الرحيل: دموع، وقصص كثيرة لم تروَ بعد

ها أنا أعود إلى عالمي، الكلية والمكتبة وكتبي وبرامجي المفضلة و.. بيتي، وأتركهم في عالمهم المختلف، ما بين راض وساخط وفاقد للأمل في أي تحسن في معيشته، ومن يرى حدود العالم في حدود قريته.
2017-06-01

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
رسم غرافيتي عن الصعيد

مرّ الأسبوعان سريعاً وحان موعد الرحيل. كان من الصعب أن أنتصر على دموعي أمام هذا الفيض من المحبة الذي شعرتُ به في لحظات الوداع المؤثرة تلك. تسير بنا العربة التي كانت تنتظرنا أمام البيت، في طريق غير مستو، مليء بالمطبّات. شيئاً فشيئاً يزداد ابتعادنا عن مودّعينا الواقفين على باب الدار، وعن أهل القرية. يصيرون مادياً خلف ظهري ولكنهم معنوياً أمام ناظريّ. ومن العربة إلى القطار بعد انتظار لم يطل كثيراً على المحطة.

على طريقة أفلام السينما تراودني رغبة شديدة في القفز من القطار والعودة إلى القرية مرة أخرى، وهو الشعور الذي استمر معي لعدة أيام. أعود لآتي بمزيد من القصص، ولألتقي مرة أخرى بتلك الوجوه المبتسمة من تلميذات وتلاميذ المدرسة الابتدائية، وفتيات المعهد الأزهري الرائعات، وفتيات وسيدات متعطشات لأن يحكين، وغيرهم ممن غمروني بمودتهم. هذه الأجندة الرمادية الصغيرة التي خصصتها لتدوين الملاحظات والقصص، وكانت بصحبتي طوال الوقت، لم يمتلئ منها سوى جزء صغير، كان يمكن أن تملأها القصص عن آخرها، وتفيض.

لم يكن اختيار هذه القرية موضوعيّاً، بل فقط لأني أنتمي إليها عائليّاً، أي لأسباب شخصية محضة. فهي مثلاً ليست من القرى الأكثر فقراً، أو المحرومة من التعليم الأساسي، وليست الأسوأ على مستوى الخدمات الأساسية، على سوئها بطبيعة الحال. ولكنها على كل حال تنقل لنا صورة لجزء من الصعيد الواسع، القابع على الهامش، مع غيره من الأقاليم خارج المركز. وإلى جانب المشكلات التي ينفرد بها الصعيد والأقاليم المماثلة، كمحافظات مهملة ومهمّشة، ثمة مشكلات مشتركة بين الصعيد والمدن الكبرى، وأخرى توجد فيه بدرجة أكثر تفاقماً (مثل مشكلات انقطاع المياه أو عدم صلاحيتها، وتدهور التعليم والخدمات الطبية، والفقر، وفقر الأطفال بوجه خاص). فمستوى جودة الحياة في مصر بوجه عام والخدمات المتاحة للمواطنين يسير باستمرار نحو الأسوأ.

ها أنا أعود إلى عالمي، الكلية والمكتبة وكتبي وبرامجي المفضلة و.. بيتي، وأتركهم في عالمهم المختلف، ما بين راض وساخط وفاقد للأمل في أي تحسن في معيشته، ومن يرى حدود العالم في حدود قريته. لم أحكِ عن قصة الجبل. ذلك الجبل الذي تراه من الحقول والمناطق الفضاء، يبدو لك من بعيد محيطاً بالقرية من أكثر من جهة. كنا نسمعهم ونحن صغار يقولون عنه إنه هو الذي يزن الكرة الأرضية بأكملها! وقد سمعت المقولة نفسها في هذه الزيارة أيضاً! على الرغم من الفضائيات والإنترنت، وكل تلك السنوات.

تقسم لي سيدة كبيرة من نساء القرية أن "بلدنا أحسن من بلدكم"، وأن لا شيء فيها سيئاً فكل الأمور على ما يرام. بينما توصيني فتاة تعرف جذور عائلتي بأن أقرأ الفاتحة كل يوم على روح جدي (لأبي)، الذي غادر القرية وهو شاب واستوطن الإسكندرية، لأنه بذلك انتشلني وأنقذني. ربما يثير وجود امرئ من عالم مختلف، يسمع ويحكي، نوعاً من الاطمئنان أو الأمل في أي تغيير، لعل ذلك ما دفع تلك الفتاة لتسأل في لوم: كيف تتركيننا وترحلين؟ هل يمكنني أن أفعل شيئاً أكثر من الكتابة؟ أما مدرّس المدرسة الابتدائية فيقول لي بنبرة يائسة بعد أن يحكي لي عن أوضاع مدرسته "محدش بيسمع يا أبلة". وفتاة أخرى تؤكد بعد أن تروي لي قصتها "هاتكتبي ومفيش حاجة هاتتغيِّر".

إن التغيير الذي ينشده هؤلاء، ويستحقونه، لن تأتي به "مشروعات" دعائية تُطلَق في مؤتمرات تنقلها الشاشات على الهواء وتُفرد لها في الصحف صفحات بكاملها، دون أن يجد لها الناس أي تأثير في حياتهم الصعبة. إنه يتحقق فقط بإرادة صادقة وعمل "حقيقي" على الأرض، وهذا ما يغيب عن بلادنا منذ أمد بعيد.


وسوم: العدد 244

مقالات من الصعيد

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...