منذ حصار قطاع غزّة قبل أحد عشر عاماً، كان البحر مسرحاً للموت الذي يلاحق الفلسطينيين من خلال الآليات البحرية الإسرائيلية التي تهاجمهم في عرض البحر. فهدى غالية، الطفلة الفلسطينية التي أظهرتها شاشات التلفاز عام 2006 تبكي أمام جثة والدها وأفراد عائلتها، بعد أن قصفتهم الزواق الإسرائيلية على الشاطئ، ليست إلّا مثالاً لآلاف الهجمات المتكرّرة على الفلسطينيين عبر البحر. الطفلة تلك ظهرت شابّةً بثوب تخرجها من الجامعة قبل أيامٍ قليلة، أعادت الناس بذاكرتهم إلى الوراء، وذكّرتهم بالمأساة التي يحملها البحر لأهله، رغم كونه مساحة هامّة للهرب من الأزمات المتكررة والمتواصلة على القطاع طوال هذه الأعوام.
كان البحر آنذاك وسيلة لاستهداف سكّان القطاع. إلّا أنه، ومنذ وقتٍ قريب، صار رديفاً للاحتلال في محاصرة غزّة وقتل سكّانها. فهل من الطبيعي أن ينقضّ البحر على أهله؟
في 13 آب/ أغسطس سُجّلت أول حالة وفاة في قطاع غزة نتيجة تلوث مياه البحر، وهي للطفل محمد السايس، من حيّ الزيتون شرق غزّة. أصيب مُحمّد البالغ خمس سنوات، بجرثومة دماغيّة أدت لتسمم مجهول، كما كشف تقرير مستشفى محمد الدرّة للأطفال. الجرثومة أدت لإصابته بمتلازمة "داء الشيغيلات" المؤدية للتسمم القاتل والتلف الدماغي، ما أدى لوفاته بعد أيام قليلة من سباحته في بحر "الشيخ عجلين" غرب المدينة.
عائلة محمد، مثل مختلف عائلات القطاع التي تتوجّه عادةً للبحر كمتنفسٍ وحيد، تلجأ إليه في ظلّ انقطاع الكهرباء والمشكلات المختلفة التي تعصف بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. يقول والد محمد، في تقريرٍ نشره "مركز الميزان لحقوق الإنسان"، إنه هرب مع عائلته من انقطاع الكهرباء وحرّ الصيف الشديد، فلم يجد إلّا البحر الذي قتل ابنه، وأصاب باقي أفراد عائلته.
تلوث البحر الذي يُعاني منه القطاع، نتج عن أزمات عدة تواصلت على المساحة القليلة المحاصرة منذ سنوات، وأهمها انقطاع التيار الكهربائي (أكثر من 20 ساعة متواصلة يومياً في الشهرين الماضيين)، الذي أوقف محطات معالجة مياه الصرف الصحي، ما أدّى إلى دفع المياه المبتذلة إلى شاطئ البحر مباشرة، من دون أيّ معالجة.
تشير سلطة جودة البيئة في قطاع غزّة إلى أنّ نسب التلوث في مياه البحر ارتفعت بشكلٍ كبير خلال العام الجاري، حيث بلغت ما يقارب 70 في المئة، في زيادة كبيرة عن النسب المسجّلة قبل عامين. ففي العام 2013 وصلت إلى 23 في المئة، أمّا في العام 2014 فشهدت تدهوراً حاداً، أوصل النسبة إلى 60 في المئة نتيجة الحرب التي عاشها القطاع ذلك الوقت. ثم تراجعت في العام 2015 لتصل إلى 50 في المئة، قبل أن ترتفع مجدداً لتصل إلى تدهور أسوأ هذا العام.
بعد أخذ عدة عيّنات من مياه البحر في مناطق مختلفة من القطاع، في أيار/ مايو الماضي، تبيّن أنّ مياه شاطئ مدينة غزّة (مركز القطاع) لا تصلح للسباحة وذلك باكملها، فيما تزيد نسب التلوث في مياه بحر مدينة خان يونس (جنوباً) وبحر المناطق الشمالية والمناطق الوسطى في قطاع غزّة إلى أكثر من الثلثين، مقابل ثلث أو أقل في مناطق قليلة، تكاد لا تتبيّن للمواطن العادي. وليست المناطق القليلة غير الملوثة سالمة بشكلٍ دائم، فالتيارات المائية المتواصلة تدفع المياه الملوثة من المناطق الشمالية إلى الجنوبية، ما يعني سهولة تحوّل البحر بشكلٍ كامل إلى منطقة غير صالحة تماماً للسباحة أو الصيد والزيارة.
أزمة البحر التي يُعاني منها القطاع، نتجت عن أزمات عدة تواصلت على المساحة القليلة المحاصرة منذ سنوات، وأهمها انقطاع التيار الكهربائي (أكثر من 20 ساعة متواصلة في الشهرين الماضيين)، الذي أوقف محطات معالجة مياه الصرف الصحي، ما أدّى إلى دفع المياه المبتذلة إلى شاطئ البحر مباشرة، من دون أيّ معالجة.
القطاع الذي يضخّ بشكلٍ يوميّ إلى مياه البحر أكثر من 120 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي، يرمي بها على مسافاتٍ قريبة جداً من الشاطئ، لا تلتزم المسافة القانونيّة المسموح بها (وهي 500 متر). أيضاً، قانونياً يجوز ضخّ كميّة محدودة فقط في مياه البحر، فكيف بضخّ هذه الكميات الكبيرة يومياً، وفي مسافة قريبة جداً؟
إقرأ أيضاً: الطور الثاني من حصار غزة.. أكثر تحديداً وفتكاً
تُغطي شبكات الصرف الصحي في قطاع غزة 60 في المئة من المناطق السكنية، أمّا الحفر الامتصاصية التي ترشح منها المياه العادمة إلى المياه الجوفية، فيُعتمد عليها في 40 في المئة من بقيّة المناطق. وبعيداً عن الأزمات الحاليّة، يتبيّن بحسب وكالة "وفا" للانباء أنّ 80 في المئة من المياه العادمة تذهب إلى البحر، والنسبة المتبقيّة تتسرّب إلى الخزان الجوفي ملوثة المياه والتربة. أمّا الآن، فالنسبة الأكبر من المياه التي تُضح إلى شاطئ البحر صارت مياهاً ملوّثة بالأوساخ والأتربة ومخلّفات الصرف الصحي، نظراً لعدم وجود القدرة على الترشيح.
ما يحدث يُنذر بأزمة كُبرى، فالأمر لا يتعلّق بانقطاع الكهرباء فحسب، أو انعدام المياه التي يمكن أن تعود بشكلٍ سهل بمجرّد تشغيل مولدات الطاقة في البلديات، إنما يتعلّق بمياه البحر التي تتحوّل شيئًا فشيئاً إلى مكبّ كبير لمخلفات سكّان القطاع، ما يصعُب معالجتها في وقتٍ لاحق، إذا ما استمرت الأزمة.
المناطق الأولى على الشاطئ تظهر بشكلٍ واضح، بلون بني يميل إلى السواد، يضطر الناظر إليه (على الأقل) إلى النفور منه، إضافةً للرائحة الكريهة المنبعثة منه، فكيف بالسباحة فيه. والمشكلة هذه لا تعدم المنظر الجمالي لبحر القطاع فقط، إنما صارت مصدراً للأمراض والأوبئة، والتي حذّرت منها منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة الفلسطينية في تموز/ يوليو الماضي.
وعلى صعيد آخر، إذا استمرت المشكلة التي لا يبدو أن لها حلّ في الأفق، فإنّها ستؤدي لمشكلة أكبر، تؤثر على الثروة السمكية في القطاع ما يعطّل مهمة الصيد في البحر والتي يعتمد عليها الآلاف من السكّان. فإذا كانت المسافة الملوّثة داخل عمق البحر قليلة فإنها ستمتد مع استمرار الأزمة لتغطي مساحة أكبر من البحر، قد تصل إلى المساحة التي يعمل فيها الصيّادون.
والخلاصة أنّ ما ارتكبته إسرائيل طوال عقد من الزمن ضد غزّة، ونتاج ثلاثة حروب شنتّها عليها، لم تقدم نتيجة جيّدة ترضيها مثلما سيُرضيها الوضع الحالي للقطاع، بسبب الإجراءات الجديدة للسلطة الفلسطينيّة والتي كان لإسرائيل الدور الأكبر في الدفع اليها، إضافةً لتوقّف داعمي القطاع الاعتياديين عن دورهم بسبب أزماتهم الذاتية..