أخيراً، وبعد جفاء وقطيعة طويلة وتوتر قارب حافة الحرب بين "السلطة" التي لا سلطة لها في رام الله، و"سلطة " حماس التي لا سلطة غيرها في قطاع غزة المعزول بالحواجز الاسرائيلية، سمح "التوافق" الذي شاركت في تنظيمه ــ بغير رغبة ــ الحكومة المصرية، بلقاء بين "السلطتين الفلسطينيتين" عبر زيارة حكومة رام الله لقطاع غزة واستقبالها بحفاوة، شعبياً ورسمياً.
غير أن حرارة الاستقبال لا تعني انتهاء زمن الخصومة، ولا هي تُبشِّر بقرب انبلاج فجر الوحدة الفلسطينية التي عجز حتى الاحتلال الاسرائيلي عن تقريب أجلها، على الرغم من انها الاصل والاساس في النضال من اجل التحرير واستعادة الأرض في الضفة والقطاع المحتلين.
الحماسة وحدها لا تصنع دولاً. واخفاء الخلافات السياسية والفكرية والاقتصادية تحت السجادة لا يصنع وحدة وطنية صلبة بما يكفي لمواجهة مخاطر الالغاء، وطمس التاريخ وتزوير الجغرافيا لتثبيت "شرعية" الكيان الصهيوني وشطب حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه وإقامة دولته المستقلة فوق ترابها المقدس.
خرجت جماهير غزة ترحب بالوفد الرئاسي القادم، برئاسة الحمد الله، وتكاد تجتاح البوابات المكهربة التي اقامها الاحتلال لمنع التواصل بين أبناء الشعب الواحد. مشت الجماهير على شعارات "حماس" و "فتح" وصور القيادات وإعلام "السلطتين"، مرحبة بهذا المشهد الوحدوي النادر، مع انها تعرف انه "عابر"، وأن الانقسام قد استولد مصالح أقوى بتجذرها وتأثيرها من العواطف الجياشة التي يمكن أن تذهب مع الهواء..
آن أن يستعيد الشعب اسمه، اسم أرضه. لكن القيادات هي ذاتها، أيام "الانفصال" كما أيام "الوحدة" التي سقطت فجأة من السماء.. ما الذي تبدل في الفترة بين اتفاق الرياض أو اتفاق القاهرة، واتفاق اليوم؟ القيادات هي هي القيادات. ربما مات واحداً أو أكثر منها. ربما سقطت بعض الشعارات سهواً. لكن السياسات هي السياسات، والانقسام دائم. "حماس" ما تزال هي الأقوى في غزة. لكنها ليست "حزب الله".
***
إنها في جزيرة محاصرة جغرافياً، وهي في جزيرة فكرية ــ سياسية تحاصرها شعارات الاخوان المسلمين التي انتهى زمانها..
من هو المعني بهذه المصالحة الشكلية التي لا تغير في واقع الامر شيئاً.
إن الشعب الفلسطيني يريد قيادة واحدة. لكن القيادات القائمة والتي تسترهن الواقع السياسي لا ترغب بالوحدة ولا تريدها. الوحدة تقفل ابواب "الرزق" التي تفتحه "الدول الغنية" أمام الانقسامات الفلسطينية. لكل انقسام ثمن، والثمن "مخصصات" القيادات وايجارات مكاتب الانشقاق ومرتبات الانصار.
واذا كانت أغراض مصر "وقائية"، فأغراض بعض دول النفط "هجومية".. والانقسام أهم الشروط الواجب توفرها لتفتيت "القضية".
أين موقع محمد دحلان من هذا التطور، وهو المقيم في الرعاية المصرية، لتستخدمه للضغط على السلطة حين ترى ذلك ضروريا، أو على "حماس" لاستدراجها إلى فيئها والتخلي عن الرعاية التركية لحكم الاخوان المسلمين فيها؟
أين مشروع أو مشاريع الانتخابات لتجديد شباب منظمة التحرير، بل لاستنقاذ ما تبقى فيها بعد مسلسل الانقسامات والتنازلات التي قدمتها "السلطة" لكي تستمر ولو كواجهة للاحتلال؟
اقرأ أيضاً: الفيل في الغرفة .. "حماس" والسلفيّة الجهاديّة في غزّة
لقد طال الزمن على انقسام السلطة إلى سلطتين، واحدة في رام الل، والاخرى في غزة.. وصار لكل سلطة "مؤسساتها" و"موازناتها" و"شرطتها" و"جيشها" و"مخابراتها"، ومناصريها من العرب والدول الأجنبية.. فحماس كانت تحت رعاية تركيا وإن بتمويل قطري، دعماً للإخوان المسلمين، وتحريضاً على مصر وتخريباً عليها. وما زال العداء مستعراً بين مصر وبين تركيا بعد الاطاحة بحكم الاخوان المسلمين في القاهرة.
وصحيح أن حماس قد غيرت، في الفترة الاخيرة، وبعد مؤتمر استثنائي في الدوحة، في قياداتها وفي توجهاتها المعلنة وفي بعض شعاراتها، لكن دماء الاخوان المسلمين ما تزال تجري في عروقها، فكيف ستطمئن اليها القاهرة مثلاً؟
***
إن القيادات الفلسطينية جميعاً تتبدى مستهلَكة. انها مثل أي نظام تقليدي في أي بلد عربي مستقر وآمن: لها كل مظاهر السلطة، ولا دولة.. ولها كل شكليات الدولة ولا سلطة لها على ارضها.
حتى زيارة "الحكومة" في رام الله إلى "سلطة الامر الواقع" في غزة كانت بحاجة إلى اذنٍ إسرائيلي، والى أن يسمح العدو بفتح المعبر لتعبر "الحكومة" من فلسطين المحتلة إلى فلسطين المحتلة.
ولسوف تنتهي الزيارة التي استقبلها اهالي غزة بحماسة واضحة، لأنهم ضاقوا ذرعاً بهذا التقسيم "العقائدي" الاجباري، بعد التقسيم العسكري بالقهر الاسرائيلي بين "سلطة حماس" في غزة و" سلطة فتح" في رام الله. ستنتهي الزيارة ومعها موجة الحماسة بعد يوم أو يومين، لكن واقع الانقسام سيبقى يظلل الضفة والقطاع. ولسوف يبقى الاحتلال الاسرائيلي القوة المهيمنة على حاضر الفلسطينيين في الضفة والقطاع.
لكن مجرد حدوث الزيارة والاستقبال الحار والتشوق إلى التلاقي بين أبناء الشعب الواحد في "الدولتين" الواقعتين تحت الاحتلال الاسرائيلي يؤكد إمكان إنهاء هذا الواقع الشاذ بإرادة الفلسطينيين أنفسهم وبمعزل عن قرار السلطتين..
ذلك في مستوى الأحلام.. والبعض يرضى بالقليل المتاح لأنه.. أفضل من لا شيء!