من مواقع صديقة: بالأحمر
ربيع وهبة
لا شك أن قضية العشوائيات، تمثل أبرز الظواهر البشرية في الزمن المعاصر التي يجتمع فيها المواطن مع الحكومة مع النظام العالمي في معادلة مركبة لا فكاك منها إلا على حساب المواطن في أغلب الأحيان.
تتخلي الدولة عن دورها في التخطيط وتوفير الحق في السكن خاصة مع الفئات المهمشة، التي تسعى بدورها إلى توفير مكان للعيش فتختار أماكن نائية أو مهجورة أو متاخمة لمصادر تلوث بأنواعه المختلفة صناعية مثل مصانع الاسمنت، وطبيعية مثل ترع ومصارف، أو منحدرات جبال أو هضاب، يختارون الأماكن التي لا تلتفت الدولة إليها ليقيمون فيها ويضعون فيها كل “استثماراتهم” أو ما يملكون، فتظهر لنا في آخر المطاف بنايات من أدوار متعددة في أماكن لا تصلح لبناء دور واحد، وتنتشر العشوائيات يوميًا لتزحف على نطاق عمراني يصبح مع مرور الوقت محل صراع بين خطط التطوير العمراني الاستثمارية وحق الناس في التمتع بما شيدوه من مناطق على حسابهم الخاص.
إنه “الزحف الهادئ” مثلما وصفه آصف بيات الذي "يضع الأنظمة والقوى التقليدية في مأزق؛ إنه تمدد غير منظم في حركات اجتماعية أو تنظيمات تمثل هدفا معاديا يمكن تبرير قمعه، ولا هو كيانات منظمة ذات قيادات محددة يمكن تحجيمها وامتصاصها إنما هم الناس العاديون وهم يمارسون حياتهم فحسب!" وهو ما قد يشكل "عدوانية هجومية خفية" فيما يهدف إليه بلا توقف من توسيع مساحة الحياة، وحقوق المحرومين من التصويت.
إقرأ أيضا:
ملف
قصة جزيرة الوراق في قلب النيل بالقاهرة
العنف ضد السكان الفقراء عادة أصيلة!
هي أنماط من الزحف العمراني، عادة ما يتكرر تزامنها مع فرصة محبذة لاحتلال الأرض، مثل الانتخابات، والكوارث الطبيعية، والانقلابات، والثورة.
ودور الدولة في هذه المعادلة حاضر دائمًا بصورة سلبية بداية من الإهمال وإغفال من هم في حاجة ماسة لأكثر الحقوق أساسية وعلى رأسها السكن اللائق، انتهاءً إلى طردهم من المناطق التي أصبحت بعد سنوات طويلة داخل النطاق المستهدف بالمشاريع الاستثمارية مصحوب ذلك دون أدنى تردد بممارسة الانتهاك الأشهر لحقوق السكن وهو الإخلاء القسري.
تلك هي المعادلة التي تتكرر يوميًا في أنحاء كثيرة من العالم، وتتجسد أمام أعيننا اليوم في أحداث جزيرة الوراق، وغدًا في ماسبيرو، وكل يوم سنعيش أحداث إخلاء قسري أو على الأقل ظلم لجماعات كبيرة من المواطنين بتجريدهم من حقوقهم وإقصائهم عن أي مشهد يرتبط بتطوير عمراني ما داموا فقراء يسيئون إلى "المشهد الحضاري" مثلما تتردد النغمة دائمًا عند التعامل مع المفقرين الذي هم في الأول والأخير صناعة الدولة باقتدار.
تزداد المعادلة حدة، كلما تبنت الدولة سياسات الاقتصاد المفتوح وتحرير السوق والتخلي عن دورها في دعم حقوق المواطنين من مياه وصرف صحي وسكن وتعليم وصحة، إلخ، في ظل حكومة فاسدة. وهذا ما يحدث في مصر على قدم وساق وتتسارع وتيرته حاليًا بعد التسليم لطريقة التحديث النيوليبرالي برفع "الدعم" نهائيًا ومحاباة أصحاب المال في الداخل والخارج مقابل معسكر “أعداء التقدم” من فقراء وفئات مهمشة.
وحكومتنا ماضية بسرعة في الحل الأمثل الناجع للتخلص من الفقر عبر التخلص من الفقراء أنفسهم وإبعادهم عن المشهد الاجتماعي. فهم ليسوا مواطنين. بل عبء.
الحكومة بسياساتها منذ الانفتاح، ثم الخصخصة وأخيرا التوجه النيوليبرالي ضالعة في سياسات اقتصادية جائرة تعم العالم الثالث تأتي على رقبة الفقير. فإذا استطاع الفقراء التغلب على الفقر بعزة النفس والاجتهاد، فلن يستطيعوا الإفلات من سياسات الإفقار والقتل، المتمثلة في المبيدات المسرطنة، والتلوث، والبطالة، والمحسوبية، والتمييز في تولي الوظائف، وكذلك المياه المخلوطة بالمجاري، وإذا أفلتوا من هذا وذاك، لن يفلتوا من مصير الإخلاء القسري.
أحداث جزيرة الوراق وما نشهده حتى الآن من مفارقات، إنما تكرس سياسات الدولة على مدار عقود طويلة، لم تتقهقر فيها عن التعامل مع المفقرين على أنهم عبء لا بد من التخلص منهم لكي نلحق بركب التقدم. لم يحدث تقهقر مؤقت لهذه السياسات سوى في أثناء المد الشعبي في انتفاضة 25 يناير عقب إجبار مبارك على التنحي، إذ كنا نطرب آنذاك بحديث المسؤولين في وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن حلول تتمركز على المواطن الذي أفقرته وأعيته سياسات مبارك وجردته من جميع وسائل التمكين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فلا فرص عمل ولا تعليم ولا وسائل تثقيف ولا ترفيه أو تريض لائقة.
تحدثوا وقتها عن ضرورة إشراك المواطن في أي تحديث عمراني بداية من التخطيط وحتى الإنشاء وتوزيع الوحدات على من يستحقها دون تمييز على أساس طبقي أو اقتصادي.
كان هذا الخطاب هو خير وسيلة لتهدئة الرأي العام وسط أحياء كثيرة أثبتت بفعاليتها وسلوكياتها نموذجًا مغايرًا لما قيل عن ساكني الأحياء المفقرة والعشوائيات من أنهم خطر على المجتمع، إذ حدث أنهم دافعوا عن الناس وحموا ممتلكات الناس وقت انسحاب الشرطة.
قدم سكان العشوائيات في الكثير من المناطق مثالًا مشرفًا يدل في المقام الأول على خطأ التصورات الحكومية ومن يردد هذه النغمة من أن سكان العشوائيات عقبة في سبيل التنمية والتحضر!
باسثناء هذا التقهقر التكنيكي لم تشهد مصر انصافًا لضحايا الإفقار الذين اضطروا اضطرارا للاعتماد على أنفسهم في خلق مكان يعيشون فيه بعد تخلي الحكومة على مدار عقود عن تلبية حاجاتهم الأساسية في سكن آمن. ومثلما أشارت مواطنة من ابناء جزيرة الوراق في أحداث الاعتداء على سكان الجزيرة:
"كنتي فين يا حكومة .. لما بنينا خمس أدوار واشترينا بلاط وسباكة … وعمرنا بنفسنا.."
دائمًا ما يبدأ تناول موضوع العشوائيات بسؤال عن مصدرها، وهناك قدر كبير من الدراسات الحكومية وغير الحكومية تعلم علم اليقين أن مصدرها يأتي من إفقار المنتجين، وتجريدهم من أدوات إنتاجهم مما يضطرهم للسعي إلى رزقهم في أي مكان بأي ثمن. فتهجير الفلاحين من أراضيهم الزراعية (قانون الأرض 92 لسنة 1996) من أجل إعطاء الأراضي للمستثمرين الذين يزرعونها بمحاصيل تصدير لدر الأرباح على حساب البنية الأساسية للإنتاج الزراعي، يعد مثالا حيا على هذه الدائرة المفرغة التي تسأل عنها الدولة قبل أي طرف آخر. تقلصت الرقعة الزراعية من ناحية، وتدهور ما تبقى من أراضٍ منتجة، لم تسلم من التعدي والتجريف والزحف العمراني غير المخطط، وهجرة الأيدي العاملة من صغار الفلاحين من ناحية أخرى بحثًا عن لقمة العيش، ومن ثم التوسع في أساليب التصرف اللارسمية، ومنها بالطبع العشوائيات.
تتضاعف المشكلة أيضًا عندما ندرك أن فلك الطموحات السياسية للنخبة الحاكمة لا يرقى حتى إلى إرساء نظام رأسماليّ؛ بل ما نراه من ممارسات على من السبعينيات حتى اليوم هو خليط من الألغاركية (السيطرة الاحتكارية للقلة الأثرياء) والكليبتوقراطية (حكم اللصوص)؛ قلة حاكمة تزداد ثراء بطرق الفساد والاستغلال ولا تخجل من ترديد أن “المواطن في استطاعته العيش بـ800 جنيه شهريًا” في ظل إمعان في بسط يد الغلاء المستعر الذي استفحل نتيجة فشل السياسات الاقتصادية من ناحية والاقتراض وبخاصة من صندوق النقد الدولي المشروط برفع الدعم وإملاءات أخرى مدمرة وأثرها معروف في تجارب حية بدول أخرى.
لا شك إن ما يحدث على المستوى المحلي هو استمرار لخط سياسي واحد يعالج المشكلة بمشكلة أكبر عبر خطاب يروج كذبًا لمشروع تحضر يتناقض مع مستوى الإفقار الذي يجري على قدم وساق في مفردات الحياة الأساسية من سكن وتعليم وصحة ومياه وصرف وعمل لائق، مما يجعلنا نردد مقولة شهيرة من أنه "لو كان للرأسمالية العاتية وجه غير مقبول في عمومه، فإن الأسوأ من ذلك الوجه على الدوام، دولةٌ فاسدة تعمل لصالح الأغنياء فقط!" وفي مثل هذه الظروف، لا يمكن التعويل على تحقيق الكثير، حتى ولو بمحاولة تحسين النظام.
يمكننا في خضم هذه الممارسات بتطوراتها الكمية منذ عهد مبارك وحتى اللحظة أن نضع أي مكان بدلًا من الوراق فينطبق عليه ما يحدث اليوم من محاولة "التخلص" من المفقرين المفسدين لعرس التطور العمراني ومستقبل الواجهات الزجاجية التي حولت العواصم إلى مسخ متشابه دون أي خصوصية جمالية أو ثقافية.
ولكن الفارق أن ما يحدث الآن يقع بعد تجربة من مد شعبي شهد له العالم، وصارت الناس يحدوها الأمل من المشاركة في صنع مستقبلها وصنع ما يتعلق به من قرارات وسياسيات. وهو ما يجعلنا نتشبث ونعيد الكرة مذكرين بضرورة الاستمرار في المطالبة بالمشاركة في صنع القرار بداية من التخطيط وحتى التوزيع العادل لنتائج أي تطوير عمراني يحترم المواطن ومصيره وينهض به لا عليه. إذ لم تعد الحرية والتغيير الشامل مجرد مطلب شبابي لجماعات حالمة، بل ضرورة ملحة لتجنب كارثة أكبر تتمثل في جيوش من المفقرين يزداد عددها يوميا بسبب الغلاء الفاحش وتجريد الناس من وسائل الإنتاج.
ولكن للأسف الواقع أكثر تعقيدًا من مجرد الحلم. فإذا كان بعض ساكني العشوائيات يرتكبون "جريمة" كونهم حجر عثرة في طريق التقدم العمراني والمدني الحضري، فإن غيرهم يخطئون أحيانًا بالتجرأ على تصديق ممارسة الديمقراطية. وهو أمر مشترك بين سكان العالم الجنوبي بأسره ففي أعقاب الانتخابات الملطخة بالفساد في زيمبابوي 2005، صب الرئيس "روبرت موجابي" جام غضبه على أسواق الشارع وعشوائيات هراري وبولاوايو، حيث كان الفقراء قد صوتوا بأعداد كبيرة لصالح حركة التغيير الديمقراطي المعارضة. وكانت المرحلة الأولى من العملية التي أخذت عنوانًا شريرًا مشينًا ("التخلص من الزبالة") تمثلت في هجوم الشرطة على 34 سوقًا من أسواق الشارع التي تتاجر في السلع الرخيصة داخل المدينة. وقد وردت معلومات عن قيام ضابط شرطة، يحث رجاله قائلا: "من يوم غد، أريد تقارير فوق مكتبي تقول إننا أطلقنا النار على أشخاص. لقد أعطانا الرئيس تأييده ودعمه الكامل لهذه العملية؛ ومن ثم لا يوجد شيء نخشاه. لابد أن تتعاملوا مع هذه العملية تمامًا كأنها حرب".
وعلى الرغم من ذلك كله، ليس أمامنا سوى إحياء العمل الجماعي الذي انتشر على أرضية صلبة أيام الانتفاضة التاريخية في 25 يناير التي أنتجت حركات اجتماعية، تستند إلى قاعدة شعبية عريضة، تحتوي من الناحية الهيكلية على جمعية عمومية، تدير انتخاب من يمثلها، وتمارس بالفعل مفردات عملية ديمقراطية، والأهم شفافية مالية للموارد، وكيفية صرفها ومصادرها. وهذا النوع لا يمكن إغفال دوره في النضال من أجل الحقوق، واستعادتها من سالبيها، سواء حكومات أو شركات خصخصة.
ولا تزال نماذج الأحياء المهددة بالإزالة والإخلاء القسري في القاهرة وغيرها من المحافظات مثل ماسبيرو وجزيرة الوراق وغيرها، خير مثال على إمكانية إنتاج واقع مغاير لتصورات الحكومات الجائرة على حقوق من تدين لهم بحقوق جبر الضرر على اضطرارهم السكن في أماكن غير لائقة عمروها ولديهم الحق في التمتع بخيرها قبل أي شخص آخر ولو كان مستثمر سينقذ البلاد من الضياع! لقد كان من الحجج الأساسية التي روجها المسؤولون هو صرف الجزيرة مباشرة في النيل، وكأن هذه ظاهرة جديدة أمام حكومة لا ترى ما تلقيه المصانع والمستشفيات الخاصة من مواد ملوثة شديدة الخطورة في النيل!
ما يحدث اليوم ليس جديدا بل تكملة على المستويات المحلي والإقليمي والدولي لمشاريع مولها البنك الدولي وصندوق البنك الدولي صبت في صالح حكومات جائرة آخر ما يهمها هو مصلحة المواطن.
والتاريخ زاخر بحكايات حديثة تكرس ما نحن فيه من تركيبة ظالمة هبت ضدها احتجاجات كثيرة مناهضة لصندوق النقد الدولي، منذ السبعينيات (القاهرة؛ انتفاضة الخبز 18/19 يناير 1977)، ووصلت ذروتها بين عامي 1983 و1985، تبعتها موجة ثانية بعد عام 1989. ففي كاركاس، في فبراير/ شباط 1989، تسببت الزيادة التي أملاها صندوق النقد الدولي وكانت مستهجنة على نطاق واسع شعبيًا، في أسعار الوقود، وأجرة النقل؛ في إطلاق شرار الشغب على يد راكبي الأتوبيس وطلاب الجامعة الراديكاليين، وسرعان ما حولت هراوات البوليس المواجهة إلى شبه- ثورة. وأثناء هذه الموجة من الاحتجاج التي استمرت أسبوعًا، وسميت كاراكازو، نزل عشرات الآلاف من الفقراء من مناطقهم العشوائية على التلال؛ لنهب مراكز التسوق بالمدينة، وبناء المتاريس. وقد قُتل في هذه الأحداث 400 شخص على الأقل. وبعد شهر من نهاية تلك الأحداث، اندلعت أحداث في لاجوس بعد احتجاجات طلابية ضد صندوق النقد الدولي: مات على أثرها 50 شخصًا في ثلاثة أيام من النهب المنواصل، وحرب الشوارع، في مدينة تقاسَم فيها معظم الفقراء مشاعر الغضبَ المستشيط من “الملك” سجّلتها رواية “كريس أباني أرض النعيم:
أغلبية شعبنا أمناء، أناس يعملون بجد. لكنهم واقعون تحت رحمة هؤلاء العسكريين أولاد القحبة، وأولئك اللصوص التابعين لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والولايات المتحدة. … ونحن الآن؛ أنت وأنا وكل هؤلاء الفقراء، مدينون للبنك الدولي بعشرة ملايين دولار مقابل لا شيء. جميعهم لصوص ..!
لا نريد بالطبع كاراكازو في القاهرة تحت أي مسمى: ثورة انتفاضة تغيير، مقاومة. لا نريد لمن يموت كل يوم من فقراء معدمين محرومين من كل وسائل العيش الكريم أن تنتهي حياته/حياتها برصاصة غادرة من حكومة فاسدة. فهذا لن ينفع أحد وخاصة أبناء من يقتل أو ذويه. بل نريد الإنصاف والتعقل في التخطيط بإشراك المواطنين في عملية التنمية؛ فهم خير معين في تحقيق تنمية حقيقية تصمد أمام أي تعديات أيا كانت طائفية عرقية دينية، وبخاصة في واقع يرفع شعار محاربة الإرهاب. هذا إن كنا كحكومة وسياسات نريد تنمية ومحاربة إرهاب لا تغذيته وهدم المجتمع حاضره ومستقبله!
المقال على موقع بالأحمر