مريم فتح الباب وعبد الراضي حسن اسمان لشخصيتين صارتا بين ليلة وضحاها شهيرتين في مصر كلّها على المستوى الشعبي والرسمي أيضاً.
مريم طالبة صغيرة بالكاد تبلغ الثامنة عشر، وهي استحوذت على الاهتمام كله بسبب أنها ورغم ظروفها المعيشية بالغة الصعوبة، نظراً لمهنة والدها كحارس لعقار بمنطقة مدينة نصر بالقاهرة، وتعيش هي وأسرتها المكونة من سبعة أفراد في حجرة واحدة يوفّرها مالك العقار ذاك، إلا أنها حصلت على مجموع 99 في المئة في شهادة البكالوريا المصرية وهي تلميذة في المدرسة الحكومية المجانية. ومريم على الرغم من مجموعها الكبير، لم يرد اسمها في كشوف أسماء الـ55 من أوائل الثانوية العامة هذا العام التي أعلنت الاسبوع الماضي، وهي الحائزة على علامات بفارق عدة درجات عن أوائل الجمهورية. ولكنها حظيت بحوارات إعلامية وصلت إلى رئاسة الجمهورية، فتقرّر ضمها الى المؤتمرات الشبابية التي يعقدها الرئيس كل فترة وآخرها هذا الاسبوع بالإسكندرية. كل هذا الاحتفاء والترحيب بها سببه مهنة والدها البسيطة وليس لأنها شابة صغيرة ومواطنة مصرية بسيطة وفقيرة اجتهدت بمفردها فحصلت على الدرجات النهائية.
لن أبيع ابنتي
هذا الاهتمام بمريم تجاوز حدود الوطن الى الخارج، حتى أنها ووالدها أعلنا عند حضورهما التكريم بمجلس النواب والتقاط الصور التذكارية، أنهما رفضا منحة كاملة لها للدراسة في الولايات المتحدة الأميركية وصلت إليهم بعد ان ذاعت قصة الفتاة. وقال الأب في أسباب رفضه "لن أبيع ابنتي". مع أن التعليم بالخارج ليس بيعاً لأبناء الوطن، وانما هو فرصة لتلقي العلوم والمعارف، وقد أثارت جملة الوالد نقاشات تناولت مستقبل مريم نفسها وأمثالها من بسطاء وفقراء المصريين فيما يخص مواصلة رحلة التعليم الذي أصبح باهظ التكلفة للكثيرين وليس للفقراء فقط.
أما الطالب عبد الراضي حسن، وهو من أبناء إحدى القرى الصغيرة المنسية في محافظة اسيوط، أفقر محافظات صعيد مصر، فقد شاع اسمه على حياء وبخبر وحيد يقول أنه يتمنى دراسة الطب ولكن ظروف أسرته ومرض والده وفقرهم تمنعه من ذلك لأن دراسة الطب مرتفعة التكاليف وهو لا يستطيع توفيرها. عبد الراضي أيضا لم يدرج اسمه في كشوف الأوائل هذا العام ولم يحضر أي تكريم، على رغم من انه حصل على مجموع 99.8 في المئة، والسبب أنه دخل الامتحانات العام الماضي فيما عدا مادة واحدة بسبب إصابة والده أصيب بغيبوبة جراء غسيل الكلى الذي يخضع له، وكان ذلك قبل يوم امتحان هذه المادة فأجلت له لهذا العام ليحتفظ بمجموعه شبه التام الذي حصل عليه العام الماضي.
منحة جامعة القاهرة
رئيس جامعة القاهرة الذي حقق انجازات وإصلاح مالي وعلمي خلال فترة رئاسته، والذي يغادر منصبه الآن مختاراً إذ رفض التقدم لولاية ثانية تحفظاً منه على تغيير آلية اختيار رؤساء الجامعات، (وهو القادم لمنصبه بالانتخاب من مجمع علمي بينما الاختيار الآن اصبح بيد لجنة مصغرة موحدة لكل الجامعات الحكومية)، قدم منحتين لمريم وعبد الراضي للدراسة بالقسم الخاص الدولي والذى تبلغ مصروفاته السنوية 75 الف جنيه، وهم القسم الوحيد المصنف دوليا في مجال الطب في الجامعات المصرية، ولا يقبل إلا الطلاب الأوائل من خلال مكتب التنسيق. وأيضاً تقرر مع المنحة الدراسية توفير الإقامة بالمدينة الجامعية ومرتب شهري لكل منهما حرصاً منه كما قال "على مستقبل أولاد مصر وعلى المسؤولية الاجتماعية للجامعات".
وكانت المفاجأة أن مريم رفضت العرض والمنحة، مفضلة الالتحاق بطب عين شمس القريبة من منزلها على الرغم من التميز الكبير لتلك الكلية التي عرضت عليها منحتها، وعلى الرغم مما ستواجهه من مصاعب مالية ومن حاجة للصرف على الدروس الخصوصية التي يلجأ اليها مئة في المئة من طلاب الطب في كل الكليات، إلا من كانوا في القسم الدولي ذاك، طبقاً لدراسة ميدانية سابقة قام بها أحد عمداء كلية الطب. ولعل السبب في اختيارها ذاك أنها انثى وتفضل - أو يفضل أهلها - أن تبيت في المنزل.. بينما وافق عبد الراضي على المنحة قائلاً انه كان يحلم بدراسة الطب بالقصر العيني، أما القسم الدولي فهو أكبر من أحلامه.
مكتب التنسيق
تصادف أن تزامنت هذه القصة مع ذكرى الاحتفال بثورة يوليو 1952، وبـ"مكتب تنسيق قبول الجامعات" الذي دشّنه عبد الناصر قبل 60 عاماً بالتمام، وتحديداً في 1957، قُبيل العيد الخامس لثورة يوليو، وكان الهدف منه تحقيق العدالة وتسهيل الأمر على الطلاب وأسرهم عند التقديم للجامعات الثلاثة التي كانت موجودة في ذلك الوقت: القاهرة والإسكندرية وعين شمس. وتمّ يومها الاتفاق على أن يكون معيار الدرجات هو الفيصل والحكم الوحيد للقبول بالتخصص، لأن مجانية التعليم الجامعي لم تقرّ إلا بعد ذلك بخمس سنوات، في العيد العاشر للثورة عام 1962.
وزير التربية والتعليم لم يترك الفرصة تمرّ بدون أن يهاجم مكتب التنسيق ويتحفظ على وجوده كمرجع وحيد لتنظيم الالتحاق بالجامعات، رغم أنه هو نفسه التحق بتخصص الهندسة وما زال استاذاً يدرس المادة، عبر مكتب التنسيق، وعبر الامتحان الموحّد، ولم ينقل عنه أن دراسة الهندسة لا تناسبه أو "تتوافق مع ميوله"، وهي الحجة المستخدمة اليوم للتشكيك بعمل المكتب وتوزيعه الطلاب على الاختصاصات بحسب مجموع علاماتهم. وفي الاجتماع الأخير للمجلس الأعلى للجامعات الذي يحدد مواعيد عمل مكتب التنسيق، اقترح الوزير ان يرفق ببطاقة القبول بالجامعة جملة أن تلك منحة من الحكومة للطالب، وهو الاقتراح الذي تحفظ عليه بعض رؤساء الجامعات، ليس لوجود شبهة عدم دستورية الاقتراح، وانما لأن من حق المصريين دافعي الضرائب أن يلتحق أولادهم بالتعليم الجامعي والعالي.
فهل كان لأمثال مريم وحسن، في ظل نظام آخر لا يوفّر مجانية التعليم، أن يواصلوا تعليمهم ويتفوقوا ويصلوا إلى نهاية المرحلة، أم انهم كانوا تسربوا خلال الابتدائي مثلاً.. لم يجاوب وزير التعليم على هذا السؤال الذي طرح عليه، وهو الذي يتحفظ على المجانية الكاملة ويسعى إلى إلغاء مكتب التنسيق واستبداله بمشروع (ما زال سرياً) يقوم على إجراء امتحانات للقبول بالجامعات، وتقديم منح مشروطة، وتوفير "قروض" للطلاب..