...وهذه ازمة سياسية جديدة لها "ابعاد قومية" خطيرة تتهدد العراق ليس في كيانه السياسي فحسب بل في وحدة شعبه اساساً. بل أن هذه الازمة تنذر بمخاطر جدية تتجاوز حدود العراق إلى مجمل الكيانات السياسية العربية، والى ما هو أبعد: العلاقة بين مكونات هذه الامة العريقة التي تواصلت حتى الالتحام في "دول" رسمت حدودها القوى الاستعمارية، زارعة فيها أسباب الفرقة والانقسام، تارة على أساس "قومي" وطوراً على أساس "عنصري". وهكذا ظلت رهينة من أنشأها وأقامها – بالقوة غالباً أو باستغلال شهوة الحكم عند بعض القيادات – لتظل خاضعة لهيمنتها بمعزل عن رفرفة اعلام " الاستقلال" فوق ساريات الحكم في الكيانات المستحدثة.
إن ازمة خطيرة تهدد العراق في دولته ووحدة شعبه الآن. دعوة حكومة اقليم كردستان بعنوان مسعود البرازاني إلى استفتاء في هذا الاقليم على استقلاله عن دولة العراق، على الرغم من فشل التجربة الاتحادية التي تمتع خلالها الاقليم بحكم ذاتي مفتوح الصلاحيات مكّنه من أن يبني جيشاً وان يقيم مجلساً نيابياً وان ينشئ إدارة خاصة بالإقليم، بل وان يباشر اقامة علاقات دبلوماسية مع دول بعينها، وان يتصرف – شخصياً- وكأنه رئيس دولة كامل الصلاحيات.. هذه الدعوة تنذر بحرب كريهة بين مكونين أساسيين للشعب العراقي، العرب والاكراد، لن يصيب منه العراق بعربه وكرده الا المزيد من الدمار والخراب والدم المهدور، بينما بالكاد استطاع العراقيون أن يتنفسوا الصعداء إثر انتصار قواتهم المسلحة على عصابات "داعش" التي سيطرت، قبل ثلاث سنوات، على ثلاثة ارباع مساحة ارض الرافدين، فقتلت آلافاً من شعبه نساء واطفالاً ورجالاً، ونهبت بعض ثروته (النفط اساساً) ودمرت عمرانه.
ومع أن "الاقليم" استعد للمواجهة، الا أن "داعش" تحاشى الصدام مع الاكراد فامتنع عن مواجهتهم مباشرة، ربما ريثما ينجز معركته مع بغداد. المهم أن مسعود برازاني مُصّر على الانفصال بعنوان "الاستقلال" متذرعاً بأسباب كثيرة اهمها فساد السلطة في بغداد ونكثها بالوعود وانتهاجها سياسة إبعاد الاكراد عن سدة الحكم.
وقد تكون هذه الاتهامات صحيحة بمجملها، ولكنها تنطبق على السلطة، كل السلطة في بغداد التي كان الكرد (وما زالوا) شركاء فيها – مبدئياً – ولهم فيها مواقع حاكمة بدءاً برئاسة الجمهورية والعديد من الوزارات والمواقع القيادية.
وإذا كان الاصلاح هو المطلب فانه مطلب العراقيين جميعاً، عرباً وكرداً وقوميات أخرى، وبالتالي فالمعركة من اجله تعني العراقيين، كل العراقيين، اللهم الا عصابات النهب والتسلط وسرقة الدخل القومي، والكل كانوا شركاء فيها، عرباً وكرداً وقوميات أخرى.
***
إن دولة العراق، بشعبها جميعاً، كانت المتضرر الاعظم من ذلك الفساد الذي استشرى حتى غدا مضرب الامثال.. ولا يستطيع أي طرف شارك في السلطة طوال الفترة الماضية بين عام 2003 واليوم أن يدعي البراءة والطهارة ونظافة الذمة والكف. وإذا كان الاحتلال الاميركي قد انجز ما عجز عنه صدام حسين في تهديم العراق ونهب خيراته، فان الذين تولوا السلطة في ظل وجوده العسكري أو نفوذه السياسي، وكل من تولى السلطة بعد ذلك، شريك في الفساد والإفساد الذي طاول مختلف وجوه الحياة، متستراً بالظلامة التاريخية طائفياً أو عنصرياً.
لقد وجد العراقيون أنفسهم بلا قيادة مؤهلة، وأُغري الشيعة بالانتقام من ماضي اضطهادهم واستبعادهم عن السلطة، فبطر معظم قادتهم الطارئين وعاثوا في البلاد فساداً.. فلا هم أنصفوا الشيعة وإن صح اتهامهم باستبعاد السُنة بذرائع شتى.
إن مسألة اكراد العراق لا تحل بالانفصال، كما انها لا يمكن أن تحل بالقوة، بل بالحوار الذي يستهدف الاتفاق على إعادة بناء العراق، بالشراكة الطبيعية بين ابنائه جميعاً، عرباً وكرداً واقليات متفرقة.
إقرأ أيضاً: الكرد العراقيون.. حركة تحرر «يحررها» الاحتلال
الكل في العراق كان مضطهداً: الشيعة والكرد، وحتى السُنة الا فئة قليلة منهم، هي بمعظمها الأقل كفاءة والاعظم فساداً..
ولا يمكن تعويض حرمان هذه الفئة أو تلك بالانتقام من فئات أخرى كان حكم الطغيان يستخدمها في تثبيت أركان حكمه بظلم الآخرين. إن المطالب المعلنة للكرد، تبريراً للانفصال، هي مطالب العراقيين جميعاً، عرباً وكرداً، سُنة وشيعة وسائر الطوائف. وكان الجميع يأملون من الكرد أن يكونوا شركاء في تحرير العراق من "داعش"، وشركاء في المطالبة بتطهير النظام من المفسدين والطائفيين الذين شوهوا صورة العراق عبر ممارستهم سياسات خاطئة وظالمة وفئوية.. فليس الشيعة جميعاً من الفاسدين، وليس السُنة جميعاً من الملائكة، وليس الكرد – بالتالي – من المطهرين..
لقد اساء الكل إلى العراق في حاضره كما في مستقبله، ومن الظلم بل من الخطايا المميتة أن يُحصَر الفساد أو الطغيان بطائفة أو مذهب أو "مكون" من مكونات الشعب العراقي.
ولا يكون الاصلاح برفع شعار الانفصال وكأنما الكرد شعب من المطهرين.
إن انفصال الكرد يعني دفع العراق إلى حرب اهلية مرعبة.. وبغض النظر عن المخطئ وعن المستفيد بالزور والتزوير، فالمؤكد أن شعب العراق بعربه وكرده هو الضحية العظمى..
***
إن انفصال الكرد، اذا ما حدث لا سمح الله، سيعني حرباً أهلية مفتوحة في العراق.. فلا شك أن بعض الزعامات الكرتونية التي جاءت بها الحرب على صدام حسين ستندفع إلى تقاسم العراق، أو ما تبقّى منه، فيرفع الشيعة شعار الانفصال بمناطقهم الغنية، ويرفع السُنة شعار الانفصال معتمدين على دعم أهل النفط وربما بعض الدول الاجنبية.
ولسوف تكون اسرائيل، بطبيعة الحال، المستفيد الاعظم من الكارثة القومية الجديدة التي تهدد بضرب أرض الرافدين.
إن انفصال الكرد ليس حلاً، بل انه سيتسبب بمشكلات جديدة وخطيرة للعراق مع تركيا (التي قد تعلن الحرب لمنعه)، وكذلك مع ايران التي ستقاومه بلا شك.. كما انه سيفتح جرحاً جديداً في خاصرة سوريا التي نزفت دمها وأهلها في السنوات القليلة الماضية.
انها كارثة قومية جديدة تماثل في جسامتها كارثة فلسطين..
فليجلس الجميع، عرباً وكرداً، وليتحاوروا بصراحة وإخوّة وحرص على المصير المشترك. فأي ضرر سيصيب أي طرف هو إضرار بالعراق جميعاً.
وثمة تجارب بائسة، في الماضي، يُستحسن استذكارها في الحاضر، حماية للمستقبل، وللأكراد، بالذات. تجربة مُرّة حين راهنوا على "الدول" فخذلتهم، وحكاية الملا مصطفى البرازاني - بسيرته المأساوية - يجب أن تظل في أذهان ابنائه والاكراد جميعاً.
وها هي "الدول " تحذر، وبعضها "يهدد"، وبعضها الثالث يفرك حكامها أيديهم ابتهاجاً بقرب الخلاص من العراق، بعربه وكرده، والذي كان ذات يوم يدعى "بروسيا العرب".