نُشر النص الأصلي لهذا الموضوع في موقع "مدى مصر"، وهو منصة إلكترونية تأسست في مصر، ونعيد نشره هنا بالاتفاق مع الموقع. في إطار حملتها المستمرة للتضييق على الصحافة، حجبت السلطات المصرية "مدى مصر"، ضمن مواقع أخرى. والتزمًا منا بمبدأ حرية الصحافة واستقلاليتها، يقوم "السفير العربي" بإعادة نشر نصوص ينتجها "مدى مصر" لمساعدة الموقع في التغلب على إجراءات الحجب والوصول إلى القراء داخل مصر.
هبة عفيفي
رحلة قصيرة بمعدية صغيرة من كورنيش النيل بالجيزة ستأخذك إلى جزيرة الوراق، والتي شهدت يوم الأحد، اشتباكات بين قوات الأمن والأهالي احتجاجًا على تنفيذ الشرطة لقرارات إزالة لتعديات على أراضٍ مملوكة للدولة. تتكون الجزيرة من أراضٍ زراعية ومنازل مبعثرة بناها مهاجرون جاؤوا من عدة محافظات إلى الجزيرة الواقعة شمال الجيزة.
المشاهد التي ستلمحها هناك تتماثل مع قرى الدلتا والصعيد. وقد تحوّلت الجزيرة إلى حي تتجاور فيه إشغالات غير رسمية كما هو الحال في معظم المناطق غير المُخططة المحيطة بالعاصمة. بيوت متلاصقة وشوارع ضيقة تتحرك فيها الدراجات النارية ومركبات التوك توك.
اضطراب بدأ في يونيو
في البداية، عمَر السكان الجزيرة عبر توفير الخدمات المختلفة بأنفسهم، قبل أن تمتد يد الدولة لتوفر بعض الخدمات. لكن مع بداية يونيو الماضي، شهدت حياة سكان الوراق اضطرابات، بعدما تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن الجزيرة كهدف قادم لحملة إزالة التعديات على أراضٍ مملوكة للدولة. وقد بدأت عملية الإزالة، صباح اليوم، من جانب قوات إنفاذ القانون التابعة لوزارة الداخلية.
وكانت الحكومة قد أعلنت، في مؤتمر عُقد في يونيو الماضي، عن استرداد 118 مليون متر مربع من الأراضي المملوكة للدولة خلال أسابيع، وتشكل نسبة 69% من إجمالي الأراضي المستولى عليها منذ تأسيس لجنة استرداد أراضي ومستحقات الدولة في 2016، برئاسة إبراهيم محلب.
وكان السيسي قد أشار، في خطابه الشهر الماضي، إلى أن جزر النيل، ومن بينها جزيرة الوراق على وجه التحديد، بقوله: «جزيرة موجودة في وسط النيل، مساحتها أكتر من 1250 فدان- مش هذكر اسمها- وابتدت العشوائيات تبقى جواها والناس تبني وضع يد. لو فيه 50 ألف بيت هيصرفوا فين؟ في النيل اللي إحنا بنشرب فيه؟». وأضاف: «الجزر الموجودة دي تاخد أولوية في التعامل معاها». وبينما يمنح لواضعي اليد فرصة لدفع ثمن ما تملكوه مقابل البقاء، إلا أن سكان هذه الجزر لم يسمح لهم بالبقاء تحت أي ظرف.
لا يبدو الأمر، داخل الوراق، بالشكل المُبسط الذي تحدث عنه الرئيس السيسي. وتتواجد على أرض الجزيرة ثلاث مدارس حكومية، ونقطة شرطة، ومحطة مياه، ومكتب بريد. وتحصل جميع المرافق الحكومية بالوراق على الكهرباء بشكلٍ رسمي. وفي الغالب يستخدم الأهالي توافر المرافق والخدمات بهذه الطريقة لتكون دليلًا على إثبات الاعتراف الرسمي من جانب الدولة على تواجدهم بهذه المناطق.
اصطحب عبد الحميد عبد الله، الذي عاش منذ مولده في الوراق، «مدى مصر» في جولة لمشاهدة المرافق الحكومية الموجودة داخل الجزيرة. وقال في نهاية الجولة: «إذا كان وجودنا غير قانوني، ليه الحكومة قدّمت لنا كل الخدمات دي».
المتعدي الأكبر
فيما قال الباحث والمعماري أحمد زعزع، أحد أعضاء فريق «10 طوبة» لدراسات العمران، لـ«مدى مصر» إن الدولة سمحت بالسكن في الجزر النيلية بطريقة جعلت الوضع القانوني للسكان غير واضح. وأضاف موضحًا أنه يمكن إثبات أن الطرفَين على حق من الناحية القانونية.
وكان الرئيس السيسي قد أشار، في خطابه، إلى القرار الصادر سنة 1988 الذي يُنظم أعمال البناء على النيل. ويُجرّم القرار البناء على مسافة أقل من 30 متر من ضفة النهر. كما صدر قرار آخر من رئيس الوزراء الأسبق كمال الجنزوري، سنة 1998، بإعلان 188 جزيرة نيلية محميات طبيعية، مما يمنع أي أعمال بناء على الجزر. غير أن القرارين لم يدخلا موضع التنفيذ، ولم تقنن الدولة المباني على الجزر.
تشير إحصاءات مستقلة، قام بها زعزع، إلى أن الحكومة هي أول المذنبين حين يتعلق اﻷمر بالبناء على ضفاف النيل. ففي حين يبلغ طول ضفة النيل في محافظة الجيزة 99 كيلومترًا، معظمها مسدود باستثناء 27 كيلومترًا فقط، بحسب دراسة لزعزع. ومن هذه المباني نوادٍ تابعة لمؤسسات حكومية.
من ناحية أخرى يعمل أغلب المواطنون هنا بشكل أساسي في الزراعة، إلى جانب الحرفيين أو صغار التجار. ويعيشون بالحد اﻷدنى من الخدمات في ظل حالة من الفقر العام. وقالت منى محمود، 42 عامًا، واحدة من سكان الجزيرة، لـ«مدى مصر»: «إحنا مبسوطين كده، عايزين هم بس يسيبونا في حالنا». كانت منى تتحدث في طريق عودتها من سوق الخضار بصحبة إثنتين من أقاربها. وأضافت: «استلفت فلوس كتير عشان أبني بيت ﻷولادي يعيشوا جنبي ودلوقتي عايزين ياخدوها مننا ويطردونا».
أثناء سيرهن قابلت منى وقريبتاها رجالًا وأطفالًا وتبادلوا التحية، فعلّقت: «شفتي؟ أنا عارفة كل الناس هنا. عندنا تقاليد القرية. الرجالة هنا يعرفوا الستات ومش بيعاكسوهم. وقت الثورة وكل الفوضى، الدنيا كانت أمان هنا. مشفناش بلطجية أو مظاهرات أو أي حاجة. ازاي نتنقل مكان تاني حتى لو هيدونا قصور».
وكانت تقارير إعلامية قد أشارت إلى اهتمام كبير بجزر النيل بشكلٍ خاص، بهدف إعادة استخدامها في مشاريع استثمارية كبيرة. وقد صرح مدحت كمال الدين، رئيس هيئة المساحة المصرية، في يونيو الماضي، لصحيفة المصري اليوم، أن وزارة التخطيط طالبت الهيئة بتنفيذ أعمال الرفع المساحي لجزيرة الوراق البالغ مساحتها 1300 فدانًا، بهدف تنفيذ مشروعات وصفها بأنها «ذات أولوية» دون أن يحددها. وقد نقلت الصحيفة عن مصادر أن رئاسة الجمهورية كلفت وزارة الإسكان وهيئة التخطيط العمراني بإعادة إحياء مخطط تطوير الجزر النيلية الذي تمّ إعداده عام 2010، على أن تكون البداية جزيرة الوراق، وتصبح مركزًا كبيًرا للمال والأعمال.
من جانبه صرح هاني يونس، المتحدث باسم وزارة التخطيط، لـ «مدى مصر» أن الوزارة ليس لديها معلومات عن أي خطط تخص الجزر النيلية حتى اﻵن، وأنها في المراحل اﻷولى للتخطيط.
وفي المقابل، أوضح أحمد أيوب، المتحدث باسم لجنة استرداد الأراضي ومستحقات الدولة، لـ «مدى مصر» أن اﻷراضي المُستردة قد تُستخدم في بناء مشاريع تنموية وخدمية أو تباع في مزادات علنية أو إعادتها للمستحوذين عليها إذا أثبتوا أنهم يستثمرونها بطرق نافعة، وهو اﻷمر الذي يتحدد عبر عدد من المعايير.
وما ذُكر سابقًا هو الحلقة الأحدث في النزاع الطويل بين الدولة وسُكان الجزر النيلية. فمنذ 2005، وقعت مواجهات عديدة بين الحكومة وسكان عدة جزر أهمها «الذهب» و«القرصاية» و«الوراق»، حيث كانت الدولة تعتزم إقامة مشاريع استثمارية عليها. بينما يرى زعزع، أن تطوير المناطق المأهولة منذ عقود ينبغي أن يتم بالشراكة مع الأهالي، وليس عن طريق طردهم خارجها.
وكانت الدولة قد أعلنت، في 2008، عن المخطط الاستراتيجي للتطوير القاهرة الكبرى «القاهرة 2050». وفق ذلك المخطط يُفترض تحويل جزيرة الذهب إلى منطقة استثمارات. وهو المشروع الذي ارتبط باسم جمال مبارك. غير أن المشاريع المختلفة قد توقفت بعد مظاهرات عديدة لأهالي الجزيرة.
وقد حكمت المحكمة الإدارية العليا، في 2010، لصالح بقاء الأهالي في القرصاية، إلا أن المعركة تجددت مرة أخرى عندما حاولت القوات المسلحة إخلاء الجزيرة بالقوة، وهو المسعى الذي باء بالفشل بعد مقتل أحد السكان في 2012.
تجديد الكلام عن الإخلاء
أمام حقل صغير جلس عبد الحميد عبد الله على سلم يؤدي إلى منزل صغير. ويعيش منذ ولد على الجزيرة بهذا المكان ويتساءل عن أسباب تجدد الحديث عن إخلاء الوراق قائلًا: «لما يبنوا الفنادق بتاعتهم مش هيركبوا شبكة صرف صحي؟ ليه ميركبوهاش للسكان وملاك اﻷرض؟ هم اﻷجانب اللي هيدولهم اﻷرض أحسن مننا؟».
وكان عبد الله قد أوضح لـ «مدى مصر»، في وقت سابق، أن المدارس الحكومية رفضت تسجيل الطلاب في العام الدراسي المقبل، بحجة أن اﻷهالي سينقلون خارج الجزيرة. لكن عبد الله أضاف مؤكدًا: «أنا مش هتنازل عن أرضي، احنا مش شوية فراخ ممكن تهشها. فيه ناس عايشين على 2000 فدان بأطفالهم وحياتهم. حتى لو سعر متر اﻷرض مليون جنيه مش هنمشي».