استرخاء البيانو وسط كرنفال دموي صاخب ومُنفلت من دوائر الانضباط ضربٌ من البطر، واعتداء على الجدوى واللياقة. فليس أمام من يريد الغناء في هكذا مناخ سوى الزعيق والنعيق، وربما هذا ما جعل الأغنية العراقية تغادر آخر ما تبقى من رياض الرهافة والجمال إلى مستنقعات الابتذال والقبح القابعة وراء عام 2003.
الابتذال
لم يكن الغناء العراقي في أحسن حالاته خلال الثمانينيات، لكنه بقي أفضل من غناء التسعينيات، وهذا الأخير على الرغم من النتوءات الثقيلة على الذائقة التي ظهرت فيه، حاول مقارعة الهبوط بنفحات من العصر السبعيني الذهبي، عصر سعدون جابر وفؤاد سالم وقحطان العطار وياس خضر وحسين نعمة وغيرهم. لكن الأمور خرجت عن السيطرة مع حلول زمن الحرية العرجاء وديمقراطية الفوضى.
أمام غياب الرقيب السلطوي، ارتأى البعض تغييب الرقيب المعنوي الذاتي أيضاً، لإثارة الضجيج وجلب الانتباه. ونجح هذا المنحى في تهيئة الأرضية الملائمة لظهور الاختلال من دون مقاومة مجتمعية رادعة تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد استهجان طفيف. من هذه الفجوة ولج المغني حسام الرسام بمجموعة أغنيات وموالات لم تألف الأذن العراقية كلماتها من قبيل "لا تصدقن يا بنات أن الزواج راحة.. رابع أسبوع ويه العمة رداحة.. وسادس أسبوع بالمحكمة سواحة.. وسابع أسبوع مطلقة ومرتاحة". هذا الموال الذي طرق أبواب العراقيين من بعد ناظم الغزالي ويوسف عمر ورياض أحمد، جعلهم يتساءلون عمن يغنيه، فذاع صيت حسام الرسام وكبُرت شهرته، وقدم لاحقاً أغاني خاصة به بعد أن كان يغني لغيره. وهذه الأغاني جاءت هي الأخرى مثقلة بالعنف والمفردات الفجة، مثل "ألعن أبو اللي بكاكِ.. يا بويه لو لاقيته.. والله لأهجم بيته".. ولم يعد في القاموس العراقي الغنائي الجديد مكان لكلمات مثل "لما گتلي الوكت صيف.. گتلك رموشي اصفهن على چفوفي واهفّي لك"، فقد توارى العاشق الذي يريد أن يصنع من رموشه مروحة يدوية لحبيبته، وحل بدلاً منه العاشق "الحرفوش" الشاتم الهادم للبيوت.
الكبريهات المبتذلة
الجيل الشاب الذي فتح عينه على الحرب والقتل والانحطاط، تفاعل بقوة مع طريقة حسام الرسام في الغناء، الأمر الذي جعل المطربين الجدد يقلدونه في كل شيء، بل أن البعض منهم استعار حتى لقبه، مثل حسن الرسام ومحمد الرسام وعلي الرسام، وراحوا جميعاً يرسمون شكل الانعطافة الجديدة في مسير الأغنية العراقية. كذلك كان للمطرب الراحل علاء سعد دور في الصياغة التصويرية الجديدة للأغاني عندما ظهر بأغنيته الشهيرة "البرتقالة" والتي صورها بطريقة تعكس أجواء "الكباريهات"، فحذا الآخرون حذوه لما رأوا الانتشار الواسع الذي حققته، وتدفقت عشرات الكليبات المتشابهة والمكتظة بالراقصات ذوات الشعر الطويل والأجساد المكتنزة عبر القنوات الفضائية.. التي بدأت هي الأخرى تتكاثر بسرعة لافتة.
أمام غياب الرقيب السلطوي، ارتأى البعض تغييب الرقيب المعنوي الذاتي أيضاً، لإثارة الضجيج وجلب الانتباه. ونجح هذا المنحى في تهيئة الأرضية الملائمة لظهور الاختلال من دون مقاومة مجتمعية رادعة تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد استهجان طفيف.
اكتمل الصوت مع الصورة، وبدأ المشوار الجديد للأغنية العراقية، وهو مشوار تعثرت فيه الأصوات والألحان والكلمات. استبدلت الرخامة بالغلظة، والجمل الموسيقية الثرية بالصياح الأهزوجي العشوائي، والكلام الشاعري الساحر بالعبارات السوقية العنيفة والمتهكمة. حدث كل ذلك نتيجة الوضع العراقي الهستيري بشكل عام، والذي قاد إلى فقدان التوازن في جميع مفاصل الحياة، أو معظمها على الأقل.
تماشى صانعو الأغاني الجدد مع موضة الاستهتار بالقيم، فلم يجد أحد المطربين حرجاً في تقليد صوت القطط في إحدى أغانيه قائلاً "بسبس ميو"، ولم يرَ مشكلة في غناء عبارة "انت تحبني؟ هههاي!".
على ما يبدو، فإن الجيل الذي دخل مرحلة الوعي وتذوق الغناء بعد عام 2003، رأى أن هذا النوع من الأغاني هو حارس لذة الطرب. لكن استعانة بعض المطربين الجدد بالأغاني السبعينية وبعض الأغاني الثمانينية لإشباع توقهم إلى معاقرة الطرب الحقيقي في ظل عجز الواقع الراهن عن منحهم ما يريدون، جعل الجمهور الشاب يدرك البون بين الأمس اليوم، لذلك عادت للانتشار أغانٍ خفف الزمن من حدة بريقها. ومع ذلك، استمر قطار الأغاني غريبة الأطوار بالسير على سكته غير آبه بالانتقادات، ووصل إلى محطات أنتجت فيها أغان غير معلومة الغاية والموضوع، من بينها أغنية "يا بيت گطيو" التي تبدأ وتنتهي من دون معرفة من هم "بيت گطيو" وما علاقة المطرب بهم ولماذا يغني عنهم، وما الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن المستمع سيتأثر ويهتم بالمديح الذي تضمنته الأغنية لـ"بيت گطيو" اللغز الذي بقي رهن التكهنات.
لعبة التجارة وحدها هي ما يفسّر شيوع هذا النوع من الأغاني الخالية من كل شيء إلا من الإيقاع السريع. فكل طموح المطربين الجدد ينصّب في الحصول على مكان داخل النوادي الليلية الآخذة بالتكاثر في بغداد، والتي لا يهتم فيها أحد بالقيمة الطربية بقدر الاهتمام بالإيقاع القادر على إثارة الصخب وهز الأجساد.
لعبة التجارة وحدها هي ما يفسّر شيوع هذا النوع من الأغاني الخالية من كل شيء إلا من الإيقاع السريع. فكل طموح المطربين الجدد ينصّب في الحصول على مكان داخل النوادي الليلية الآخذة بالتكاثر في بغداد، والتي لا يهتم فيها أحد بالقيمة الطربية بقدر الاهتمام بالإيقاع القادر على إثارة الصخب وهز الأجساد. لذا يحرص من يريد الانضمام إلى القافلة "الفنية" على تقديم أغنية تلائم أجواء السهرات الصاخبة لكي يقنع أصحاب النوادي الليلية بكفاءته، فيجد الطريق إلى الأموال.
.. ثم الحرب على داعش!
مع اتساع رقعة الحرب ضد تنظيم "داعش"، اتسعت رقعة الأغاني الحربية الحماسية أيضاً، فصار الرصاص رفيقاً ملازماً لكُتاب الأغاني وملحنيها ومؤديها، وهرول جميعهم إلى مفردات الموت والدم ليقطفوا منها ما يتخم أعمالهم بتمجيد القتال وأهله. وبذلك امتلأت خزانة الغناء العراقي الجديد بمزيج عنفي مخيف على المستويين العاطفي والمجتمعي، فمن يقول متباهياً "أول عيني متغمض.. تجيني بالحلم تركض.. أبوّس واحضن بكيفي.. أموتك غير إذا ترفض؟!"، يقابله من يقول مفتخراً "ماخذ صورة أنا والموت". إزاء كل ذلك اندثر زمن الريحان وليل البنفسج، ولم تعد غزليات مظفر النواب وزامل سعيد فتاح وعريان السيد خلف تعانق أوتار محمد جواد أموري وطالب القرغولي ومحسن فرحان لتصدح بها حناجر فاضل عواد وحميد منصور وأمل خضير، فالجمال احترق بنيران السيارات المفخخة ومزّقه الرصاص.