القهر، تناقض المصالح والصراع الطبقي، الحروب الدينية والمذهبية، النزاعات العرقية، الاستعمار ومقاومته، الاستبداد ومناهضته، كلها عوامل يمكن أن تكون محركات لتاريخ بلد ما في مرحلة. أما في تونس "ما بعد الثورة"، فيبدو أن الخوف أصبح هو المحرك الرئيسي. ليس ذلك الخوف "القديم" من البوليس والعسس، بل خوف جديد أكثر ديمقراطية وتعددية. وهو ليس الخوف العادي والغريزي، بل شيء يشبه الهوس. خوف يحس به السياسيون ويصنعونه ويستثمرون فيه ثم ينقلونه إلى بقية المواطنين. هذا الخوف أصبح هو العنصر المحدد لنتائج الانتخابات والفاعل الأكبر في صنع التحالفات والمحاور السياسية. الجميع يخافون والكل مخيف. خوف يمنع البلاد من المضي قدماً ويجعلها تتحرك بما يشبه الدائرة المفرغة.
فما هي علاقة الفاعلين السياسيين الكبار في تونس بالخوف؟ تاريخياً، هناك ثلاث عائلات سياسية كبرى في تونس ما بعد الاستقلال: "الدساترة" (نسبة إلى الحزب الدستوري) والإسلاميون واليسار. الصراع بين هذه القوى مستمر منذ قرابة نصف قرن، وإن تغيرت أشكاله من حقبة إلى أخرى. سنركز على الحزب الأكثر تمثيلاً لكل واحدة من هذه العائلات.
حركة النهضة: الخائف الأكبر
حركة النهضة هي الخائف الأكبر في تونس. وعلى الرغم من أن لديها حالياً أكبر كتلة برلمانية (بعد انقسام كتلة نداء تونس)، وأنها ممثلة في الحكومة ولديها قاعدة شعبية حقيقية، فإن الخوف هو خبزها اليومي.
بعد عقود من الملاحقات والتعذيب والمنافي، جاءت الثورة لتسقط عدو الإسلاميين ولتجعلهم يفوزون في أول انتخابات حرة. فرحة الفوز في تونس أصبحت نشوة بعد سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم في كل من ليبيا ومصر. اعتقدتْ الحركة أن زمن التمكين قد حلّ وأن نصر الله آت لا ريب فيه، وحاولت تسريع الأمور عبر السعي للسيطرة على الدولة وأجهزتها في تونس. الفرحة لم تدم طويلاً، فسرعان ما انقلب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي في مصر وضرب أكبر فرع للإخوان المسلمين. بعدها بأيام، تحالف خصوم حركة النهضة في تونس محاولين إسقاطها عبر "اعتصام الرحيل" (على إثر اغتيال عضو المجلس الوطني التأسيسي محمد براهمي، وهو بدأ في تموز/يوليو 2013 وتطور الى اضراب جوع..). ثم تتالت الضربات بانقلاب المشير حفتر على الإخوان المسلمين في ليبيا، ودخول روسيا على الخط في سوريا. حركة النهضة لا تثق بالجار الغربي (الجزائر) بحكم عدائه التقليدي للإسلاميين وهي تخشى أن يتحوّل الجار الشرقي (ليبيا) إلى عدو بعد أن كان حليفاً. وهي تعرف جيداً أن دولاً خليجية مؤثرة كالسعودية والإمارات دخلت في صراع مفتوح مع الإخوان. باختصار المحيط المغاربي والعربي لم يعودا آمنين بالنسبة للحركة. أما على المستوى الداخلي، فالنهضة تعلم علم اليقين أنها مكروهة من طرف المثقفين وأغلب الإعلاميين والنقابيين والسياسيين من يسار وليبراليين.
حركة النهضة هي الخائف الأكبر في تونس. وعلى الرغم من أن لديها حالياً أكبر كتلة برلمانية (بعد انقسام كتلة نداء تونس)، وأنها ممثلة في الحكومة ولديها قاعدة شعبية حقيقية، فإن الخوف هو خبزها اليومي.
وأكثر ما تخشاه هو تحالف كل خصومها ضدها، وهذا ما جربته أثناء "اعتصام الرحيل" ذاك. لذا نجدها تسعى بكل جهدها لاسترضاء الخصم الأكبر، "نداء تونس"، والتحالف معه كي تتجنب الإقصاء وكي تبقى قريبة من أجهزة الدولة. لم تتردد حركة النهضة في المشاركة في كل الحكومات التي شكلها الباجي قايد السبسي وحزبه، ورضيت أحياناً بنصيب مذل لا يتماشى مع حجمها في البرلمان والشارع. استراتيجية النهضة التي يرسمها زعيمها راشد الغنوشي أصبحت واضحة: ساق في الحكومة وأخرى في المعارضة، التحالف مع أقل الخصوم عداءً وأكبرهم حجماً، تخفيض السرعة والصوت في انتظار أن تتضح الأمور في المنطقة. هذه الاستراتيجية لا تكفي لطمأنة الحركة، فهي تخاف أيضاً من انشقاقات داخلها نتيجة لعدم رضا العديد من منتسبيها عن التحالف مع رجالات النظام القديم. كما أنها تخاف من تآكل قاعدتها الشعبية التي اكتسبت جزءاً كبيراً منها عبر الاستثمار في الخوف (الخوف على الإسلام من العلمانيين). لا شيء يطمئن حركة النهضة، وكل التغييرات التي تحصل في تونس والوطن العربي تُنمّي قلقها وتزيد من مخاوفها... كان من الممكن أن تضمن "راحة البال" لو أنها راهنت على الثورة بدلاً عن السلطة، ولو أنها سعت نحو المستقبل بدلاً من الماضي.
اليسار والخوف الأعمى
"الجبهة الشعبية" هي أكبر ائتلاف يساري في تونس، ولها حالياً كتلة برلمانية بخمسة عشر مقعداً (المركز الثالث). تشكلت الجبهة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2012، لكن أغلب الأحزاب المكونة لها قديمة وتنشط منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. جاء التأسيس بعد سنة بالضبط من الانتخابات في تشرين الأول/أكتوبر 2011 والتي كانت كارثية بكل المقاييس بالنسبة لليسار. فمن جهة كانت نتائجه هزيلة جداً ومن جهة أخرى حقق الإسلاميون انتصاراً كبيراً (كاد أن يكون ساحقاً لولا القانون الانتخابي النسبي). نتائج الانتخابات كانت صادمة ومؤلمة، فاليسار التونسي ومنذ نشأته كان "عصب الحرب" في جل المعارك من أجل العدالة الاجتماعية والحريات، وكانت له مساهمة فاعلة في انتفاضة 2011. الجبهة الشعبية لم تولد فقط كردة فعل على نتائج الانتخابات، بل أيضاً كتعبير عن مخاوف وهواجس. الخوف من تغوّل الإسلاميين ومن سعيهم لتطبيق أطروحاتهم وبرامجهم التي يعتبرها اليسار "رجعية وظلامية". هذا الشعور بالخوف سيزداد قوة مع تنامي نفوذ الإخوان المسلمين في المنطقة (ليبيا ومصر خصوصاً) ومع بداية تفشي الإرهاب في تونس. ممارسات حركة النهضة في الحكم عمقت هواجس اليسار: استغلال المساجد، مغازلة السلفيين، استجلاب الدعاة الوهابيين والإخوانيين، التضييق على الحريات الفردية، محاولة السيطرة على أجهزة الدولة وتطويع وسائل الإعلام، القمع العنيف للاحتجاجات ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، اقامة علاقات متينة مع تركيا وقطر. الجبهة الشعبية كانت تخاف أن تتكرر في تونس تجارب عرفتها المنطقة سابقاً. تحدث البعض عن سيناريو إيراني: يسار يثور وإسلاميون يعودون من المنفى لتولي الحكم. وفيهم من تحدث عن السيناريو الجزائري (حرب أهلية)، والسيناريو المصري (تحالف الإخوان والجيش لقمع القوى الثورية).
الجبهة الشعبية لم تولد فقط كردة فعل على نتائج الانتخابات، بل أيضاً كتعبير عن مخاوف وهواجس: الخوف من تغوّل الإسلاميين ومن سعيهم لتطبيق أطروحاتهم وبرامجهم التي يعتبرها اليسار "رجعية وظلامية"
كل هذه السيناريوهات أصبحت تؤرق اليسار، وتفاقم الأمر باغتيال القياديين في الجبهة الشعبية شكري بلعيد (شباط/ فبراير 2013) ومحمد البراهمي (تموز/ يوليو 2013).
لم تتردد الجبهة الشعبية في تحميل الإسلاميين مسؤولية الاغتيالات، واعتبرت نفسها مهددة في وجودها وأنه يجب العمل على إسقاط حركة النهضة بكل الطرق. هذه القناعة ترجمت بتحالف مع "نداء تونس" (العدو والجلاد القديم) في إطار ما سمي حينها ب"جبهة الإنقاذ" والتي نظمت "اعتصام الرحيل" المطالب بإسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي. حركة النهضة التي صُدمت لسقوط الحليف مرسي في مصر، استشعرت الخطر في تونس وقررت قطع الطريق أمام هذا التحالف. اجتمع زعيم الحركة راشد الغنوشي بزعيم حركة نداء تونس الباجي قايد السبسي في باريس وعقدا هدنة واتفاقات ستحدد مستقبل البلاد لسنوات قادمة. انتهى "اعتصام الرحيل" ولم يحل المجلس التأسيسي وبقيت حركة النهضة قوية. أما حركة نداء تونس فانتزعت اعتراف الجميع بها كلاعب أساسي بعد أن كانت تُنعت بأنها تجمع لأزلام "النظام السابق". اليسار كان الخاسر الأكبر، فقد فقد جزءاً كبيراً من مصداقيته بعد تحالفه مع من كان يصفهم بالاستبداد والفساد والعمالة، كما أن أعدائه شكلوا تحالفاً جديداً وأصبحوا أكثر قوة من ذي قبل. لم تتعلم الجبهة الدرس وراهنت مرة أخرى على الباجي قايد السبسي ودعمته خلال الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية سنة 2014. فاز قايد السبسي وتحالف مع حركة النهضة وشكلا حكومة معاً وبقيت الجبهة الشعبية وحيدة مع خوفها.
نداء تونس: الاستثمار في الخوف
تأسست حركة نداء تونس سنة 2012 بقيادة الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية الحالي، وقدمت نفسها كامتداد للحركة الإصلاحية التي عرفتها تونس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وللحركة الوطنية التي نشأت زمن الاستعمار وكوريث لفكر بورقيبة "الحداثي والتنويري". ما لا تقوله الحركة هو أنها امتداد للحزب الذي اغتصب الحكم في تونس لمدة أكثر من خمسة عقود، وأنها الوريث الشرعي لنظام استبدادي وفاسد. حاول مؤسس الحركة تسويقها كمنقذ لتونس من "ظلامية" الإخوان ومن "ثورجية" اليسار. الكلمات المفاتيح لخطابات قيادات "نداء تونس" هي: إعادة هيبة الدولة، والحفاظ على مدنية الدولة، ومكافحة الإرهاب. نجحت الحركة في استقطاب مثقفين علمانيين ويساريين سابقين ولكن نواتها الصلبة بقيت مكونة من "الدساترة" ورجال الأعمال. ليس للحركة برنامج واضح ما عدا الخوف والتخويف. تلعب القيادات على حبل مخاوف اليسار والعلمانيين عموماً من حركة النهضة وتركز خصوصاً على المرأة بحكم أن حقوقها ومكتسباتها (مجلة الأحوال الشخصية) مهددة. كما أنها تجيد تسويق خطاب يُطمئن الطبقة الوسطى المنزعجة من حالة الحراك الاجتماعي والسياسي والتي تريد استقراراً ولو على ضفاف مستنقع. الحركة استفادت كثيراً من المخاوف الشعبية إزاء تفشي الإرهاب ووعدت بمحاربته. حتى مخاوف حركة النهضة من اليسار والعلمانيين تم استثمارها جيداً. أما بالنسبة للأسواق الخارجية فلقد استثمرت حركة نداء تونس أسهمها في المخاوف السعودية/ الإماراتية والفرنسية من تنامي نفوذ الإخوان المسلمين.
ليس لحركة نداء تونس برنامج واضح ما عدا الخوف والتخويف. تلعب القيادات على حبل مخاوف اليسار والعلمانيين عموماً من حركة النهضة وتركز خصوصاً على المرأة بحكم أن حقوقها ومكتسباتها مهددة. حتى مخاوف حركة النهضة من اليسار والعلمانيين تم استثمارها جيداً
كل هذا الاستثمار في الخوف حقق نتائج باهرة: تحول الدساترة من "أزلام" إلى منقذين ومخلّصين لتونس وفازوا في انتخابات 2014، مما مكنهم من السيطرة على الرئاسات الثلاث. أي أن من حَكم تونس بالخوف طيلة نصف قرن، عاد إلى حكمها بالتخويف. لكن كل هذا النجاحات لا تعني أن "الدساترة" يعيشون في اطمئنان وراحة بال. كانون الثاني / يناير 2011 ما زال موشوماً في الذاكرة وأسبابه العميقة والحقيقية مازالت قائمة: الفقر والتهميش وانعدام التساوي في الفرص والعدالة في توزيع التنمية والثروة. حكام تونس اليوم يدركون جيداً أنه لم يعد بإمكانهم قمع الاحتجاجات والحركات الاجتماعية بالحديد والنار.
بعد قرابة ثلاث سنوات في الحكم، أثبتوا أن لا برامج لديهم غير الخوف وأنهم لا يمتلكون حلولاً. يجدون اليوم أنفسهم مجبرين على تنفيذ بنود اتفاقياتهم مع البنك الدولي وصندوق النقد وهم يعلمون أن النتائج ستكون وخيمة: تسريح موظفين، الخفض في مؤسسات عمومية، وقف التوظيف، تقليص الدعم على السلع تمهيداً لإلغائه. لذا يسعون اليوم إلى توريط أكبر عدد ممكن من الأحزاب في حكومات "وحدة وطنية"، وإلى تحييد المنظمات الفاعلة. يحاولون تمرير قانون عفو عن رجال الأعمال الفاسدين لضمان ولاء منظمة أرباب العمل ويصرفون زيادات للموظفين ويضحون أحياناً بوزير لإرضاء النقابات. وهم بعد تحالفهم مع حركة النهضة يعلمون أن مئات الآلاف ممن صوتوا لهم سابقاً لن يعيدوا الكرة.