عقد كثير من القضاة في مصر آمالهم على الرئيس السيسي لانتزاع فتيل الأزمة، برفض التصديق على قانون الهيئات القضائية الذي سيسمح لرئيس الجمهورية ابتداءاً من أول تموز/ يوليو المقبل، مع السنة القضائية الجديدة، بأن يتحكم بمنصات محاكم القضاء العليا باختياره لرؤساء أربع جهات وهيئات قضائية من بين ثلاثة أعضاء ترشحهم كل جهة أو هيئة، وذلك خلافاً لقاعدة الأقدمية المعمول بها والتي تمنح رئاسة الهيئات القضائية لأكبر أعضائها سناً، ويقتصر دور رئيس الجمهورية فيها على التصديق على اختيار أعضاء الجهة القضائية لرئيسها.
المؤسسات الدستورية "عبد المأمور"
ولكن السيسي خيّب رجاء القضاة، وقام بالتصديق على القانون ونشره في الجريدة الرسمية بعد أقل من 24 ساعة من تمرير مجلس النواب له، معلنا للجميع أن البرلمان المصري ما هو إلا "عبد المأمور"، شأن ما يجب أن تكون عليه جميع مؤسسات البلاد بما فيها القضاء في الأيام المقبلة، فضلاً عن أن حديث الدستور عن استقلال السلطة القضائية ما هو إلا شعارات مكانها الأدراج التي تحفظ فيها كتيبات الدستور.. وأن القضاة، شأن الجهات والهيئات الرقابية والصحافيين ومؤخراً شيخ الأزهر، رئيسهم جميعاً هو الرئيس السيسي. ولم يُحسب حساب لغضب القضاة الذين هددوا بالإضراب عن العمل، بل وحتى بتدويل اعتراضهم على القانون.. وقد أرسل القانون للجريدة الرسمية، التي أصدرته في اليوم التالي، في 28-04، وإلى جانبه تعديلات قوانين الطوارئ، والإجراءات الجنائية، والكيانات الإرهابية، والطعن أمام محكمة النقض التي أقرها البرلمان معه في الجلسة نفسها، وبالطريقة نفسها: قوانين أعدها نواب في "ائتلاف دعم مصر"، وتم تمريرها خلال ساعات.
حصانة مطلقة للرئيس.. من مواد الدستور
ما اشتهر بخصوص هذا القانون هو أثره الأبسط، أي منع المستشارين يحيى دكروري وأنس علي عبد الله عمارة من رئاسة مجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى. الأول أصدر حكما بمصرية جزيرتي تيران وصنافير وبطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والثاني ألغى كثير من أحكام الإعدام التي أصدرتها محاكم الجنايات في مصر استناداً لتحريات جهاز الأمن الوطني. لكن، وبصدور القانون، ضمن الرئيس السيسي ومن سيجلس بعده على مقعد رئيس الجمهورية الحماية، بل والحصانة، من مواد الدستور، التي تضمنت في المادة 159 منها تحديد آلية محاكمة رئيس الجمهورية إذا ما ارتكب جريمة انتهاك مواد الدستور (والتي اعتبرها الدستور أشد خطورة من جريمة الخيانة العظمى)، وخاصة أنه في ضوء تلك المادة، "يحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، وبعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، ويتولى الادعاء أمامها النائب العام. وإذا قام بأحدهم مانع، حل محله من يليه في الأقدمية. وأحكام المحكمة نهائية غير قابلة للطعن".
ما اشتهر بخصوص هذا القانون هو أثره الأبسط، أي منع المستشارين يحيى دكروري وأنس علي عبد الله عمارة من رئاسة مجلس الدولة ومجلس القضاء الأعلى. الأول أصدر حكما بمصرية جزيرتي تيران وصنافير وبطلان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والثاني ألغى كثيراً من أحكام الإعدام التي أصدرتها محاكم الجنايات في مصر استناداً لتحريات جهاز الأمن الوطني
ومن ثَمّ، فإذا كفل القانون لرئيس الجمهورية اختيار من يراه مناسبا لترؤس المجلس الأعلى للقضاء، فلا مجال لممارسة تلك المحكمة لعملها (هذا إذا شُكِّلت أصلا). فضلاً عن ذلك، فإن رئيس محكمة النقض الذي سيختاره الرئيس بموجب هذا القانون، إلى جانب رئيس مجلس الدولة، هو المعني وفقاً للمادة 189 من الدستور باختيار النائب العام من بين نوابه، كما باختيار ــ هو ورئيس مجلس الدولة ــ أعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات وفقاً للمادة 209 من الدستور أيضاً.
وهذا يمثل منهجية ترسيخ ليس لانتهاك مواد الدستور، وإنما لإعدامها. وهو تثبيت لمفهوم "أحكام الضرورة" الذي يبدو أنها ستلاحقنا خلال العقود المقبلة. فلا داعي للحديث عن رغبة السلطة الحالية بكل أدواتها في تعديل مواد الدستور التي وجدوها غير قابلة للتطبيق، لأن الحل الذي وجده البرلمان أيسر، هو في تجاهل مواد الدستور، واتباع مبادئ ــ ربما فوق دستورية! ــ تقوم على طاعة الرئيس وترجمة أوامره في قوانين.
التسليم بسياسة الأمر الواقع؟
القضاة اعتبروا أن التصديق على القانون جنباً إلى جنب مع تعديلات قانون الطوارئ، يحمل دلالات ورسائل مباشرة لهم، وهو ما ظهر بوضوح في تصريحات النائب الأول لرئيس محكمة النقض، المستشار عادل الشوربجي الذي استبق موافقة السيسي على القانون بالتصريح للصحف بأنه في حال صدور قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية فإن القضاة ملتزمون به، مبرراً: "الرئيس السيسي هو الأقدر الآن على اتخاذ القرار فيما يخص مشروع القانون، برفضه وإعادته للبرلمان أو بإصداره".. أما عقب إصدار القانون، فسارعت الجهات والهيئات القضائية (مجلس القضاء الأعلى – هيئة النيابة الإدارية – هيئة قضايا الدولة) إلى إعلان موقفها الذي بدا مزايداً على الرئيس وقانونه، وعلى يمينه! وفيما عدا مجلس الدولة الذي انعقدت الجمعية العمومية لقضاته في 13 أيار/ مايو الفائت وأعلنت تمسكها بقاعدة الأقدمية المتعارف عليها في تعيين رؤوساء الجهات القضائية منذ عشرات السنوات، وترشيحها للمستشار يحيى الدكروري منفرداً لرئاسة مجلس الدولة ومنصة المحكمة الإدارية العليا به التي تفصل في مظالم المواطنين ضد قرارات رئيس الجمهورية المتعلقة بقضايا الحقوق والحريات.. فيما عدا ذلك، امتثلت الجهات والهيئات القضائية الثلاثة للقانون، وأرسلت للسيسي ترشيحات يختار من بينها من يراه مناسباً لرئاسة كل جهة منها.
ولكن على الرغم من ذلك، يبقى أن غالبية القضاة لم يقولوا بعد كلمتهم النهائية، ومن المبكر الحديث عن ردود أفعالهم تجاه هذا القانون، وخاصة أن قرارات الهيئات القضائية الثلاثة المؤيدة للقانون ولسيطرة رئيس الجمهورية على منصات القضاة لا تعبر عن جموع القضاة، وإنما عن الأشخاص الذين يديرون تلك الجهات والهيئات. وقد صدر قرارها من المجلس الأعلى لكل جهة، وهو يضم أكبر 7 مستشارين سناً في كل منها.. وعلى العكس من ذلك، انعقدت الجمعية العمومية لمجلس الدولة وضمت قرابة 500 مستشار.
بصدور القانون، ضَمن الرئيس السيسي ومن سيجلس بعده على مقعد رئاسة الجمهورية، الحماية، بل والحصانة من مواد الدستور، التي تضمنت في المادة 159 منها تحديد آلية محاكمة رئيس الجمهورية إذا ما ارتكب جريمة انتهاك مواد الدستور (والتي اعتبرها الدستور أشد خطورة من جريمة الخيانة العظمى)
فهل يواجه القضاة تغوّل السلطة التنفيذية بمعاونة السلطة التشريعية على السلطة القضائية وغيرها من مؤسسات الدولة التي يجب أن تمارس عملها في تسيير شؤون المواطنين بشكل مستقل عن أوامر الرئاسة؟ وإلاّ فما جدوى وجود مؤسسات للدولة طالما أن قرارها بيد الرئيس وحده. ووفقاً لما أعلنوه قبل التصديق على القانون في آخر شهر نيسان/أبريل الماضي، قرر القضاة العاديين التجمع في ناديهم بوسط القاهرة، الذي خرجت منه مظاهرات استقلال القضاء في وجه مبارك عام 2005، للاعتراض على محاولات السيسي للنيل من استقلال القضاء المصري، والتنكيل بقاضيين بارزين لمخالفتهما لاتجاهاته. كما كان لقضاة محكمة النقض (المحكمة الأعلى في مصر بعد المحكمة الدستورية العليا) اجتماع في دار القضاء العالي، في وسط القاهرة أيضاً، لاختيار أقدم مستشار بالمحكمة رئيساً لها، وفقاً لقاعدة الأقدمية التي تعارف عليها القضاة في اختيار رؤوسائهم خلال السنوات الماضية. كما سبق وقرر قضاة مجلس الدولة، الذين يفصلون في الدعاوى التي تقام من المواطنين ضد قرارات السلطة التنفيذية، ممثلة برئيس الجمهورية وحكومته، إنهاء ندب جميع مستشاريه الذين يقدمون الدعم القانوني لمجلس النواب، كمستشارين قانونيين، إلى جانب التلويح بمقاطعة الإشراف على الانتخابات، وهو ما يخلق أزمة في كيفية إدارة شؤون الانتخابات الرئاسية المقبلة، إضافة لقرارهم الأهم بتعليق العمل بمحاكم مجلس الدولة وأقسامه المختلفة.
تلك القرارات كانت قد اتخذت قبل إصدار القانون، وكانت تعول على انحياز السيسي للسلطة القضائية، ربما حركها الطمع في تصدر المشهد.. وانتهى الأمر ببعض الجمعيات العمومية يشكر فيها القضاة الرئيس المصري على حكمته وحرصه على استقلال القضاء.. وهكذا أعلن رئيس نادي مستشاري مجلس الدولة عبر القنوات الفضائية "موت العدالة في مصر"، كما أعلن رئيس نادي قضاة مصر "خسارة الدولة المصرية استقلال قضائها".. في الوقت نفسه الذي أكدا فيه ضمنياً على تجميد كافة قراراتهم التي أعلنا عنها قبل مصادقة السيسي على إصدار القانون، وامتثال جميع القضاة بتنفيذها، تسليماً بسياسة الأمر الواقع التي فرضها البرلمان وشرعنها السيسي بتصديقه على القانون.