تشكّل الطور الغنائي العراقي عبر مصهر زمني طويل، أنتج أنماطاً مختلفة وعديدة تبعاً للبيئة المكانية التي أفرزته، ومرّ بتحولاتٍ هامة أشّرت على قفزات لحنية ونغمية ومفردات في ظل السياق السياسي الملازم لها، وبات في مرحلة ما معامل التأثير الأكبر على صناعة تلك الأغنية ومستثمراً لها على نحو تعبيري رمزي بالأغلب – الموقف المقموع – أو الدعائي المباشر الموالي للسلطة. وعموماً، ظلت موضوعات الأغنية العراقية حبيسة المشكلات الاجتماعية المعقدة المنطلقة من الأزمات السياسية ونمط الاستجابة الاجتماعية لها.
انفلاش سمعي
القراءة الاجتماعية للأغنية العراقية، تقف بالضرورة عند الظل العالي للهموم السياسية، وحين تنزل إلى هضبة اليومي تجدها غارقة بـ"الذاتية" التي تعيد إنتاج نفسها بتدوير تلك الهموم وابتداع المفردات المعبرة عنها. ومع تداعيات التحول الاجتماعي الموازي لكل انقلاب سياسي تفَلّش الصرامة ويتطلق الاستجابة العشوائية في ظل تغيّر الأنماط والاشتباك بين المفردة المنتجة مدينياً وتلك القادمة من الريف أو البادية. وقد بات اللحن يدور بحلقات المزاج المغلق لتلك المجتمعات وصار عنصراً هاماً في التمايز المناطقي.
وعلى مدى عقود طويلة، تشكّلت سمات سمعية خاصة لكل حلقة اجتماعية تبعاً للبيئة والنمط وإرث الهوية الثقافية. فالتنوع الديموغرافي العراقي أنتج مصفوفات سمعية ولحنية خاصة، تنطلق من أنماط المعيش واللهجات، وصولاً إلى التأثيرات البيئية المكانية. وبدت تلك المصفوفات مفروزة، كفرز شبيه بمناطقيات الولاء السياسي للسلطة، والانحدارات العائلية للحاكمين. فالمنطقة الغربية قاومت التحديث السمعي، وحافظت على نمط غناء البداوة العراقي الصحراوي، الفقير لحنياً وموسيقياً، لاعتماده على نمط بسيط من الغناء الذي يعبر عن البيئة المكانية المفتوحة مع ملامسة الأفق للسماء، وكأن الصوت ينتقل زمنياً عبر طبقات الحنجرة البدوية الغليظة، وضربات الأرجل العنيفة على الأرض الرملية ليرتفع ذلك الاحتفال الذكوري الصارخ إلى حلقة إنشاد ورقص مغلقة مصحوبة بتباهي البنادق الإفرنجية ذات الصدى المدوي. وقد حرص صدام حسين، كرأسٍ لنظام يعتمد على الشجرة العائلية المنبثقة من بيئة البداوة، على الظهور كراقص ماهر في حلقات الرقص الصحراوي، مع سيجار كوبي غليظ وبندقية "برّنو" كدلالة على "الفحولة" التي تُذكر بالهجمات البدوية على المدن. باتت هذه المشاركة تقليداً كئيباً يبثه التلفزيون الرسمي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
على مدى عقود طويلة، تشكّلت سمات سمعية خاصة لكل حلقة اجتماعية تبعاً للبيئة والنمط وإرث الهوية الثقافية. فالتنوع الديموغرافي العراقي أنتج مصفوفات سمعية ولحنية خاصة، تنطلق من أنماط المعيش واللهجات، وصولاً إلى التأثيرات البيئية المكانية
أنتج هذا النمط سمْعيات تنبع من هواجس الخيّم المتناثرة عبر البوادي، إلى نمط "الفراگيات" بوصفه صوت الناعي الذي يستدر العاطفة المتصلبة للصحراويين بشراسة نصوص النعي، التي غالباً ما تبدأ بـ"النسيب العربي" وتنتهي بالرثاء المشحون بالأسف الطاغي على الرحيل. وهذه الحلقة لم يرتفع معها أيُ صوتٍ نسويٍ، وظلت تجربتها حكراً على الصوت الذكوري الأجش.
ولربما جنوباً، تلتقي "فراگيات" المنطقة الغربية مع مواويل الحزن الطوفاني المتدفق من "چبايش" الهور (منطقة بالقرب من الناصرية عند هور الحمّار)، لكن مع فارق هائل في التنوّع اللحني والسمعي. فالنمط الحياتي الجنوبي أنتج سمْعيات متشعبة ومتداخلة، وتجريب أفضى إلى أطوار جديدة بدت وكأنها قادمة من السماء وحطّت بفوارغ القصب، وبات لكل منطقة نفوذ عشائرية ("السلف") نمطها المميّز عما يجاورها من "أسلاف"، فعُرفت تلك الأطوار مناطقياً، وبعضهاً كان شاذاً عن "المقامات" العربية المعروفة. فطور "المّخالَف" كان مزيجاً من لوعة مكبوتة وانزياح حنجرة تشربت الألم بقسوة التجربة، ولعل أبرز تمثّلات التوظيف المديني لهذا الطور لحنياً، تجربة لطيفة التونسية بأغنية "حاسب" التي لحنها الفنان كاظم الساهر. ونزولاً عند أقصى الجنوب العراقي، تجد أن التأثير الإفريقي واضحاً في تطور النمط السمعي. فالنمط الأكثر انتشاراً هناك ولا سيما عند الضفة البحرية في البصرة، ما يُعرف بـ"الخشّابة" الذي ينقسم إلى تمثلات مختلفة تنتمي إلى بيئة البحر والمهاجرين الأفارقة ورحلات البحارة الذين ينشرون القلوع ويرمون مصائرهم في البحر الهائج.
وفي المدن ثمة نمط سمعي آخر، ينحاز إلى الخفة والمرح والبناء اللحني الذي يستثمر التنوّع المقاماتي، وباتت تلك الأغنية هي التي تدخل إلى كابينة الإذاعة وتُبث إلى الجمهور الواسع بوصفها "الهوية السمعية الرسمية"، التي تعبّر عن الذائقة وينسل إليها التنوع، لكنها تظل بزة أنيقة معلقة في فيترينة يمّر عليها المارة إلى أنماطهم السمعية الخاصة.
أغنية من أجل الإله
كانت أول أغنية في الوادي الرافديني من أجل الإله، الحاكم الذي لا يلامس الأرض إلا من أجل حرب أو تثبيت سلطة، فتتفتت تحت صولجانه المدن والبشر. ولم يَنّفَكُ العراقي من زنزانة الاعتقال التاريخي الذي وُضع فيه، كان ولم يزل رهين محابس كُثُرٍ، تُستعاد بكل مرةٍ يسقط فيها إله/ حاكم، ويفض غازٍ بكارة البلاد، فيخرج الغناء من الحنجرة مشروخاً وصعباً، مُراً كـ"العَرَقْ"، ناشباً كدم قرابين الجبهات، مُسوداً كعتمة وجوه الأمهات وملاءاتهن السود.
انبثقت الأغنية العراقية الأولى من أور في الألف الثالث ق.م كأغنية دينية: "لم يأت الإله لعوني ولم يأخذ بيدي/ ولم تُشّفق عليّ آلهتي ولم تقترب مني/ كان قبريّ مفتوحاً وزينتي الأخيرة، كانت منذ ذلك الوقت جاهزة/ وحتى قبل موتي، كان قد أعدّ مرثاتي/ جميع أهل بلدي قالوا عني: إنه عُومل بشكلٍ غير عادل".
لم يَنّفَكُ العراقي من زنزانة الاعتقال التاريخي الذي وُضع فيه. كان ولم يزل رهين محابس كُثُرٍ، تُستعاد في كل مرةٍ يسقط فيها إله/ حاكم، ويفض غازٍ بكارة البلاد، فيخرج الغناء من الحنجرة مشروخاً وصعباً، مُراً كـ"العَرَقْ"، ناشباً كدم قرابين الجبهات، مُسوداً كعتمة وجوه الأمهات وملاءاتهن السود
سيقَ الشُبان العراقيون إلى الحرب مع مفتتح العقد الثمانيني للقرن المنصرم. بينما كانت مكاتب الإذاعة والتلفزيون خاوية من أي أغنية تمجد الحرب الكريهة. فالمكتبة السمعية والمرئية كانت تعج بمئات الأغنيات التي تنحاز إلى الحياة بتأثير النزعة اليسارية التي هيمنت على المجتمع إبانعقود امتدت الى سبعينات القرن الماضي.
حين أعلن البيان رقم (1) للقيادة العامة للقوات المسلحة العراقية في 22 أيلول / سبتمبر 1980، والذي وصل فجأة إلى مكتب رئيس مجمع التلفزيون العراقي في الصالحية، كانت الحيرة واسعة بطول تلك الجبهات الدامية. وعلى مدى دقائق بيان الحرب ذاك، تزاحم موظفو الأرشيف على خزانة التسجيلات، بحثاً عن أغنية تعبوية تنقل المجتمع إلى العسكرة، وتجلدهم بـ"الوطنية"، فكان نشيد "يا تراب الوطن" الذي كتبه الشيخ بشارة الخوري في العام 1926 كنشيد وطني لبناني وضع ألحانه الأخوة فليفل، أول نشيد تعبوي بثه التلفزيون العراقي إلى الجمهور. وبعد بضعة أسابيع أخليّت مكاتب أرشيف الإذاعة والتلفزيون من الأغنيات الوجدانية، لتتراصف عليها الأغنيات الجديدة المنتجة لتقديس الحرب! ووفقاً لنقاد ومؤرخين موسيقيين وملحنين عراقيين، أُنتجت نحو 2000 أغنية وأوبريت تعبوية خلال 23 عاماً بدءاً من العام 1980 حتى العام 2003، بمتوسط إنتاج 100 أغنية سنوياً، وَرَد بها اسم "صدام" مرة واحد على الأقل. لكن هذا الرقم لا يعبر عن الترسانة الذي أنتجتها الماكنة التعبوية التي عملت تحت مسميات مختلفة ومتعددة، وأبرزها "مديرية الأغنية الجماهيرية".
لعب الملحن فاروق هلال دوراً هاماً في إدارة إنتاج الأغنية الثمانينية، عبر إطلاق البرنامج الموسمي "أصوات شابة"، وهو بالأصل إعادة تدوير لبرنامج "ركن الهواة" الذي أطلقه سعاد الهرمزي أوائل ستينيات القرن العشرين وتوقف، ليعيد إصداره بنسخة إذاعية جديدة المخرج التلفزيوني الراحل كمال عاكف باسم "مواهب شابة"، والذي كان مسؤولاً عن المواهب التي شكّلت الأغنية الثمانينية لحناً وتأليفاً وأداء، وشارك ملحنون آخرون كداوود القيسي ومحمد جواد أموري، وجعفر الخفاف في انتاج أغنية الحرب.
انتقل جيل موهوب من الملحنين البارعين وكتبة الأغنية الوجدانية من عقد الشمس الساطعة السبعيني إلى عقد غبار السواتر وزفير الكاكي في الثمانينيات، كطالب القره غولي وزامل سعيد فتاح وآخرون، ومعهم انتقلت نخبة الغناء العراقي وقتذاك. كانت الفكرة الأساسية أن يُصار إلى إنتاج "أغنية حرب" وتصديرها على أنها "أغنية وطنية" تمجد "الرئيس القائد" ولا تنعى أيّ جندي يسقط منسياً على طول 1300 كم من "الحدود الملتهبة".
أُنتجت نحو 2000 أغنية وأوبريت تعبوية خلال 23 عاماً، بدءاً من العام 1980 حتى العام 2003، بمتوسط 100 أغنية سنوياً، وَرَد بها اسم "صدام" مرة واحد على الأقل. لكن هذا الرقم لا يعبِّر عن الترسانة الذي أنتجتها الماكينة التعبوية التي عملت تحت مسميات مختلفة ومتعددة، وأبرزها "مديرية الأغنية الجماهيرية"
بدت "أغنية الحرب" مشحونة بالروح الاحتفالية والإيقاعات السريعة المفحوصة على عجل، وبات التكرار اللحني يكشف عن التوجه الجديد للأغنية الثمانينية. وسرعان ما باتت "أغنية الحرب" هي معيار نجاح "الأغنية الوجدانية". فهذا الانتقال السريع من اللحن المسبوك بصرامة القواعد الموسيقية والانتقاء الحذر للمفردات والمقدمة الطويلة للأغنية، إلى جملة لحنية سريعة تمهد لدخول النص المُغنى الذي غادر نمط المفردة السبعينية الدافئة، والمُعبِّرة بعمق، والقادمة بالغالب من اللهجات الفراتية والجنوبية.. إلى المفردة السطحية اليومية المتداولة التي تخدم غرض النظام في التعبئة. لذا كانت نقلة موجعة من النص المعبر عن نمط تفكير المجتمع إلى نمط تفكير السلطة.
زفير "الكاكي"
باتت التجربة السبعينية في الغناء تصارع الاعتلال اللحني الذي فرضته الحرب، لكنها في النهاية فشلت بالصمود، مع حالة الانكسار العميقة والشرخ الاجتماعي المتأسس على ثنائية الرعب والحرب، وعقب قمع أقوى التيارات السياسية الاجتماعية ممثلة بـ"اليسار" و"الحزب الشيوعي العراقي" وتحطيم الاستقرار المديني، وقتل الروح الحية للحظة الوئام الخاطفة التي جسدتها خدعة "الجبهة الوطنية" بعد أن وفرت حيزاً لحراك ثقافي وفني مغاير لثقافة وسلوك الحزب الحاكم. لذا كان انكفاءً مريراً وسحابة ضياع وموجة تغريب حملت بالكثير من الأسماء الموسيقية إلى الهروب خارج الحدود، أو البقاء تحت سطوة الثنائية المخيفة (الرعب والحرب)، لينتجوا ما يمكن تسميته بـ"أغنية زفير الكاكي"، التي غلب عليها اللحن الكئيب مع قتامة النظرة إلى المستقبل، بموضوعات الأسى على الفراق وضياع الأحبة، والخيانة، والانكسار، وانعدام الثقة، والخوف الدائم، وصولاً إلى لحظة الاستسلام. وبدا كل ذلك وكأنه رثاء للمرحلة، ومحاولة تجريب التنفيس عن الرفض، والتعبير عن الهواجس الكامنة المقموعة. واستطاع كتبة الأغاني والملحنون المرور بتلك الأغنيات بسلام من تحت مشرط الرقيب الذي يطلق مجساته بضراوة تُجاه أي انتقادٍ أو تثبيط للتعبئة. كان الكتبة والملحنون والمغنون يطلقون أغنياتهم الوجدانية بروح معذبة تعبر عن الفضاء المشحون بالكآبة والترقب الذي غرق به العراقيون، فيقدمون الأغنيات للجنة فحص النصوص في الإذاعة والتلفزيون مع "عرض" لفكرة الأغنية وغايتها. وفي الغالب فإن قصصاً تُبتكر لإقناع لجنة الرقابة بجدوى الإنتاج. ترافقت تلك الأغنيات مع كل تدفق للقتلى من الجبهة، وكل هزيمة يُمنى بها الجيش على السواتر، فيتلقف العراقيون تلك الأغنيات بفعل الصدمة ليعبروا بها عن ذواتهم الكسيرة.
تنبه النظام إلى شيوع أغنية الانكسار الاجتماعي، والتي باتت تنافس "أغنية الحرب" الصاخبة المليئة بالزغاريد والتصفيق ومفردات "النصر". كان تنافساً معقداً على الانتشار والتوظيف. لم تكن ثمة أغنيات وجدانية احتفالية يسعى إليها "جمهور" الحرب للترويح في النوادي أو حفلات الأعراس أو على شاشة التلفزيون الوحيدة، فاستعادوا أغنياتهم المناطقية، أو تلك التي أنتجت سبعينياً بمزاج اليسار، أو الأغنيات الستينية والخمسينية ذات الأصول المدينية بلهجتها البغدادية المحببة.. فأعاد النظام تدوير برامج اكتشاف الهواة ليضخ دماءً جديدة، وأصواتاً شابة تنتمي إلى حقبة سلطة النظام، وابتكرت منصات اكتشاف مواهب لتغطية الحاجة إلى تجديد المناخ السمعي العراقي بعد أن خصّبت الحرب مزاجاً هيستيرياً من الصخب التعبوي، كمهرجانات الأغنية الشبابية التي رعتها وزارة الثقافة والإعلام والاتحاد العام لطلبة وشباب العراق ودور الثقافة الجماهيرية والمسرح العسكري ومديرية التوجيه السياسي في وزارة الدفاع، فضلاً عن فرق التلفزيون، فيما أسندت إحدى مهام الاكتشاف إلى الملحن فاروق هلال ببرنامج "أصوات شابة" الذي انبثقت منه مواهب رائعة ككاظم الساهر وكريم محمد وكريم حسين ومحمود أنور وأحمد نعمة ورياض أحمد وعلي جوده ووحيد علي.. لكن غالبية تلك الأسماء لم تطل مسيرتهم الفنية على الرغم من النجاح الكبير الذي حققوه في الأغنية الأولى التي أذاعها التلفزيون العراقي، والتي أعطت أملاً ببروز أغنية عاطفية خارج صندوق التعبئة الحربي، وسرعان ما عادت أغنيتهم إلى مزاج الأسى.
في العام الأخير من الحرب مع إيران (1988) انبثق صوت جنوبي أرعب السلطة، بمرثية مطولة من المواويل وكأنها مهداة إلى جميع القتلى الشبان الذين فقدوا أرواحهم وأحلامهم وأعضائهم على السواتر المُغبرة. المرثية تُشبه الأغنية السومرية الأولى التي أهديت إلى الإله، فيما تنطق بالاشمئزاز منه وتقريعه على العبثية التي يصوغ بها المصائر
وجربت السلطة ما يمكن تسميته بـ"أغنية المسرح" التي تضم عدداً كبيراً جداً من المغنين والمطربين ومجاميع كورال على خشبة واحدة لتأدية أغاني حماسية، شارك بها مطربون وفرق إنشاد عربية.
نفسياً، كانت أغنية الأسى الهادئة أشبه بانعكاس للأغنية الحماسية الصاخبة، وكأن حالة الهياج التعبوي التي سيطرت على الألحان، هي مزاج قسري يجب أن يواجه بمزاج يُخفِض من قرع الطبول العالية التي تحجب حالة مجتمع يعيش لوعة الموت ومشاهد الفقدان.
في العام الأخير من الحرب (1988) انبثق صوت جنوبي أرعب السلطة، بمرثية مطولة من المواويل وكأنها مهداة إلى جميع القتلى الشبان الذين فقدوا أرواحهم وأحلامهم وأعضائهم على السواتر المُغبرة. المرثية تُشبه الأغنية السومرية الأولى التي أهديت إلى الإله، فيما تنطق بالاشمئزاز منه وتقريعه على العبثية التي يصوغ بها المصائر: "أريد ان أتغنى برب الحكمة، الإله الفطن/ الذي ينير الليل وينشر النهار باتساع/... رحوم، يرحم حتى الموتى/ إلا أن هذا الإله لا يعير عبده أهمية، فيبتعد ويتركه فريسة للعذاب". صدح صوت كريم منصور على مدى 60 دقيقة، كصوت قادم من مجاهل القصب و"إله السومريين الملثم في حقول الرز"، يحمل عتباً تاريخياً دامياً للسلطة، وإثارة للمشاعر الكامنة التي صمتت طيلة ثمانِ أعوام على الموت المجاني، فتحوّلت مرثية "يا محمد" إلى رسالة احتجاج انفجرت بوجه كل مهرجانات السلطة بـ"النصر" والأغنيات التعبوية التي سيق بها العراقيون إلى حتوفهم التقليدية في الجبهات، وبيان ختامي جابه جميع بيانات "النصر". مرثية أدانت الحرب والسلطة بضمير عراقي ينزف بحرقة: "تذكر من بجينا حداك أنا وأمي، دورنا على البيبان بالديرة لكيناها مكابر والحدرها جنود يا محمد"/ (جئنا نفتش على أبواب المدينة وجدناها مقابر لكل الجنود يا محمد)، وبات الكاسيت مظهراً من مظاهر التعبير عن رفض السلطة.
كتب المرثية الشاعر الجنوبي عبدالاله المنشد، الذي ظل شيوعياً متخفياً في مجاهل قصبات مدينته العمارة، ووضع الألحان كريم منصور، لتكون مرثية "محمد" الجندي العراقي الذي فرّ من الحرب ورفض أن يساق مجدداً إلى الجبهات، وحين حاصرته قوى السلطة بمنزله المتواضع في أفقر أحياء العاصمة، رفض الاستسلام وأطلق الرصاص على عناصر النظام، لينتحر بعدها في حمّام المنزل، فيُسحل في الحي وتُرمى جثته بإحدى الساحات ثلاثة أيام متواصلة كوثيقة رعب ترسلها السلطة إلى رافضيها. وحين انتشر الكاسيت الذي اختتم به عقد الثمانينات الدامي، كان زفيراً حاراً من رئات معطلة بالحرب و"الكاكي".