في مقالة مهمة نشرتها الغارديان، يكتب الأكاديمي الفرنسي أوليفيه روا، مفككاً الكثير من التصورات السائدة حول الجهاديين من أصول غربية وعلاقتهم بالإسلام وتنظيم داعش. يعيد إبراز أطروحته القائلة بأن هؤلاء لا يمثلون "إسلاماً متطرفاً، بل أسلمة للتطرف". بمعنى أن ما يجمعهم بحركات إرهابية أخرى، سواء فاشية أو "ماوية" كالخمير الحمر.. هو أكثر مما يجمعهم بهموم المسلمين العاديين الذين يزعمون القتال والشهادة من أجلهم. تبدو العقيدة الإسلامية هنا ظاهرة ثانوية عاجزة عن تقديم تفسير كافٍ لسلوك هؤلاء، أي الجيل الجديد من الجهاديين في أوروبا والغرب، فمعظمهم هم من الذين تحولوا إلى الإسلام، أو ممن تذكروا أنهم مسلمون بشكل متأخر، وأغلبهم كان حتى وقت قريب من رواد البارات والنوادي الليلية ولديه في الغالب ماضٍ إجرامي.
يشير روا إلى أن هذا الجيل، حتى في خطاباته، لا يُعنى كثيراً بالقضايا التي شغلت الأجيال السابقة من الجهاديين الشرق أوسطيين، كالقضية الفلسطينية. وحتى مع انحدارهم من أصول عربية، فإن معظمهم لم يعد أبداً إلى البلد الأم لأهاليهم وبالتالي ليست لديهم رابطة وجدانية حقيقية مع البلدان المصنفة كمسلمة، وإن نزوعهم للموت ليس له أي علاقة بسياسات الشرق الأوسط. إن ثقافة الشباب المتمرد ــ يجادل روا ــ هي مدخل أفضل لفهم الجيل الجديد من الجهاديين الذين لا ينتظم سلوكهم في إطار النضال من أجل قضية محددة بقدر ما يعكس نزعة عدمية لا تختلف كثيراً في طبيعتها ورسالتها عن المجانين أو المهووسين الذين يقتحمون المدارس في الولايات المتحدة ويطلقون النار على الطلبة قبل أن يقتلوا أنفسهم أو يسمحوا للشرطة بقتلهم. المشترك بين هؤلاء والجهاديين الجدد هو الإعلان المسبق عبر الفيديو والسوشيال ميديا عن قرارهم بالموت الذي يقتل معهم أكبر عدد من الآخرين، بما يشبه الاحتفال الطقوسي غير القابل للتفسير على أساس وجود غاية محددة ومدروسة أبعد من رغبة الموت بذاتها: "العنف هنا ليس وسيلة، بل هو الغاية" يقول روا.
داعش العربي
لا يفوت روا التذكير بأنه يتحدث عن عينة درسها لمئة من الجهاديين الغربيين، وعن أن تفسيره لا يستبعد عناصر أخرى، بعضها يتعلق بالاختلاف بين البيئات الغربية والشرق أوسطية، وإنْ كان يرى أن هنالك العديد من العناصر المشتركة التي يمكن تعميمها على جيل الجهاديين الجدد في كل مكان، بالمقارنة مع جهاديي أفغانستان وبن لادن والظواهري، حيث كان يبدو للعنف، حتى مع إفراطه، غايات سياسية معينة (طرد السوفييت من أفغانستان، إخراج الأمريكيين من الجزيرة العربية، طرد الأمريكيين من العراق...إلخ). وهو قد يبدو هذا سبباً آخراً لولع الجهاديين الجدد بداعش لا بالقاعدة، فالأخيرة تنتمي في جذورها إلى الجيل الأفغاني من الجهاديين ومعظم قادتها هم من ذلك الجيل، أمّا داعش، التي ولدت بداية من رحم الجيل الأصغر من القاعديين (كأبي مصعب الزرقاوي)، فقد تحوّلت فيما بعد إلى تنظيم منشق عن القاعدة يتميّز بميله المفرط إلى العنف الاستعراضي المنفلت والذي كان سبباً لتشكي الظواهري نفسه.
مع ذلك، فإن تفسير روا للجهادية الجديدة في الغرب يعجز عن استيعاب حالة داعش كميليشيا مسلحة تقاتل في العراق وسوريا. فحتى لو كانت غاية العنف الذي مارسه داعش استعراضية، هدفها إثارة الرهبة في نفوس الخصوم (كما يدعي التنظيم في بياناته)، أو إغراء المترددين ممن لديهم نوازع عنفية مكبوتة، فإنه بحكم هذه الأهداف ينطوي على رسالة مقصودة يراد إيصالها. لنتذكر هنا "شاكر وهيب"، عضو التنظيم (من مواليد 1986) الذي اشتهر في فيديو التحقيق مع سواق شاحنات سوريين يعبرون إلى الحدود العراقية، حينما طرح عليهم أسئلة لمعرفة ما إذا كانوا مسلمين سنّة أم لا، وحين تيقّن أنهم ليسوا كذلك، قام بقتلهم بدم بارد. حمل المشهد رسالة انتقام ضد نظام الأسد، ومحاولة استحصال شرعية للتنظيم بوصفه ذراعاً للمسلمين السنّة.
لا يمكن هنا تجاهل أن داعش نما، بل وأسهم في تعميق بيئة من الانقسام الطائفي والكراهيات المتبادلة والانتقام العشوائي في العراق وسوريا. وظهوره في هذين البلدين كميليشيا منظمة - في نظر البعض - وقوة ردع للقوى الشيعية، ومنتقم ل"أهل السنة"، يشير إلى ظاهرة ليست غريبة كثيراً على البلدان التي تشهد حالة تفكك أو ضعف للدولة مصحوباً بانقسامات إثنية ودينية، أو بتسييس متصاعد لتلك الانقسامات، بحيث بدا داعش كنسخة شبيهة بجماعة "أبو سياف" التي انشقت عن جبهة تحرير مورو الفلبينية (لا غرابة هنا أن يعلن أبو سياف البيعة للتنظيم لاحقاً)، حيث تختلط فكرة الدفاع عن الهوية الاثنية - الدينية ضد نظام تسيطر عليه عصبية مغايرة، مع الفكرة الجهادية بوصفها نهجاً للتعبئة الدينية وكذلك مصدراً للحصول على الدعم من المتعاطفين في بقاع العالم الإسلامي الأخرى. وهاتين الفكرتين لم تكونا منسجمتين طوال الوقت، فالدفاع عن الهوية الطائفية (في حالة داعش) يعني التركيز على التماهي مع السكان السنّة بوصفهم مصدراً للتجنيد والدعم والحماية، لكن التركيز على الفكرة الجهادية يعني إضعاف محلية التنظيم والتأكيد على عالميته.
العبور الزمني نحو السلف والقرن الأول، يجسد تلك الحاجة إلى إلغاء وطمس كل ما بين ذلك القرن المتخيل والحاضر، أي إلغاء الحياة بتشعباتها وتناقضاتها وتعقيداتها، لصالح فكرة شديدة التبسيط يمكنها بحكم بساطتها تلك أن تصبح ملاذاً لنوازع مختلفة – كثير منها لا علاقة له بالدين.
وكانت لحظة احتلال التنظيم للموصل فاصلة في تحديد هويته، ومن ثم مآلاته، حين صار عليه الاختيار بين تغليب "سنيته" العراقية من خلال التحالف مع القوى السنية المتمردة الأخرى التي كانت تتحدث عن ثورة ضد حكومة المالكي، أو تغليب بُعده الجهادي – العالمي بما يعنيه من طمر للانتماء المحلي لغالبية أعضائه (ولزعيمه)، ومن امكانية للتحالف مع قوى سنية غير جهادية. ربما كانت سيطرة التنظيم على الرقة قبل شهور من سيطرته على الموصل، قد أسهمت في الدفع باتجاه التشديد على الهوية الجهادية.
"سوريا ليست للسوريين والعراق ليس للعراقيين"، كانت تلك العبارة الواردة في خطبة لزعيم التنظيم نشرت نهاية حزيران / يونيو 2014، إعلاناً صريحاً لخيار التنظيم التماهي مع إسلاميته العالمية لا سنيته المحلية. وهنا تحديداً يمكننا البدء بفهم جانبٍ من علاقة داعش بالجهاديين في أوروبا والغرب وأماكن أخرى من العالم. ففي طرحه بقوة لفكرة الخلافة التي ستحدث زلزالاً جيوسياساً في العالم، وبدعوته لاستخدام كل أشكال العنف في كل مكان ومهرها بـ"علامته التجارية"، قام داعش بتحويل نفسه إلى "ظاهرة"، نوع من الكيان "الملغّز" المندفع من الهامش إلى صدارة نشرات الأخبار ومانشيتات الصحف، وطابعه الملغَّز هذا، المصحوب بدراما فائقة، هو الذي داعب أذهان الكثيرين من المبتدئين في إسلامهم، بسيطي التفكير، من المولعين بأفلام العنف الأمريكية (كما يقول روا عن عينته من الجهاديين الغربيين)، وهم يبحثون عن ميثولوجيا تؤطر نزوعهم للموت.
الميلشيا والشقاوات والانتماء
وهنا يمكن التجسير بين ما قدّمه داعش المعولم لجيل الجهاديين الجدد في الغرب، وما قدمه لمقاتليه المحليين الموجودون على أرض "الخلافة". فإن استبعدنا النخبة المتبنية للعقيدة الجهادية عن وعي ومعرفة تامة بمحتواها ومرتكزاتها، فإن داعش، مثله مثل الكثير من الميليشيات المحلية في العراق وسوريا وبلدان أخرى، يجذب الكثير من العاطلين والباحثين عن مصادر للاستقواء وكسب المنزلة. لا تختلف هنا ظاهرة شاكر وهيب الاستعراضية عن ظاهرة عزرائيل، المقاتل مفتول العضلات والبطل الاستعراضي في كتائب الإمام علي الشيعية. فالميلشيات، اجتماعياً، تنعش الثقافة العصبوية - الشقاواتية لأنها توفر فرصاً لاستحصال المكانة عبر ممارسة القوة أو استعراضها، وهي أيضاً تشبع شيئاً من حاجة الانتماء. تمتلك الميلشيات فرصاً أكبر للتجنيد، ليس فقط في حالات ضعف الدولة والصراع العنيف، بل وأيضاً في ظروف عدم الاستقرار والتحوّل الاجتماعي، حيث تضعف أشكال الانتماءات التضامنية السابقة كالعشيرة وروابط القرابة الواسعة، تحديداً بسبب الهجرة أو التحولات الاجتماعية والثقافية الناتجة عن توسع المدن وخمول البيئات الطرَفية.
يمكن هنا وضع مسعى داعش لتكريس ثقافة التمرد على تلك الجذور بوصفه تعبيراً عن السعي لإحلال ثقافته بديلاً عن القبيلة أو التضامنات المكانية، وهي صفة يمكن العثور عليها في معظم التنظيمات الشمولية العنيفة التي تميل إلى تدمير وتخريب الشواخص الثقافية التي تنطوي على مصادر انتماء مغايرة لسردياتها. هكذا مثلاً يمكن أن نفهم تدمير الآثار الإسلامية وما قبل الإسلامية في العراق وسوريا. وهذه إحدى النقاط التي يلفت روا الانتباه إليها حين يقارن مثلاً الجيل السابق من الجهاديين الإسلاميين بالجيل الحالي (مثلاً لم يكن موضوع تدمير بيرسبوليس أو تخت جمشيد مطروحاً أبداً في سياق صعود النخبة الإسلامية الثورية في إيران).
إن الفيديوات التي تظهر مقاتلاً داعشياً وهو ينحر أباه تعبر بكثافة رمزية عن ثقافة داعش والجهاديات الجديدة من حيث إنها تنطوي على نزعة التملص من أي انتماءات أو علاقات تُناقض أو تُنافس العصبية الجديدة، بما يشبه الطقس التطهيري للتحرّر من سلطة الأسلاف، ولكنه يعبر وربما على نحو أكبر، عن ضمور تلك السلطة التي تمتع بها الأسلاف أصلاً بحيث صار بالإمكان قتلها رمزياً. ولهذا السبب، تختلق داعش أسلافاً مغايرين عن أولئك الحقيقيين الذين عاشوا في العقود والقرون الماضية. فهذا العبور الزمني نحو السلف والقرن الأول، يجسد تلك الحاجة إلى إلغاء وطمس كل ما بين ذلك القرن المتخيل والحاضر، أي إلغاء الحياة بتشعباتها وتناقضاتها وتعقيداتها، لصالح فكرة شديدة التبسيط يمكنها بحكم بساطتها تلك أن تصبح ملاذاً لنوازع مختلفة – كثير منها لا علاقة له بالدين.