلفياته وأهميته هو خطوة إلى الأمام. أنا أفرح مثلها، ولكن كمفسد بهجة محترف، أقول لها يجب ألا ننتشي كثيراً، فالقوانين تبقى حبراً على ورق، وأن التغيير يأتي عبر التطوّر التاريخي للمجتمع. تنظر إليّ بحنق ثم تقول ساخرة: "نعم علينا أن ننتظر مئة سنة أو ألف أخرى حتى يتفضل المجتمع بالتطور".
أقتنع قليلاً بضعف حجتي، فأقرّر الانسحاب التكتيكي ثم اعتماد إستراتيجية "هجوم" جديدة. أقول لها إن النظام التونسي يحترف منذ عقود التلاعب بقضية المرأة لتلميع صورته ولإلهاء الشعب عن قضاياه المصيرية. تجيب بهدوء مستفز: "وليكن، المهم أن هناك قوانين ومكاسب. ثم من قال لك إن للجميع القضايا المصيرية نفسها؟".
اقرأ أيضاً: كيف تكون النسوية تفكيراً بفلسطين التي نريد؟
تسجّل هي نقطة أخرى وأستمر أنا في المكابرة: "قضية المساواة بين الجنسين تهم الرجل أيضاً ولا تقتصر على المرأة. النضال يجب أن يكون مشتركاً". لم تنفع حججي مرة أخرى: "تفضلوا، لم يمنعكم أحد من النضال من أجل المساواة. هناك أمور لن تحسّها ولن تفهمها لأنك رجل: أن يتم التحرش بك في الشارع والجامعة والشغل ووسائل النقل، أن تختار ملابسك وفقاً لإكراهات المجتمع وليس انسجاماً مع ذوقك، أن يشكك الجميع بأحقيتك في المنصب الذي تشغله، ألاّ يكون لك الحق في الزواج من رجل لأنه لا يعتنق الدين نفسه، أن تتزوج من مغتصبك". أحضّر إجابة نموذجية علّني أكسب نقطة في الحوار: "أنا لستُ فلسطينياً ولا مثلياً جنسياً ولا أعاني من إعاقة عضوية ولا أنتمي الى أقلية دينية أو عرقية.. لكن هذا لا يمنع من أن أتعاطف وأتضامن مع الذين ذكرتهم جميعاً". ترد بكل ثقة في النفس: "بالضبط، تتعاطف وتتضامن. هذا أقصى ما يمكن أن تفعله، لكنك لن تحس أبداً حقيقة ما يعانونه".
يجب الاعتراف بأن مجادلة استاذة فلسفة يسارية الهوى ليس بالأمر السهل..
Mansplaining والعياذ بالله..
صيف 2017 يعتبر تاريخياً بالنسبة للمرأة التونسية، فلقد حققت فيه مكاسب قانونية كبيرة. تمت المصادقة على إلغاء البند القانوني الذي يتيح للمغتصِب الإفلات من العقاب عبر الزواج من الفتاة التي اغتصبها. تمت إعادة النظر في سن الرشد الجنسي. كما أن رئيس الجمهورية تحدّث عن طرح مبادرة تشريعية لها علاقة بالمساواة في الإرث، وألغى المذكرة القانونية التي تمنع زواج التونسية من غير المسلم. طبعاً أفرحتني هذه المستجدات، لكني لم أستطع منع نفسي من تذكير النساء (عبر منشور فايسبوكي) أن الأمر مجرّد حبر على ورق، وأن قوانين بدون آليات رقابة ولا تثقيف ولا وعي شعبي لا قيمة لها.
"هناك أمور لن تحسّها ولن تفهمها لأنك رجل: أن يتم التحرش بك في الشارع والجامعة والشغل ووسائل النقل، أن تختار ملابسك وفقاً لإكراهات المجتمع وليس انسجاماً مع ذوقك، أن يشكك الجميع بأحقيتك في المنصب الذي تشغله، ألاّ يكون لك الحق في الزواج من رجل لأنه لا يعتنق الدين نفسه، أن تتزوج من مغتصبك"
يبدو أن المنشور لم يعجب الكثيرات فأغلب الذين ضغطوا "لايكات" كانوا من الذكور. إحدى الصديقات علّقت على المنشور بكلمة يتيمة:"mansplaining" . لم أرد عليها مباشرة لأني لا أعلم أصلاً معنى الكلمة. وحتى يطمئن قلبي، إستخرت غوغل ففهمت أنها كلمة إنجليزية هجينة، وهي في واقع الأمر دمج لكلمتين: رجال وتفسير. كلمة اخترعتها نسويات أميركيات لوصف كلام رجل يعتقد أن مِن واجبه أن يشرح للنساء أموراً تهمهن بصفة مباشرة (شكراً ويكيبيديا). الرجل هذا، ومهما كانت سلامة نيته، يعتبر نفسه أكثر فهماً لقضايا المرأة من المعنية بالأمر، أي أنه يستبطن فكرة تفوقه ــ بوعي أو من دونه ــ وأنه أكثر ذكاء وقدرة على التحليل. يعني زوجتي العزيزة تعتبر أنه لا يمكنني فهم حقيقة ما تعانيه المرأة وصديقتي الفيسبوكية تتهمني بأن لدي "إفراط" في فهم قضايا المرأة. الأمر صادم قليلاً: كنتُ أعتقد أن لدي فهم عميق لقضايا المرأة والمساواة. يا إلهي كم أنتن تعقدن الأمور!
ما زلت غير مقتنع كثيراً بفصل قضايا حقوق المرأة والمساواة عن بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ما زلت أعتبر النسويات الليبراليات غير قادرات على صياغة مشروع تحرري حقيقي وشامل. لكني أصبحت مقتنعاً بأن تطوير المدونات القانونية التي تعزِّز حقوق المرأة وتعبِّد طريقها نحو المساواة والمواطنة الكاملة هو أمر ضروري، حتى وإن لم يكن له تأثير آني، وحتى إن لم ينبع من إرادة شعبية جماعية.
اقرأ أيضاً: أزمة الحركة النسوية السعودية
المجتمعات لا تتقدم بالتربيت على كتفها وتقديس عاداتها، بعض الصدمات القاسية ضرورية أحياناً. التشريع هو إحدى جبهات المعركة ولكنها ليست الوحيدة. مهما كانت نوايا رئيس الجمهورية وحزبه "الحداثي" من وراء المبادرات المطروحة مؤخراً، فيجب التعامل معها ببراغماتية والضغط لتحويلها إلى قوانين في مرحلة أولى وإلى واقع في مرحلة ثانية...