ما يقع في "الريف" هو مظهر لأزمة العقل السياسي المغربي. تسلط وشطط في ممارسة السلطة، مع التمادي في التعامل مع المواطنين كرعايا ومريدين، محجور عليهم وعلى حيواتهم.
المشكل الحقيقي ليس في الحسيمة، ولا الحل هو الآخر هناك. فحتى لو حلت كل المشاكل في تلك الرقعة الجغرافية، وتمّ تحقيق كل المطالب التي رفعها المحتجون، فإن المشكل الأساسي باقٍ. ستكون مجرد جرعة مهدئة لتحمل الداء دون البحث عن الدواء الحقيقي.
انفصام
تبدو مراكز القرار وكأنها تجسد حالة اجتماعية واقتصادية "عصرية": هي نخب تكنوقراطية، لكنها في الآن ذاته تشتغل بعقلية مخزنية تقليدية، وفق منطق خاص لا يخضع للضوابط والشروط القانونية أو الدستورية كما هو مفترض في أي دولة عصرية تحكمها مؤسسات مستقلة وممثلة للشعب. هذا الأمر جعل بقعة الزيت تتسع يوماً بعد آخر دون أن يفهم الماسك بزمام السلطة أن مكمن الخلل والمشكل الحقيقي يوجد في تلك النخب بالذات وفي المنطق الذي تدير به كل أمور الدولة – بالنيابة - وليس فقط ملف حراك الريف.
لم تؤسس السلطة والحكم المركزي في المغرب لدولة مؤسسات وإنما لدولة "أوامر". والدولة لم تستطع أن تتخلص يوماً من جلباب "السلطنة" والذي هو أقرب لنظام الحكم الديني، وبالتالي كانت تتعامل مع من يعيشون في نطاق ترابها كرعايا مملوكين يجب أن يكونوا في خدمتها وتحت طاعتها، بدلاً من مواطنين تكون السلطة ومؤسساتها في خدمتهم. بما يجعل طبيعة العلاقة مقلوبة من الأصل.
وحتى مع التطور التاريخي، وما طرأ على المجتمع من تحولات، فلم يستطع النظام السياسي في المغرب التخلص من "خطيئة التأسيس" تلك، فظل وفياً لنمطه المنبثق من القرون الوسطى، وكانت تجديداته مقتصرة فقط على تكييفات وتغييرات طفيفة بما يتماشى مع ضرورات الحياة الحديثة دون أن يمس ذلك المضمون بالعمق. بل وحتى مع الفرصة التي بدت فيها القطيعة ممكنة، أي في فترة الاستعمار الفرنسي، إسوة ببلدان مثيلة، فالذي وقع هو العكس، حيث سعت فرنسا إلى الحفاظ على المخزن والإبقاء عليه بل وتوظيفه في سياستها الاستعمارية. وبمجرد جلاء فرنسا وجدنا المغاربة أنفسهم أمام نظام هجين، بوجهين حداثي/ تقليداني.
هذه الازدواجية في الحكم والسلطة أفرزت شكلين متوازيين في بنية الدولة، شكل أول هو المتحكم الحقيقي في زمام الأمور وهو الذي يدير كل المؤسسات الوازنة والحساسة داخلها، وهو ما يطلق عليه عادة "المخزن" أو الدولة العميقة. وهذه لا تخضع لأي محاسبة من قبل الشعب وتشتغل وفق تراتبية تنطلق من الملك وتنتهي بآخر العنقود الذي هو "المقدّم"، وهي بذا بنية تشبه النموذج الامني أو العسكري.
الوجه الثاني للسلطة هو إحدى إفرازات دولة الاستقلال، حينما حتّمت الظرفية إنشاء مؤسسات حديثة، شبيهة بما هو موجود في الدول الغربية (برلمان، مجالس منتخبة، وزارات.. الخ). هذا البناء يتم "توهيمه" بالسلطة ولكنه لا يمتلك منها شيئاً.. حتى مع وجود دساتير وقوانين تمنحه إياها
أما الوجه الثاني فهو إحد إفرازات دولة الاستقلال حينما حتّمت الظرفية إنشاء مؤسسات حديثة، شبيهة بما هو موجود في الدول الغربية (برلمان، مجالس منتخبة، وزارات.. الخ). هذا البناء يتم "توهيمه" بالسلطة ولكنه لا يمتلك منها شيء. فحتى مع وجود دساتير وقوانين تمنحه إياها إلا أن الواقع يجعلها مقتصرة على الفئة الأولى فقط. لكن وعلى الرغم من ذلك، فهي مجبرة على تقديم الحساب للشعب وتخضع له كما أنها تكون منبثقة منه.
فلنأخذ مثلاً نموذجاً لأحد المطالب الواضحة والبسيطة التي نادى بها جزء كبير من النخبة المجتمعية ــ غير المخزنية. فقد تعاقبت منذ استقلال المغرب الدساتير، فتعاقبت النداءات لقيام نظام برلماني بمجلس تشريعي ناتج عن اقتراع شعبي حر. غير أن المبادرة تبقى، بموجب "القانون المقدس"، بين يدي العاهل من حيث هو المبايَع بالإمارة العظمى، حيث يُسند إلى الملك سلطة التشريع خارج الأحكام الدستورية إذ أن الدستور نفسه يكرس ثنائية المرجعية: البيعة من جهة (سلطة إمارة المؤمنين)، والقوانين الدستورية الوضعية من جهة أخرى.. الشيء الذي يجعل منطق "الأوامر" بدل القوانين هو القاعدة والميثاق الذي يعلو ولا يُعلى عليه.
النخب
ليس مرد هذا فحسل هو تسلطية النظام وتوظيفه للقوة القهرية المتمثلة بوزارة الداخلية كعنصر محوري وأساسي للضبط والإخضاع، أو الأجهزة الأمنية والعسكرية كآليات احتياطية للمساعدة على الأمر. لكن لا يمكن أن نفسر موقف أغلبية شعبية محرومة من كثير من الحقوق وتبدو راضية عن ذلك دون استحضار ذلك القمع الممزوج، بالقوة وبالأفكار والمعتقدات. وهذا ما يفسر كذلك حتى وجود أغلبية شعبية دائمة البحث عن أقصى تقرب من مركز يوزع النعم والثروات والنفوذ، كما أنها مستعدة للتضحية ومنح نفسها كقربان لخدمة المركز وهو ما يسري تقريباً على الفئة التي يطلق عليها حاليا بـ"العياشة".
هذه المسألة قد لا تبدو بتلك الخطورة والحساسية التي هي عليها، لكن عند التعمق بالأدوار وهامش التحرك، وحينما يُسلّط الضوء على طرق توزيع الأدوار وتفريغ السلطات بين المركز والهامش.. حينها نكتشف أن المواطن ــ الرعية هو آخر الهموم داخل هذه الخطاطة السياسية.
فآليات الهبة، النعمة، الحظوة، الرضا، السخط، الغضبة... كلها مفردات تحمل في طياتها شيطان ممارسة الحكم داخل مؤسسات الدولة، ليس فقط من المركز إلى الهوامش لكن حتى من خلال العلاقات بين الرؤساء والأتباع داخل كل المؤسسات والتجمعات التي تُنتج فيها القرارات.
وهكذا يبقى القانون والدستور مجرد قاعدتين هامشيتين، أدنى درجة وسمواً من علاقة السلطان والرعية التي كانت سائدة منذ قرون، وهي التي لا تزال تحكم، وتتحكم في تسيير أمور الدولة وتمسك بمراكز القرار.
تصفية الحسابات وصراعات النفوذ والمناورات على المراكز والمنافع، القاسية والدائمة، المجردة حتى من الشفقة، هي في كثير من الأحيان صراعات أشخاص ومجموعات داخل نخبة المخزن. المكائد والمؤامرات بين أطراف المربع القريب من البلاط هي السمة الأصل للوضع، وهو ما جعل المسؤوليات التي حظي بها هؤلاء يُتعامَل معها ك"غنيمة حرب"
هذا المنطق في إدارة البلاد أنتج لنا نخباً غير تابعة للمجتمع ولا تخدمه بشيء، وهمها الأول والأساسي هو الحصول على تلك "الحظوة" و"الرضا" المُخزنيين على أمل البقاء في مركز النعمة والحيلولة دون كل ما من شأنه إثارة الغضب أو السخط من المركز.
ومن نتائج هذه العلاقة هو شرخ كبير في علاقة المواطن بالنخب التي تتوسط علاقته بالسلطان، حيث لم تشكل تلك النخب سوى ائتلاف مصالح وشبكة أخطبوطية موزعة على ما هو مدر للمال والثروة.
وهذا علاوة على تصفية حسابات وصراعات النفوذ ومناورات على المراكز والمنافع، ما يجعل في كثير من الأحيان صراعات الأشخاص والمجموعات داخل نخبة المخزن قاسية ودائمة دون شفقة. وكانت المكائد والمؤامرات فيما بين أطراف المربع القريب من البلاط هي السمة الأصل للوضع، وهو ما جعل المسؤوليات التي حظي بها هؤلاء يُتعامَل معها ك"غنيمة حرب"، لا شأن ولا فضل للمواطن بها، ولا تهمه في شيء. بل أكثر من ذلك، كانت الصراعات تخرج عن النطاق المتحكَّم فيه وتفرز لنا أزمات كبيرة مهددة للبلد برمته (صراعات رجال الحسن الثاني مع رجال محمد السادس، تفجيرات الدار البيضاء 2003، صراع جناح الهمة وجناح الماجيدي، أحداث اكديم ايزيك، واليوم مع حراك الحسيمة وما رأته إحدى الصحف كسعي لتصفية حسابات سياسية بين الأمن والمخابرات من جهة والدرك من جهة ثانية...).
الهدف الاسمى للمنظومة التي تحكم ينحصر في البقاء لفائدة الجماعات والأشخاص الذين يكوِّنون مربع السلطة ضيق النطاق، وبما يمنح أقصى درجات الاغتناء ومراكمة الثروة والسلطة.. والضن على المواطن العادي يأي نصيب أو حظ منهما.