في مقاربتها لحراك الحسيمة، وبعد أن غضّت عنه الطرف طويلاً، بادلت الدولة الأدوار بين العصا والجزرة، وكان للعصا نصيب الأسد. ثم، وبعد احتقان شديد سبّبته الاعتقالات المكثفة لقادة الحراك تغيّر نهج التعامل معه "مرّة أخرى"، وانبثقت تلميحات من هنا وهناك، ومبادرات، وكسر للطوق الإعلامي الرسمي عنه. وإن كان الحديث عن حراك الحُسيمة غائباً تماماً من قبل، أو يتم بلغة صارمة مثلما في تقديم بلاغ "أحزاب الأغلبية"، فقد تمّ تناوله مؤخراً في برامج تلفزيونية وفي نشرات الأخبار بصيغة من يبحث عن تهدئة، بما يشكل ربما تمهيداً للعودة إلى البحث عن حلّ لإرضاء المحتجين، لكن بشكل يحفظ "هيبة الدولة" كما يُقال.
لعل من أبرز هذه المبادرات مناظرة نظّمها إلياس العمري، الأمين العام ل"حزب الأصالة والمعاصرة" والقريب من القصر والمعارض (للوزارة التي يرأسها سعد الدين العثماني وهو كان أمين عام حزب العدالة والتنمية الاسلامي)، نهاية الأسبوع الماضي. شارك في المناظرة وزراء ومسؤولون ليس بينهم منتمون إلى "العدالة والتنمية" أو "التقدم والاشتراكية" حليفه الدائم، في محاولة لتهميشهم في أي حلّ قادم، بعدما هُمّش رئيس الحكومة الذي فضل مقابل ذلك الصّمت، وعدم لعب دور سلفه في تبرير سياسات لا ناقة له فيها ولا جمل في إعدادها.
الحراك بأبعاده الحالية، جديد على السّاحة الاحتجاجية. فمن قبل، كانت الاحتجاجات لا تتطلب من القادة سوى تنسيق تفاصيل المظاهرات والشّعارات، لأنّه لم يكن متوقعا لها أن تؤدي لنتيجة ولأنها كانت تُقمع في بدايتها، وكان الوعي الاحتجاجي في درجاته الدّنيا. الآن، منذ احتجاجات 2011، أصبحت المظاهرات تُنقل عبر وسائط التواصل الاجتماعي وبالصورة والفيديو، وأصبح هؤلاء القادة مطالبون بخطابات مباشرة وأخرى عبر الحسابات الفيسبوكية، واضطرّت الدولة للدّخول في حوارٍ معهم، الأمر الذي يتطلّب منهم دراية بالعمل السياسي، وكيفية استغلال المكاسب على الأرض.
لماذا لم تنتج الاحتجاجات نخباً جديدة
ولأنّ أي حراك لا يُدرك إمكانيات نجاحه من عدمها، يكون التّركيز في البداية على التّواصل مع الأفراد والدعوة للتّظاهر، الأمر الذي يلزمه حيازة "كاريزما"، وإتقان فن مخاطبة البسطاء بلغة محرِّضة ومؤلّبة على الوضع. وهي أمور لا يتقنها الجميع، لذا ينجح في هذا المعطى قليلون ويمتلكون إمكانية القيادة. لكن هؤلاء القادة لا يكونون بالضرورة الأكثر امتلاكاً للثّقافة وللوعي السياسي، فهم شخصيات لها قدرة على التّواصل مع المحتجين، وحثّهم على مواصلة الاحتجاج، لكنّها قد لا تملك قدرة على حُسن استغلال النّتيجة التي تصل إليها الاحتجاجات، ولا تجيد المفاوضة مع السّلطة، عندما تخضع هذه الأخيرة لقوّة الاحتجاج وتقرر الدخول في حوار. ونظراً لقلّة الخبرة في العمل السياسي الميداني، فهم غالباً ما يكونون جدداً في العمل السياسي الذي هو من خارج المؤسسات.
ويشكّل العمل من خارج المؤسّسات، مؤشراً على فشل "المؤسسات السّياسية الوسيطة"، وهي الأحزاب المرخص لها، في مهمتها الأساسية، أي الوساطة بين الدولة والأفراد (أو إفشالها بالأحرى)، الأمر الذي انعكس على مهمتها الثانية، أي تأطير المواطنين، بدليل أن الإقبال عليها ضعيف جداً. لذا فقادة الاحتجاجات ينزلون لأوّل مرة إلى الميدان، وكل ما يملكونه هو الحماس الكبير والصدق بلا شك. وهنا تزداد الحاجة إلى المثقّف لمواكبة الاحتجاجات من الداخل وليس من الخارج، حرصاً على رفع الوعي السياسي والاحتجاجي لدى المتظاهرين، وإنجاح الاحتجاجات في لحظاتها التي تكون فيها على وشك قطف ثمار الحراك.
هل سيكون هناك حوار؟
كانت الحكومة قد بدأت تخضع أخيراً، وبدأ وزراؤها في التّوافد على الحسيمة. وكان الحراك قد استطاع فرض نفسه بقوّة بسلميته. ولكن انفعال ناصر الزفزافي، بعد خطبة مستفزّة في المسجد، أثّر بشكل كبير على موقف الحراك، وجعل الدولة تمسكه في مقتل، وهو أمر كانت تنتظره منذ مدة. ولم يترك لها النّهج السلمي مجالاً لإيجاد عذر للتدخّل العني،ف سواء بقوات الأمن أو عبر آليات قانونية باعتقال قادة الحراك، الأمر الذي قامت به الآن، حيث بلغ عدد المعتقلين العشرات. ومن خلال تجارب سابقة في 20 شباط / فبراير مثلاً، فهؤلاء سينفذّون أحكاماً طويلة الأمد نسبياً.
كانت الحكومة قد بدأت تخضع أخيراً، وبدأ وزراؤها في التّوافد على الحسيمة. وكان الحراك قد استطاع فرض نفسه بقوّة بسلميته. ولكن انفعال ناصر الزفزافي بعد خطبة مستفزِّة في المسجد أثّر بشكل كبير على موقف الحراك، وجعل الدولة تمسكه في مقتل، وهو أمر كانت تنتظره منذ مدة
الكُرة الآن في ملعب السلطة. لن يُسمح للحراك بالامتداد، وسيتم تشديد الخناق الأمني، ومقابل ذلك ستكون هناك استجابة جزئية لبعض المطالب. لأنّه في الحقيقة لا تملك السلطة الموارد الكافية لتلبية كل المطالب، وأيضاً لن تفعل حتى لو استطاعت، لأنّها ستفتح الباب أمام احتجاجات أخرى في مناطق هي أشدّ حاجة ربما من الحسيمة. وقد رأينا فعلاً امتداد هذه الاحتجاجات إلى مدن كثيرة، لكن غياب عنصر محفّز على الاستمرار يجعلها تخبو بسرعة.
وتحاول السلطة حرق ورقة الزفزافي ومنع بروز بديل، إذ تعتقل بسرعة أي وجه قيادي جديد، باستثناء نوال بنعيسى التي تفادت اعتقالها، لأنها أم وسجنها سيثير ضجة كبيرة. ولأنّها بديل قيادي جيد ومعتدل، يمكن الوصول معه إلى تسويات في حالة الدخول في حوار مع ممثّلي الحراك، بالإضافة إلى أنّ حضورها القيادي لا يمتلك التّأثير نفسه الذي كان للزفزافي مثلًا، وبالتالي فهي لا تشكل تهديداً على مستوى الحضور الرمزي في الوعي الجمعي.
من خصائص حتجاجات الحسيمة شخصنة الحراك، بمعنى أنه تحول إلى مرادف لناصر الزفزافي قائده الذي أصبح "أيقونة نضالية"، وهذا لم يحدث من قبل في أي احتجاج في المغرب. والشخصنة تكون إيجابية في منح الناس رمزاً تتطلع إليه وتستمع إلى توجيهاته، وتُقبِل على الخروج إلى الشّارع، بناء عليها. لكن في الوقت نفسه يُحمّل الحراك مسؤولية أخطاء القائد، وربما تُجهض كل النتائج الإيجابية التي وصل لها من قبل بسبب هذه الأخطاء.
خاصة أنّنا نعرف أن الخروج إلى الشارع والاحتجاج هو أمر قانوني ومشروع، لكن الدّولة عندنا ما زالت غير قادرة على استيعاب المواطن كفرد وكمؤسسة أيضاً، باعتباره يمتلك حق توجيه النّقد للدولة، ومطالبتها بحقوقه، فهي تنظر لهذا الفعل، أي الاحتجاج، بريبة وتراه مُهدداً لسلطتها. لذا فهي لن تسمح له بالامتداد، وبالتالي فالاحتجاج مشياً محفوفاً بالخطر، في حقل ألغام، وعلى قادة أي احتجاج إدراك هذا. وهذا كان متحققاً مع الزفزافي لحد قريب، على الرغم من تجاوزاته الخطابية، وكان موفقاً في حرصه على سلمية الحراك.
لا دخان بلا نار
بعد أن أثبت الحراك فشل المؤسّسات الحزبية، فضح عدم مصداقية النخب التي فشلت في مساعي الوساطة، وكشف الحزازات المزمنة بين المثقّفين الذين جرّبوا إصدار بيان أثار نقاشات بيزنطية تجاهلت موضوعه (وهو الحراك!) وانشغلت بحسابات ضيّقة. ما يترك الحراك من دون دعم حقيقي من مكونات المجتمع المدني وطنياً، ويضع الدّولة مباشرة في مواجهة المواطن.
لذا فأي محاولة للتّهدئة ينبغي أن تنبع من رغبة في حلّ الأزمة من جذورها، أي عبر وضع اليد على الأسباب التي كانت خلف الاحتجاج، وليس فقط إصلاح ما أُفسد خلاله أي تحقيق مطلب إطلاق سراح المعتقلين. وعلى الرغم من أنّه لا يمكن العودة إلى السّبب المباشر للحراك، وهو مقتل الصياد محسن فكري، لكن يُمكن معالجة الأسباب غير المباشرة، والتي تتجلّى بشكل أساسي في غياب تنمية حقيقية في المنطقة، وعدم إنجاز مشاريع أشرف الملك على تدشينها، ومشاكل اجتماعية من قبيل الفقر، البطالة، الهجرة، تنامي الإحساس بالإقصاء والتهميش.
وإذا أضفنا سوء تدبير الأزمة من طرف المؤسّسات الحكومية، وقبله تقسيم ترابي لا يفيد المدينة، بل كان تقسيماً سياسياً أفرزته مصالح سياسية مرحلية، وعدم تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة فيما يتعلّق بحفظ الذاكرة... نجد أنّ المهمة شاقة وتتطلّب إرادة حقيقية في حل الأزمة.