حراك الريف: جبل الألم الذي طفا على السطح

يتأسس حراك الريف الحالي على آلام ماضٍ مريع تعرض له أبناء هذه المنطقة ومعهم ملايين المغاربة سواهم، وتقارب السلطة الاحتجاج الحالي بالأدوات نفسها التي سادت في الماضي ومعها الخطاب و"الحكرة" ذاتهما.

2017-07-26

عبد الصبور عقيل

كاتب وناشط حقوقي من المغرب


شارك
بوشتى الحياني - المغرب

من ينصت بقلبه لجلسات الاستماع المسجلة حول أحداث الريف 1958، التي نظمّتها "هيئة الانصاف والمصالحة" قبل عقد من الزمن (2005)، سيعرف جزءاً من الحقيقة على الأقل. ولأن هذا الجزء الذي طفا أمامه على السطح مؤلم، سيقدّر أن الأجزاء الباقية الجاثمة في الأعماق أكثر ايلاماً، وسيفهم حتماً لماذا حراك الريف أكثر إصراراً هذه المرة في الحصول على الإنصاف الكامل.

الذاكرة الجريحة

ثيريلي (تعني الحريّة بالريفية)، الفتاة ذات التسع سنوات، رأت بعينين داميتين، تخِزُهما دون رحمة أو شفقة فظاعة الصورة، أباها يذبح، وبجبلٍ من الأسى، أمها تغتصب، لينتهي بها النزيف، هي وأخوها البكر، أدّور (الشرف بالريفية)، ذي الأحد عشر عاما، لحماً مغتصباً، منزوع الجلد، في المسلخ الهمجي الذي أقامته بوحشية عصابة الجنرال أوفقير.

أنزباي (المقاوِم بالريفية)، الرجل الذي تعدّى السبعين، لا يستطيع، مع جحيم التذكّر، إلا البكاء. كيف لا وهو يستعيد كل مرّة شريط الهمج الذين عاثوا في دياره وعرضه فساداً، ونهبوا، من دون أن يرفَّ لهم ضمير فرحة المغاربة باستقلال بلدهم بعد طول مقاومة ومرارة.

أبُورْزْ (الفخر بالريفية)، انتهى به الألم منفياً في الأقاصي، بعد عشر سنوات من التعذيب قضاها في الأقبية، لا يصدّق، بعد كل الأهوال، أنه لا زال الغصن الوحيد على قيد الحياة من شجرة العائلة.

الإنصاف والمصالحة: الفرصة الضائعة للعدالة

الحالات أعلاه هي تشخيص رمزي لشهادات حيّة، وردت على لسان ضحايا منطقة الريف، عن سنوات الجمر والرصاص  1958ــ 1959، لعل أبرزها للعلن جلسات الاستماع التي عقدتها هيئة الإنصاف والمصالحة بالحُسيمة سنة 2005.

وقد نُصّبت هيئة الإنصاف والمصالحة بتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 2004، لتشتغل على الفترة الزمنية الممتدة من عام 1956 إلى نهاية عام 1999، فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حصلت في الفترة المذكورة، والمتمثّلة في الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والاعتداء الجنسي والحرمان من الحق في الحياة نتيجة الاستعمال المفرط للقوة العمومية، والاغتراب الاضطراري. والهدف كان إثبات نوعيّة ومدى جسامة تلك الانتهاكات، في سياقاتها، وفي ضوء معايير وقيم حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية ودولة الحق والقانون، مع مواصلة البحث بشأن حالات الاختفاء القسري التي لم يُعرف مصيرها بعد، وبذل كل الجهود للتحرّي بشأن الوقائع التي لم يتم استجلاؤها، والكشف عن مصير المختفين، مع إيجاد الحلول الملائمة بالنسبة لمن ثبتت وفاتهم، وكذلك الوقوف على مسؤوليات أجهزة الدولة أو غيرها في الانتهاكات والوقائع موضوع التحريات.


إقرأ أيضاً: السلطة تقمع احتجاجات "الريف".. لماذا تنجح كل مرة؟


وفي مجال جبر الأضرار وإنصاف الضحايا، قامت الهيئة بالبتّ في الطلبات المعروضة عليها والمتعلقة بالتعويض عن الأضرار التي لحقت بضحايا الانتهاكات الجسيمة أو ذويهم من اصحاب الحقوق فيها. كما قامت بتقديم المقترحات والتوصيات من أجل إيجاد حلول لقضايا التأهيل النفسي والصحّي والإدماج الاجتماعي. وانطلاقاً مما وقفت عليه من تضرّر بعض الجماعات والمناطق، بشكل مباشر أو غير مباشر، من آثار العنف السياسي والانتهاكات التي حدثت خلالها، أولت الهيئة اهتماماً خاصاً لجبر الضرر الجماعي، واقترحت تبنّي ودعم مشاريع برامج للتنمية الاجتماعية الاقتصادية أو الثقافية، لفائدة مجموعة من المدن والمناطق، كما أوصت بشكل خاص بتحويل مراكز الاعتقال غير القانونية السابقة (1).

فهل تحققت العدالة فعلاً، وجُبِر الضرر؟

المساءلة على الانتهاكات الماضية بعيدة المنال

لقد أدّى عمل هيئة الإنصاف والمصالحة إلى حدوث بعض التطوّرات الجديدة فيما يتعلق بالحق في كشف الحقيقة والاعتراف بمسؤولية الدولة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ومنها التعذيب. بيد أنها، عند انتهاء عملية العدالة الانتقاليّة في العام 2010، لم تفِ بتحديد هويّة الجناة الأفراد، وتم استثناء هذا البند من نطاق صلاحياتها، على الرغم من صيحات الضحايا ومنظمات حقوق الإنسان، وعلى رأسهم منظمة العفو الدولية.

حتى يومنا هذا، ظلّت الأغلبية الساحقة من المسؤولين المغاربة، الذين زُعم أنهم ارتكبوا انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان خلال الفترة التي شملتها اختصاصات الهيئة، في منأى عن قبضة العدالة، وليس ثمة ما يشير إلى نيّة السلطات في محاسبتهم في المستقبل.

ورأت المنظمة أن الهيئة، وإن أقدمت على تأويل رسالتها بصورة أرحب وتصدّت لانتهاكات بعينها كانت في الأصل خارج نطاق صلاحيتها، لم تعتمد التجديد ولم تبدِ العزم في تحدّي القيود التي فُرضت على التماس العدالة للضحايا. ومما خيب الأمل على نحو خاص، عدم إقدامها حتى على التوصية بمحاسبة من اقترفوا انتهاكات حقوق الإنسان. فحتى يومنا هذا، ظلّ الأغلبية الساحقة من المسؤولين المغاربة، الذين زُعم أنهم ارتكبوا انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان خلال الفترة التي شملتها اختصاصات الهيئة، في منأى عن قبضة العدالة، وليس ثمة ما يشير إلى نيّة السلطات في محاسبتهم في المستقبل. وعوضاً عن ذلك، يروّج الخطاب الرسمي لفكرة "العدالة التصالحيّة كبديل عن العدالة الاتهامية"، وهو ما تُرجم عملياً إلى الإفلات من العقاب عما ارتكب من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان(2).

طاحونة النصف خطوة نحو الإنصاف

لقد تحوّلت نصف الخطوة نحو إقرار العدالة الانتقالية ومحاسبة الجلادين وجبر الضرر (وترجمتها التردّد في القطع مع ظاهرة السلطوية، بما يعنيه هذا القطع من انتقال فعليّ نحو الوطن الرحب للديموقراطية وحقوق الإنسان)، إلى تكرار مآسي الماضي، وبروز جبل جليد الظلم و"الحكرة" (الاحتقار بالدارجة)، بحيث كان لحدثٍ أيقوني واحد، حمل هاشتاغ #طحن_مو، كالحدث المأساوي للشهيد محسن فكري الذي أزهقت روحه بين فكي كماشة شاحنة القمامة، أن يقلّب كل مواجع الانتهاكات من جديد، ويلقي بظلال الشك حول النوايا المعلنة عن طيّ صفحة الماضي.

فالحدث لم يعرِّ فقط هشاشة سياسة جبر الضرر الاقتصادي والاجتماعي لمنطقة اكتوت بالنار، وإنما أبرز للعيان الوصفات الجاهزة التي يقدّمها المركب السلطوي للدولة في مواجهة أيّ احتجاج سلمي تكفله اتفاقيات الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي انخرط البلد في غالبيتها الساحقة، وتضمنه بنود دستور 2011 التي راهن المغاربة على أفقه المفتوح نحو الكرامة والديموقراطية وحقوق الإنسان.

فخطاب التخوين بجرم الانفصال، الذي دبّجته بارتباك واضح أحزاب الأغلبية الحكومية في لحظة سياسية عنوانها الغباء السياقي، وما تلاه من انتهاج لسياسة قمع ترافقها بقوّة، وبالصوت والصورة، شبهة التعذيب الفردي والجماعي، وكذلك الاعتقالات الواسعة في صفوف المحتجين السلميين ومتابعتهم بتهم زعزعة الأمن العام، كانت للمفارقة التهم نفسها التي وجّهت في زمن ولّى لثلّة من سكان الريف، والتي أقرّت الدولة، عبر مسلسل الإنصاف والمصالحة وإن المنقوص، أنها (والأحكام التي صدرت بموجبها) لم تكن سوى انتهاك لحقوق الإنسان، وجبَ جبرُ ضرره.

العودة للعدالة كي نُشفى

ولو أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا بطريقة كاريكاتورية، وهو النهج الممجوج ديموقراطياً وحقوقياً الذي سارت عليه الحكومة المغربية في تعاطيها مع "حراك الريف"“، إلاّ أن العودة للنبش في الذاكرة الجريحة يمكن أن يقدّم تفسيراً موضوعياً للتخبّط السياسي والتنموي الذي يعيق خروج البلد من عنق زجاجة التخلّف، وكيف أفضى التهرّب من المساءلة العادلة والإفلات من العقاب إلى عودة شبح الانتهاكات الجسيمة واستمرار الفساد الذي ينخر جسد البلد.

نُصّبت هيئة الإنصاف والمصالحة في 7 كانون الثاني/ يناير 2004، لتشتغل على الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 1956 ونهاية 1999، في ما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والمتمثّلة بالاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب والاعتداء الجنسي والحرمان من الحق في الحياة والاغتراب الاضطراري..

كما أن هذا الإنصات من جديد لصرخات الضحايا العالقة في ذاكرة الوطن، سيقدِّم بالتأكيد تفسيراً عميقاً لطبيعة الشعور الإنساني المتوارث بالظلم الذي تختلج به صدور المواطنين المغاربة بالريف، وملايين غيرهم في ربوع الوطن، ورغبتهم الأكيدة في القطع مع الماضي المؤلم، وعزمهم على تحقق العدالة والتمتع بالكرامة.

من مكاتبهم المكيّفة، يقول المستفيدون من الوضع الفاسد لصاحب القرار إن هيبة الدولة على المحك. بينما في الشوارع يصدح الشعب أن سفينة الوطن التي في مهبّ الرياح ترتطم بجبل جليد الظلم.


(1)    من التقرير النهائي لهيئة الإنصاف والمصالحة
(2)    منظمة العفو الدولية، "نكث الوعود: هيئة الإنصاف والمصالحة ومتابعتها". رقم الوثيقة MD29/001/2010، صفحة 50. وفيما يتعلق بالإفلات من العقاب، أنظر الصفحات 34،35 و39.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...