فنادق مصنفة، متاجر عالمية، مطاعم، ساحل على امتداد البصر، رمال ذهبية، كورنيش بأرضية حمراء.. ماذا أيضاً؟ دعارة وسياحة جنسية.. هذا كل ما يعرفه السائح أو الزائر عن مدينة أگادير المغربية. هي صورة جاهزة مكررة، ونظرة ضيّقة تفتقر إلى الكثير من التفاصيل.
فما هي أگادير فعليّاً، ما قصتها، وماذا عن أگادير الأخرى بعيداً عن نظرة السائح؟
التسمية والتاريخ..
أگادير، أو "أغادير" كما يحلو للعرب تسميتها، هي كلمة أمازيغية تعني المخزن أو الحصن المنيع.
على مرّ الزمن اختلفت التسميات المعتمدة. أحبّ البرتغاليون تسميتها بـ"سانتا كروز دي أغار" عندما وطأت أقدامهم ساحل المدينة في بدايات القرن السادس عشر ميلادي. بعد ذلك تغيرت التسمية إلى أخرى أكثر قرباً من الثقافة الامازيغية المحلية: "فونتي"، "أكدير إيغير"، "لعْين لعْربا".
بدأت قصة المدينة، بناءً على مصادر تاريخية، مع الفينيقيين والقرطاجيين، حيث كان لهم تواجدهم في المكان بغرض استغلال الموقع الاستراتيجي والبحري. ثمّ أخذت تعرف زخما دوليّاً بعد أن خضعت لسيطرة أحد النبلاء البرتغاليين الذي يُدعى" خوان دوسيكيرا"، الذي قام بإنشاء بنية متكاملة للملاحة والصيد، حتى ازدادت رقعة المكان ليصير فيما بعد قرية جاذبة للصيادين وعاشقي الصنارة.
لم تدم ملكية " دوسيكيرا" للمكان، ففي العام 1513 تخلى عنه لفائدة ملك البرتغال "إيمانويل". تحمّس الرجل لفكرة توسعة المرفأ ليصبح مركزا اقليميا ومحورياً للتبادل التجاري والاقتصادي بين الشمال ومنطقة ما يُسمى آنذاك بـ"بلاد السودان"، أي دول جنوب الصحراء حالياً. حكاية المدينة لم تنته مع البرتغاليين، بل استمرت مع المغاربة الذين استردوا مدينتهم المستعمَرة سنة 1541، بقيادة محمد السيخ، مؤسس الدولة السعدية.
العام 1911، رست بارجة حربية ألمانية عند رصيف المرسى بغرض "حماية الرعايا الالمان"، وكادت المدينة آنذاك تصبح مستعمرة ألمانية. لكن كان للمستعمر الفرنسي رأي آخر. انتهت الأزمة بتقسيم الكعكعة بين الامبرياليين، فنال الألمان الكونغو تاركين المكان لإمرة المستعمر الفرنسي سنة 1913.
السعديون على ما يبدو أُغْرِمُوا بجاذبية المكان، فبنوا قصبة اسمها "إغير"، وكانت النواة الحضارية الفعلية للساكنة المحلية ونقطة استراتيجية لصد الهجمات والتهديدات. في منتصف القرن الثامن عشر، بدأت قلعة السعديين تفقد ثقلها الاقتصادي والاستراتيجي لصالح قلعة "موگادور" أو الصويرة، التي تحمّس لنهضتها السلطان العلوي محمد بن عبد الله الملقب بـ"محمد الثالث".
أگادير كانت شاهدة على عصرها، عندما كانت مطمع الامبيرياليين الفرنسيين والألمان. ففي العام 1911، رست البارجة الحربية الألمانية "النمر" عند رصيف المرسى بغرض حماية رعاياها. كانت المدينة آنذاك على وشك أن تصبح مستعمرة ألمانية. لكن كان على ما يبدو للمستعمر الفرنسي رأي آخر وللألماني أيضاً خطابات تهديدية. انتهت الأزمة بتقسيم الكعكعة بين الامبرياليين، فنال الألمان الكونغو تاركين المكان لإمرة المستعمر الفرنسي سنة 1913.
انبعاث مدينة
تاريخ المدينة، قصتها وروايتها، مدفونة تحت الأرض.
في ليلة 29 شباط / فبراير من العام 1960، كان للطبيعة كلمة حاسمة، غاضبة ومزلزلة. فدكت المكان الأزلي بمنازله وزقاقاته الدافئة، محولة إياه إلى مجرد بقايا حجارة باردة، وتركت للقصبة غلافها الطيني فقط ، ذاك الحصن المنيع المتبقي، الصامد المتعالي على سطح جبل "أگادير أوفلا". كان للطبيعة قرار في أن تمسح عبق التاريخ من وعاء الزمن، فيصير مجرد حكايات شفويّة تُروى، أو بقايا صور لأشخاص غرقوا وماتوا في بحر الأنقاض، وقد قُدّروا آنذاك بأكثر من 15 ألف قتيل.
المدينة لم تكتمل قصتها مع خراب الزلزال، بل استمرت مع إعادة الاعمار في ستينات وسبعينات القرن الماضي، إلى أن انبعثث فيها من جديد روح الحضارة والحياة، فصارت الآن احدى أكبر المدن وثاني أقوى مدينة من حيث الجذب السياحي في المغرب.
خلف المدينة..
للمدينة وجهٌ ثانٍ منزوع المكياج، لن تراه عين السائح الباحث عن لذّة الاستجمام. هناك في أماكن مركونة في الخلف، أزقة وأحياء ومدن أخرى تدور في فلك أگادير. فمدينتي إنزكان وآيت ملول تراهما على مدّ البصر فوق هضبة أگادير أوفلا. هنا تختلف النظرة من أعلى، كما صورها المخرج الفرنسي "يان أرتوس برتران" في فيلمه الوثائقي الدعائي "المغرب من فوق".
عندما تقترب أكثر تكتشف أكثر. على بعد كيلومترات معدودة تصل لمدخل مدينة إنزكان حيث الأسواق الشعبية والحياة المتخمة بالفوضى المغربية الخالصة.
سوق هنا وهناك، محطة تاكسيات هنا و"متلاشيات" (مساحات من الخردة) هناك بمحاذاة الوادي. كل شيء يضج بالزحام وهتافات الباعة وفوضى المتجولين وتدخلات السلطات وشططها. هي صورة مصغّرة عن صراع، لكنه ميكانيكي يُخفي صراعاً طبقيّاً.
لكل واحدة من النساء قصة ودافع، لكن معظمهنّ يأتينَ من أحياء شعبية وفقيرة يجهل الزائر وجودها. يخرجن من أحيائهن تلك بعباءة سوداء تستر قطع ملابس مثيرة، ثم ينزعن الأسود حينما يصلن المنطقة السياحية.
وفي عمق هذا المشهد، تطفو ظواهر اجتماعية تصنع لمدينة أگادير بريقها السياحي. فلا سياحة من دون جنس ولا جنس من دون سياحة. هكذا أُرِيدَ لهذه المدينة أن تكون. تأتي فتاة في عمر الزهور وأخرى ثلاثينية، تُحاول أن تخفي تفاصيل محنتها اليومية مع أخوها أو أبوها أو عمها أو أمها، أو تأتي حتى من باب التجربة.. تختلف التفاصيل. لكل واحدة قصة ودافع، لكن معظمهنّ يأتينَ من تلك البيئة: فيهنّ من تخرج من أحياء شعبية وفقيرة بعباءة سوداء تستر قطع ملابس مثيرة، ثم تُفرج عن الأسود حينما تصل المنطقة السياحية. هنا تقابل الفتاة زبونها وتحاول ما أمكن أن تتصنّع شخصية خليجيّة أو مشرقية، أو حتى أوروبية إرضاءً للزبون.
"البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشفوها من تحت".
هكذا اختزلت شخصية "فتحي نوفل"، المحامي الوصولي، النظرة لبلده خلف نافذة الفندق الفخم في فيلم "طيور الظلام". عبارات "فتحي" تنطبق على المدينة. صحيح أن السائح يصعب عليه رؤية التفاصيل بنظارته السوداء الشمسيّة.
لا أحد ينكر أن أگادير مدينة جميلة وجذابة، فهي "ميامي المغرب". لكن فقط عندما تكون الرؤية من فوق..