يوصف زماننا بمصطلح "عالم ما بعد الحقيقة". بعد حملة دونالد ترامب الانتخابيّة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، اتّبعت الصحافة والأكاديميا ومجمل أطر الإنتاج المعرفيّ الغربيّ هذا المصطلح لوصم عالمنا الاجتماعيّ والسياسيّ. معناه: حالة انعدام قيمة الوقائع والبيّنات وانتشار المعلومات الكاذبة واعتماد المواقف السياسيّة على نزعات شخصيّة وعاطفيّة. ينطبق هذا التوصيف على معظم الإنتاج المعرفيّ في الوطن العربيّ، وتدخل فيه عوامل أخطر بكثير تُصبح فيها "النزعات الشخصيّة والمعتقدات الذاتيّة" أكثر تنظّماً في إطار عصبيّات متعددة في سياق الحروب الكارثيّة التي نشهدها.
تُصبح الكتابة في هذا الظرف أمراً محيّراً، فيها بُعدٌ سيزيفيّ من حيث توقّعات الفشل، وهي في الوقت ذاته أضعف الإيمان مع انحسار دوائر الفعل السياسيّ المتاحة. وفي ظلّ توسّع هذه الفجوة التي تبتلع العالم، بين "الشخصيّ" و"الموضوعيّ"، تُصبح إحدى مهام الكتابة جسر هذه الهوّة: إتاحة المعطيات البحثيّة والفكر التحليليّ ووصله بالخطاب السياسي المحتدم، من دون أن يفقد الكاتب موقفه ورؤيته وانخراطه (أحياناً) في القضايا المطروحة، ومن دون أن ينعزل في لغة ومبنى كتابة جاف ومتحجّر.
ليست هذه الفجوة، بين الذاتيّ والموضوعيّ، أمراً بسيطاً يُمكن تغييره بجرّة قلم. فالمهم هو العُمق التاريخيّ - الاجتماعيّ لهذه الهوّة (في جوانب تعنينا هنا تحديداً) وأصلها لا يقع في العقود الأخيرة، وإنما في تحوّلات ما يزيد عن قرنٍ من استحواذ رأس المال على السياسة، وانتصار أيديولوجيّته وإسقاط نموذجه، بواسطة العولمة، على العالم بأسره.
"ما بعد الحقيقة"... فعلاً؟
يدّعي بعض المفكرين الأميركيين أن من بين العوامل التي أدّت إلى عصر "ما بعد الحقيقة" هو وسائل الإعلام الإجتماعيّ التي أتاحت للجميع مساحةً لقول آرائهم دون اكتراثٍ بالحقائق، وانتشار المضامين بموجب خوارزميّة الكترونيّة تُبرز ما يَلقى تفاعل الناس بمعزل عن صحّته أو قيمته. هناك من يدّعي أنّ السبب هو توسّع الفجوات الاجتماعية بعد الأزمة الاقتصاديّة لعام 2008، أو تأثير "ما بعد الحداثة" أو النظريّات النسبويّة ..(relativism) وغيرها دوافع كثيرة تُبحَث في سياق هذه النظريّة التي تمخّضت النخب الفكريّة الأوروبيّة والأميركيّة لتُنتجها، وذلك بعد أن تمكّنت الأغلبيّة الانتخابيّة في الولايات المتّحدة وبريطانيا (إضافة لعوامل كثيرة أخرى) من فرض قرارات مصيريّة تتناقض مع الخطاب السياسيّ السائد بطابعه الليبرالي ومركزيّته الحزبيّة التقليديّة.
ليس "تجاوز الحقيقة" وليد اليوم أبداً، وقد جرت في العالم جرائم أفظع بكثير من انتخاب ترامب رئيساً بالاعتماد على "أخبار مزيّفة" أنتجتها السلطات والنخب الإعلاميّة الغربيّة. والأمثلة كثيرة: دُمّر العراق وقُتل الملايين في غزوٍ كارثيّ مروّع، اعتماداً على معلومات مزيّفة حول أسلحة كيماويّة. وقبلها بكثير أُبيد السكان الاصليون في أميركا بعمليّة تطهير عرقيّ تسلّحت بالكذب والشائعات، وهي ليست شأناً غابراً، فقد استمرّت عملية التطهير العرقيّ هناك حتّى ستّينيّات القرن العشرين، بما يُسمّى "عصر الحسم" (Termination Era). بهذا السياق يُمكن أن نقول أيضاً أنّ ادعاء "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" كانت الـ"Fake News"، التي ساهمت في سرقة فلسطين وذبح أهلها وتهجيرهم.
لكنّ المسألة ليست شاناً هويّاتياً، وهي أوسع من موضوع المركزيّة الأوروبيّة التي تتجاهل الشعوب المستضعَفة في قراءتها الفكريّة: كيف يُمكن أن نتحدّث عن حقبة "ما بعد الحقيقة" وقد عاشت البشريّة أكثر من قرنٍ من الزمن تحت هوس الإعلانات التجاريّة المتصاعد يوماً بعد يوم؟ هوس لم توقفه الحروب العالميّة، يخترق رؤوسنا مئات المرّات يومياً. فإذا كان تعريف "ما بعد الحقيقة" هو الحالات التي تقلّ فيها قيمة الحقائق الموضوعيّة، ويتشكّل الرأي العام بمحاكاة أحاسيسه الشخصيّة، فماذا نُسمي ظاهرة الإعلان التجاريّ القائم على إخفاء الحقائق وتشويهها وإثارة غريزة وعاطفة الإنسان ليرغب بالمنتَج ويشتريه؟ يبدو إذاً أن المشكلة ليست في إلغاء العقل وتغليب الذاتيّة، بقدرما هو خروج هذا العقل التجاريّ واستحواذه على الدول مطلقاً من خلال الأغلبيّة الانتخابيّة.
يُفضي تشخيص خرائب هذا الواقع إلى دفعنا لتحمّل مسؤوليّة خاصّة. تقتضي هذه المسؤوليّة أن نتمسّك بالبحث العلميّ والتفكير التحليليّ الجديّ والموضوعيّ، بقضايا تؤثّر على حياة الناس وتفسّر أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة بأساليب كتابة لا تُقصي الناس بل تدعوهم لتداول هذه المعرفة. صحافة معنيّة بالسياسة، إذ ترى نفسها جزءاً عضوياً من مواضيع بحثها
يُصوّر لنا بأن مشكلة "ما بعد الحقيقة" تكمن في تغليب الشخصيّ على الموضوعيّ، تغليب العاطفيّ على العقلانيّ، تغليب المعتقدات على الحقائق. لكنّ مشكلة هذه الطروحات الفكريّة أنها قلّما تسأل عن أصل التنافر بين الفرديّ والموضوعيّ: من أين هذه الفجوة الهائلة أصلاً، بين عاطفتنا من جهة والوقائع من جهةٍ أخرى؟ إنها الفجوة الناتجة عن منطقٍ تجاريّ ينتهك الإنسان، يهدره ويستنزفه لصالح السوق المفتوح. وهو فعل كلاسيكيّ للإنتاج الرأسمالي من حيث مساحة الاغتراب التي يُنْشئها بين الإنسان وما يستهلكه وينتجه، ما يأكله ويلبسه ويصنعه.
مظاهر تأزم الفجوة
تتجسّد الفجوة الهائلة التي نعيشها في عصرنا، بين الذاتيّ والموضوعيّ، داخل جميع مناحي الحياة. وتخصّنا في هذا السياق العينيّ مظاهرها في أطر الإنتاج المعرفيّ وعلى مستويات متعدّدة. ونتطرّق هنا إلى إطارين: الإنتاج الأكاديميّ والإنتاج الصحافيّ.
في نقاش الأكاديميا العربيّة، يجري التشديد غالباً على شحّ البحث في الجامعات العربيّة. يعتمد هذا النقاش على واقع عالميّ يُفضّل العمل البحثيّ على العمل التدريسيّ. وعلى الرغم من أهميّة البحث، وجوهريّته في تطوير العلم، إلا أن هذه الصورة تعكس من جهةٍ أخرى تصوّر الأكاديميا لوظيفتها: إنتاج المعرفة أهم من نشر المعرفة وتوزيعها. هذا واحد من المنطلقات الأولى التي يُصمّم من خلالها شكل الإنتاج الفكريّ كما نعرفه اليوم.
تعمل الأكاديميا على سدّ الفجوات المعرفيّة، وهي كلّما تقدّمت في الزمن دخلت في مجالات بحثيّة أكثر دقّة وتفصيلاً. ومع تحوّل اللقب الأكاديميّ إلى رمزٍ طبقيّ واجتماعيّ، صارت الجامعة محفلاً يسعى لزيادة مجالات إنتاجه من أجل إتاحة المجال لملايينٍ حول العالم للانخراط فيه. من جهةٍ أخرى، تعتمد الجامعة على حصر غالبيّة معرفتها الساحقة داخل جدران الحياة الأكاديميّة دون أن تُحوّلها (إذا كانت تستطيع أصلاً) إلى معرفة يستخدمها الناس في الواقع. ويجري ذلك بالأساس من خلال المباني الصارمة للكتابة الأكاديميّة ومبنى البحث التي تسعى إلى تجريد الباحث من الأبعاد الشخصيّة والإنسانيّة فيه، وتستخلص منه الموضوعيّة العلميّة فقط: تُنتج باحثاً مجرداً من الكاتب الذي فيه.
من جهةٍ أخرى نجد الصحافة، التي باتت رهينة المنطق التجاريّ واستحواذ رؤوس الأموال عليها في العالم كلّه. في الوطن العربيّ، تُضاف أنظمة الحكم الدكتاتوريّة على هذا المنطق التجاريّ، الذي يعتمد في الصحافة على التميّز وعلى تحديد "الجمهور الهدف" الذي يستهلك المنبر الصحافيّ. لقد رفضت النظريّات الليبراليّة سيطرة الدولة على الإعلام، ورأت فيها عملية تربية خطيرة وموجهة للمواطنين. بيد أن إخضاع الصحافة لظروف السوق خلق ما هو أسوأ بكثير: بدلاً من أن يكون المنبر الصحافيّ مساحة جامعة لمختلف التوجّهات والطبقات والمجموعات (تعددية داخل المساحة)، ذهبت الصحافة إلى البحث عن تمييز نفسها عن المنابر الأخرى من خلال تمثيل ما يبتغيه الجمهور الهدف، لتخلق بهذا تعدديّة منابر لا تعدديّة داخل المنابر. وقد شجّع هذا التوجّه تغييرات في أنماط الكتابة الصحافيّة، لتبدأ عمليّة بطيئة وحذرة جداً من انتقاء الحقائق وتغليب المواقف على الوقائع.
في هذا السياق، مثلاً، أفسحت الصحافة الأدبيّة مساحتها وانتشرت القصص الصحافيّة تزاحم وتتّسع بين مقال الرأي (الذي يتطلب ادعاءً رصيناً) والتقرير الإخباريّ (الذي يتطلّب بيانات صلبة). هيمنت على الصحافة (والنماذج العربيّة كثيرة) شطحات الصحافة السرديّة، قصص صحافيّة تتحمل مشاعر الصحافيّ ورؤيته الخاصة للموضوع، وهو ما أعطى الكتابة بعداً انطباعياً. واستمر الأمر نحو "المقالات الذاتيّة" التي تجرّأت على التنازل كلياً عن المعطيات والموضوعيّة: كتابةً عاطفيّة، تحضر فيها الأنا دون حسٍ بعقلانيّة الجماعة.
انحسار السياسة
إن المساحة الرابطة بين الباحث والكاتب هي مساحة التأثير السياسيّ. أن يعرف الإنسان شيئاً ويحلّله ويسعى إلى المساهمة في استبدال واقعٍ سياسيّ بآخر. هذا ما يدفع الكاتب/الباحث إلى التمسّك بالوقائع من جهة ودفعها للخطاب الجماهيريّ. وعلاوة على تآكل مساحة انخراط الناس بالسياسة، من موت الحزب الجماهيريّ واستبدال الحزبيّة بمؤسسات "تخصصيّة"، وغيرها من التغيّرات التي شهدها العالم بأسره، عانى الوطن العربيّ من أنظمة حكم قتلت فيه بسبق الإصرار والترصّد (وليس كصيرورة اجتماعيّة اقتصاديّة جارية) كل إمكانيّات التنظيم السياسيّ المؤثّر فعلاً. بالتالي، فإن المساحة التي يتراجع عنها الفعل السياسيّ هي ذاتها المساحة التي يتقاسمها طرفيّ العُزلة: الكاتب مقابل الباحث.
إن ما نعيشه في الوطن العربيّ هو النسخة المتطرّفة من الوصف المطروح أعلاه. كل واحد من العوامل المذكورة سنجده في بلادنا أكثر تطرّفاً. فإن عُزلة الباحث العربيّ ليست في جامعته فقط، إنما تدفعه غالباً إلى اللجوء إلى الجامعات الأجنبيّة حيث يتجرّد من أهم عوامل "ذاتيّة الكاتب": لغته الأم. أما في الصحافة، فأزمة التطرّف "الذاتي" ليست في مقالات عاطفيّة يكتبها صحافيّون شباب، بل تمظهرها على شكل نصوص تنضح طائفيّة وأفكاراً مسبقة وإبداع في العصبيّة والشتم ونفي الآخر.
يُفضي تشخيص خرائب هذا الواقع إلى دفعنا لتحمّل مسؤوليّة خاصّة. تقتضي هذه المسؤوليّة أن نتمسّك بالبحث العلميّ والتفكير التحليليّ الجديّ والموضوعيّ، بقضايا تؤثّر على حياة الناس وتفسّر أوضاعهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة بأساليب كتابة لا تُقصي الناس بل تدعوهم لتداول هذه المعرفة. صحافة معنيّة بالسياسة، إذ ترى نفسها جزءاً عضوياً من مواضيع بحثها. لا تغترب عمّا تبحث فيه إلا بما تتطلّبه العقلانيّة المهتمّة بمصلحة الجماعة.
هذه المسؤوليّة التي نشعر بها تجاه بلداننا، وفهمنا للتشابك غير القابل للانقطاع بين جميع أقطار الوطن العربيّ، هي التي تدفعنا للكتابة في "السفير العربيّ" منذ خمس سنوات، وهي مدّة قصيرة نسبةً لهوائل الكوارث التي تعانيها مجتمعاتنا، وما أنتجته من خرائب في الإنتاج المعرفيّ. يتآكل هاجس الكتابة هذا، يسهل انهيار الناس أمام جبروت المعسكرات ومالها، وليس أمام المؤسسات إمكانيّات سهلة للصمود دون ارتباط بواقع الاصطفافات. ومع هذا، فإن "السفير العربي" هو واحد من مشاريع متعدّدة تبحث عن مساحتها في الوطن العربيّ. ليست كثيرة، لكنّها موجودة وتعمل بجد وتتحمل مسؤوليّتها، وتواجه سلطات بلادها، تواجه القمع والسجن أحياناً كثيرة، وهذه الملاحقة هي دلالة على صحّة الطريق.
هذه المنصّات، ومن بينها "السفير العربيّ"، تتحمّل مسؤوليّتها تجاه مجتمعاتها من خلال الكتابة، وهذا أضعف الإيمان.