عقدتُ العزم على السفر إلى بغداد. جهزت زاد الرحلة: بزر دوار الشمس ورواية الغريب لألبير كامو. وصلت محطة قطار "المعقل" في البصرة باكراً، واخترت المقعد الأخير قرب الشباك وخلفي غرفة التدخين.
خلافاً للفوضى التي يتسم بها تعامل العراقي مع الحيز العام، كان ركاب المقصورة ينتظمون في عملية التوزع على المقاعد، ثم يدور عليهم موظف القطار العبوس "التي تي"، يسأل عن المستمسكات و"البطايق" (بطاقات). كهل كث الشوارب، حليق اللحية، نسخة سمجة مكررة عن صورة رجل الأمن العربي.
الهواجس تزداد اطرادياً في خيالي مع وقع كل خطوة للموظف، وما أن أدركني واكتشف جنسيتي اللبنانية، حتى لانت تفاصيل وجهه العبوس، وابتسم قائلأ : "هلو بالخَطّار" (الضيف)، ثم سألني السؤال العراقي المعتاد: شلونها بيروت؟ وشلونها صباح الشحرورة؟
الحشرية والافتتان بالغريب سمة عراقية سرعان ما تظهر. فما أن سرت المعلومة في أرجاء المقصورة، حتى ازدحم السائلون وشخصت العيون واستنفرت الآذان، يسألون عن أحوال لبنان والأماكن السياحية وتكاليف الرحلة، فلا يخلو سيل الأسئلة من الحميمية العراقية الاستثنائية، التي تشبه قلق الأم على أطفالها. فيطمئن كل سائل عن صحتي وأكلي، وتنهال دعوات الزيارة والعزائم: سمج مسكوف )مشوي على الطريقة العراقية) مسموطة (يخنة سمك مملح)، مفطح (أرز باللحم)، تشريب (مرق) على أنواعه.
لا سبب في نظر العراقي يبرر هجرة المرء وطنه وأهله وأعمامه (عشيرته) مهما تردت أحواله، والدليل أن معظم الاغتراب العراقي هو نزوح قصري أو لجوء سياسي، هو نزوح الجسد لا الفؤاد والانتماء. يشعر العراقي بحسرة على حال كل مغترب عن أهله وبلده، ويبدي التضامن معه ويعرض عليه المساعدة والعون، رغم علمه أن الغرباء سبب شقاء بلاده، لارتباط معظم الشركات الأجنبية بعقود ومشاريع تغطي فساد دولته.
شابان لطيفان انتظرا انصراف الجميع لشؤونهم، وجلسا إلى جانبي. وكان نقاش جميل وتبادل خبرات وتكتيكات حول التقرب من الفتيات. يبتسم الشاب البصراوي "منتظَر" وهو يشرح بإسهاب تقنية "ذب الرقم" في الأماكن العامة. تنشط هذه الظاهرة في مواسم الأعياد والزيارات الدينية، وتعتبر حديقة الزوراء وشارع الكرادة التجاري والكاظمية والأعظمية أماكنها الساخنة. "ذب الرقم" عملية دقيقة وصعبة يطارد خلالها الشاب الفتاة محافظاً على مسافة تضمن إمكانية الانسحاب التكتيكي، وما أن تبدي الفتاة ملامح القبول، حتى ينهمك الشاب في محاولة إيصال الورقة التي سجل رقم هاتفه عليها. وإذا قامت بمراسلته، فهذا باب عراقي جديد فتح للهروب بالحب من الحرب والفقر والعوز.
أولى كنايات السخرية التي تلتصق بالشاب العاشق هي "الزاحف". يسهر الليل ويجتهد بقرض الشعر أو اقتراضه، متقمصا دور شهرزاد في ليالي العشق والتذلل، فيجتهد ليحيا يوماً آخر على قيد الحياة والحب. وما أن يتكلل زحفه بكلمة أو التفاتة، أو ظفر باسم الصبية الحقيقي وعنوانها، يهلهل (يزغرد) أصدقاؤه الأمناء على سره: "مبارك لكم زحفكم العظيم".
أما صديقي البغدادي فتسلق مراتب عالم العشق بحرفية، ينتظر فرصة أو عطلة ليقطع الطريق من بغداد إلى البصرة جيئة وذهاباً، يوماً بعد يوم، حتى لو كان اللقاء عن بعد، أو لثوانٍ معدودات، فاستحق عابر المحافظات عن جدارة لقب " الكنغر".
لا سبب في نظر العراقي يبرر هجره وطنه وأهله وأعمامه (عشيرته) مهما تردت أحواله، والدليل أن معظم الاغتراب العراقي هو نزوح قصري أو لجوء سياسي، هو نزوح الجسد لا الفؤاد والانتماء. يشعر العراقي بحسرة على حال كل مغترب عن أهله وبلده، ويبدي التضامن معه ويعرض عليه المساعدة والعون، رغم علمه أن الغرباء سبب شقاء بلاده، لارتباط معظم الشركات الأجنبية بعقود ومشاريع تغطي فساد دولته
ليست هذه المشاهد غريبة عن العراق، رغم ما يشهده من غزو مفتعل لتيارات محافظة، أسبابها وأهدافها ليست عراقية، ورغم سطوة التشكيلات العشائرية التي نشطت كبديل عن الدولة. يحافظ العراقي بدون أن يعي على شخصية وطبائع رومنسية وضرورة درامية رثائية، كأنها المقاومة المستترة لسوداوية واقعه.الأغنية العراقية أبهى تعبير عن هذه الطبائع، فلا يبخل الشعر والشاعر والمطرب بالتعبير عن حبه وألمه وحزنه وعتبه، متجاهلاً كل ما تفرضه الذكورة والحشمة من وجوب كبت المشاعر والضعف.
يوم اختبرت تجربة عاطفية مؤلمة، اكتشفت أن كل نصائح أصدقائي العراقيين كانت تومئ إلى أغنيتين هما: "يا حريمة" لحسين نعمة و"حن وانا حن" لياس خضر.
ختم صديقي النجفي رسالته لي: "اليوم اكتملت عراقيتك يا صديقي اللبناني" موضحاً أن الشاب العراقي لا تكتمل عراقيته بلا قصة حب شكسبيرية وهجران ولوعة.
قطار الليل يشق سكون القرى الهادئة المبعثرة. جاهدا أحاول التلصص على الحياة خلف الستائر، لعل أذني تدرك دق القهوة أو ينعم أنفي برائحة الهيل من ديار حمد. أشعلت سيجارتي الأخيرة وختمت الرواية واستسلمت لنوم متخم بشوق إلى بغداد. يوقظني "منتظر" وقد أدرك القطار عتبة دار السلام، تلوح الشمس من خلف المئذنة العتيقة، سألت عن موقعنا، فأجاب مبتسما: "الحمدالله اعله سلامتك آغاتي، تَوّنا عبرنه جسر المسيّب". سيبتني ليلتها بغداد كما سيبتْ كل عشاقها، والشوق يستحيل إلى ثراها...