الحج.. موكب "الفريضة الباهظة" يستأذن بالرحيل

"من استطاع إليه سبيلا" تدفع الأضعف في هذه الاستطاعة إلى توفير كلفته من مكافآت نهاية الخدمة أو من بيع جزء من ميراث محدود بأرض زراعية أو بعض المصوغات الذهبية..
2017-05-26

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
حجاج مصريون (من الانترنت)

في بلد الكرنفالات وعشق الطقوس والاغراق بالتفاصيل، تأخذ كثير من الصور الآن في الشحوب، بسبب موجات غلاء لا تتوقف، ووتيرة حياة شديدة الإرهاق والطحن لكل شيء يأتي  في طريقها، بدءاً من الحفاظ على عادات الطعام والشراب وصولاً إلى أداء فريضة رئيسية ك"الحج".

  لم يكن لقب "حاج وحاجة" هو مجرد تكريم لكل من تقدم بهم العمر، بل كان أغلبهم بالفعل إما قد قام بهذه الرحلة التي شغفته كثيراً أو في طريقه إليها. يشهد على ذلك رسومات الطائرة والكعبة والحجر الأسود ودعوات المغفرة والقبول على أغلب البيوت في الريف والأحياء في المدن.

 صورة بالفعل أخذت في الشحوب، فاختفت الجداريات بألوانها الزاهية، اختفى موكب السيارات المُزيّن بالرايات البيضاء صوب رحلة التوديع والاستقبال، وبالتأكيد لم تعد هناك هدايا من الحجاز، فالغلاء قد نال "الفريضة" نفسها قبل الحواشي المحيطة بها.

 وليس الغلاء وحده، ولكن التفاوت الكبير في مستوى الخدمات المقدمة للحجاج، إلى حد اعتبار البعض السفر ضمن القافلة الرسمية للدولة نوعاً من المهانة والعذاب على الرغم من المبلغ الباهظ الذي يدفعه المسافرون، ومن ثم أصبح التبتل بكلمات الذكر على الألسنة هو المخرج لمواساة بعضهم البعض باستكمال نص الآية القرآنية "من استطاع إليه سبيلاً".

 فمن إذاً لا زال يستطيع، وكم تكلفه هذه الاستطاعة؟ وإلى أي حد هؤلاء سواسية في سفرهم؟ إلى أي حد يضمنون رحلة روحانية كريمة؟ 

 من يصل إلى الكعبة، وكيف؟
 

تحْصل مصر سنوياً، كغيرها من الدول، على حصة من "تأشيرات الحج" التي ـ كما هو معلن ـ يتم تحديدها وفق عدد السكان في كل من الدول ذات الأغلبية المسلمة. وفي هذا العام، وصل عدد التأشيرات إلى 85 ألف تذهب إلى أربع فئات من الحج، هي حج القرعة وهي الشريحة الأوسع التي تقوم وزارة الداخلية المصرية بتنظيمها حين يقدم المواطن أو المواطنة أوراقه وينتظر إعلان نتيجة القرعة ليستعد بعد ذلك لاستكمال الإجراءات ودفع مبلغ قدره 42 ألف جنيه يتم تسديدها على ثلاث دفعات متقاربة زمنياً. ويقدّر عدد حجاج القرعة لهذا العام بـ 50 ألف حاج.
 

وصل عدد التأشيرات المخصصة لمصر هذا العام إلى 85 ألف تذهب إلى أربع فئات، أولها وأوسعها حج القرعة عن طريق وزارة الداخلية، ويقدّر عدد حجيجه هذا العام بـ 50 ألف، وتكلف رحلة الواحد منهم 42 ألف جنيه.

ثم حج الجمعيات الأهلية، وهي حصة تحصل عليها الجمعيات العاملة في مصر ضمن تأشيرات قافلة الدولة الرسمية، وينضم حجاجها في السفر إلى حجاج القرعة ويخضعون للشروط والظروف ذاتها. الشريحة الثالثة هي الحج الاقتصادي حيث تحصل شركات السياحة على حصة محددة من التأشيرات، وتخضع هي الأخرى لعملية قرعة على أسماء حجاجها، وتصل تكلفة سفر الحاج الواحد هذا العام إلى ما لا يقل عن 70 ألف جنيه. الشريحة الرابعة والأخيرة هي "الحج الفاخر" التابع لشركات السياحة الكبرى، والذي لا يزيد عن يوم واحد للسفر بالطائرة، ومنه إلى جبل عرفة ثم العودة في اليوم التالي وذلك بتكلفة تصل إلى 120 ألف جنيه.

رحلة السعي الحثيث نحو رجم الغلاء
 

انتهت قبل أيام إجراءات الإعلان عن الفائزين بكل من تلك الشرائح، وبدأت الأسر المصرية تستعد فيما بينها لدفع الأموال المستحقة، التي تأتي غالباً من مكافآت نهاية الخدمة أو بيع جزء من ميراث محدود بأرض زراعية أو بعض المصوغات الذهبية. وقد يتم تأجيل السفر عاماً وراء عام لأن تلك المخصصات المالية ستذهب أولاً لتجهيز الابنة للزواج أو شراء شقة سكنية للابن أو مساعدته على السفر للخارج من أجل العمل.

 سيدة مصرية أرسلت شكواها إلى أحد البرامج الدينية تسأل ما حكم المسلم الذي يملك من المال ما يمكّنه من الحج ولكنه إذا فعل لن يبقى لديه أي عائد مالي لمساعدة أولاده بحياتهم الصعبة؟ جاءها الرد من الشيخ المُعمم على نحو شديد العمومية، واكتفى بإنهاء قوله بترديد الآية القرآنية نفسها: "من استطاع إليه سبيلاً".

(من الانترنت)

الأمر لا يقتصر فقط على ارتفاع تكلفة السفر التي من المفترض أن تشمل سعر تذكرة السفر ذهاباً وإياباً وتكلفة الإقامة لمدة تصل إلى أربعة أسابيع بأحد الفنادق الصغيرة أو دور الإقامة المخصصة للحجيج، والتنقلات. فالروتين المصري المعشش بكل المصالح الحكومية والإهمال الإداري الذي قد يصل إلى حد وصفه بـ"الفساد" يتخذ طريقه هو الآخر نحو أراضي الحجاز وسط الحجيج.
هذا الروتين أو الإهمال أو الفساد يضع المسافر وأهله أمام تحدٍ آخر وهو قدرته على احتمال مشاق السفر والقلق من أن يحصل بالفعل على رحلة كريمة، ومستوى لائق في الحد الأدنى في المسكن والمأكل والانتقال بما يلائم كبار السن ممن يمثلون الشريحة العظمى من الحجيج.
 

الفوضى والمحاسيب
 

"هذه هي الحقيقة التي يجب أن يعلمها الشعب المصري. وما لمسناه نحن عند زيارة أصدقائنا وأقاربنا في حج القرعة. مستوى خيمة عرفة مثل مستوى خيمة عمال التراحيل في معسكرات العمل في مصر". هكذا بدأ خبير في تنظيم رحلات الحج حديثه عن حجم المعاناة التي يتعرّض لها حجاج القرعة والجمعيات في مصر، وهم الذين يمثلون الشريحة الأوسع، وكأنها رحلة للعذاب في هذا السن.
 

الفوضى سببها انعدام التنظيم إضافة إلى "المحسوبية"، فالداخلية تحجز بعض الفنادق ذات مستوى الثلاثة نجوم والقريبة من الحرم لـ"المحاسيب" فقط..

وأضاف: "هي فوضى، فالحاج يجد تكدس في السكن إلى جانب بُعده وتدني مستواه، وانعدام الخدمات وتكدس في الخيام في المشاعر وشح في وسائل النقل، وهو ما يدفع للغضب ويعكر صفو هذه الأوقات التي ربما لا تتكرر مرة أخرى في العمر. السبب هو انعدام التنظيم إضافة إلى "المحسوبية"، فالداخلية تحجز بعض الفنادق ذات مستوى الثلاثة نجوم والقريبة من الحرم ل"المحاسيب" فقط، أما باقي الحجاج فيُحجز لهم في قمقم وداخل الحواري والشوارع الضيقة والبعيدة عن الحرم، فيتوه الحاج عند خروجه وذهابه للحرم أو عند عودته".
حديث تؤكده الحوادث التي تتكرر سنوياً في خيام وأماكن إقامة الحجاج، سواء باشتعال النار أو الاختناق، وجميعها تشير إلى التكدس وانعدام التنظيم، وهذا على الرغم مما يؤكده كثير من خبراء تلك المهنة الممثلين في غرفة صناعة السياحة الدينية، من أن هناك حلول علمية لتنظيم إداري أفضل، وأن مصر ليست وحدها التي تواجه مسؤولية تنظيم قافلة حجيج كبيرة وممتدة.
إلا أن الملاحظات شملت أيضاً ارتفاع بالتكلفة وصل إلى 40 في المئة مقارنة بالعامين الماضيين، بسبب تدهور قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، فتضاعف سعر تذاكر الطيران. هذا إضافة الى قيام المملكة السعودية بزيادة قيمة ما يسمّى بـ"ضريبة الخدمات".
الشريحة الثانية المُسماة بالاقتصادية ـ وتتبع تلك الشركات والغرفة الصناعية المنظمة لها ـ لا تخلو هي الأخرى من شكاوى ارتفاع الأسعار والتباين في مستوى الفنادق أو تنظيم الانتقال لتأدية الشعائر. وتبقى  المشكلة الأكبر هي في عدم وجود آلية رقابة حقيقة كافية على تلك الشركات أو وسيلة فاعلة لمتابعة الشكاوى التي يتقدم بها الحجاج عند عودتهم.
وعلى كل ذلك، فالباقي أن الحاج يسافر في ملابسه البيضاء طيبة الملمح، تصاحبه ابتسامات ودموع أهله. وهم ينتظرون عودته، ويتمنون دعوته التي غالباً ما تكون "الستر في الدنيا والآخرة" حسب التعبير الشهير لدى المصريين.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...