قبل أن يبدأ الرئيس الفليبيني رودريجو دوتيرتي جولته الخليجية الشهر الماضي، التي شملت السعودية والبحرين وقطر، كان يُتوقع (حسب التصريحات الرسمية) أن تتمكن الزيارة من اجتذاب استثمارات خليجية تصل إلى 500 مليار دولار. إلا أن التراجع الملحوظ في إيرادات الدول الخليجية في السنوات الأخيرة، بسبب انخفاض أسعار النفط، حصر حصيلة جولته الخليجية في وعود باستثمارات محدودة في المستقبل، وفي اتفاقيات لضبط شروط الهجرة وعقود عمل المهاجرين.
"أمن الخليج من أمن الفليبين"
في منتصف رحلته الخليجية، وقبل مغادرته البحرين إلى قطر، أعلن الزائر الفليبيني إن "أمن الخليج هو مصلحة قومية فليبنية". وأوضح أنه ناقش مع ملك البحرين مقترحين حول أشكال الدعم العسكري والأمني التي يمكن لبلاده تقديمها لمساعدة دول الخليج العربي في التصدي للأخطار التي تتهددها. يتضمن المقترح الأول تواجداً عسكرياً فليبينياً مباشراً بهدف "حماية المصالح الوطنية الفليبينية وحماية أرواح الفليبينيين المقيمين في المنطقة". أما المقترح الثاني فيتضمن "إرسال قوات عسكرية بحجم كتيبة أو لواء أو فرقة" للعمل تحت إمرة القيادة العسكرية البحرينية. وما عليكم ــ قال الرئيس الفليبيني لملك البحرين ــ إلا أن تطلبوا وسنُلبي الطلب. ("آبديت فليبين" 17/4/2017).
لم يكن الرئيس الفليبيني في وارد الاستهانة بكرامة مضيفيه الذين تضم قواتهم المسلحة والأمنية آلاف الجنود والضباط من الأردن والباكستان، تطبيقاً لاتفاقيات إعارة رسمية، أو بعقود فردية أقرّتها حكومتا البلديْن. ولم يرَ المسؤولون ولا الإعلام الرسمي في المنطقة في العرْض الفليبيني مساساً بالكرامة الوطنية أو استخفافاً بقدرة الجيوش الخليجية على حماية أمن بلدانها (تزيد مخصصات وزارات الدفاع الخليجية في السنة الواحدة على إجمالي الميزانية السنوية للدولة في الفليبين). ولم يتبين حتى الآن موقف ملك البحرين من العرْض الفليبيني بإرسال قوات لحمايته. بل لعله وجد فيه مصدر فخر لتأكيده أهمية منطقة الخليج العربي بما فيها البحرين.. فما أكثر الراغبين في حمايتها.
"أمن الخليج من أمن بريطانيا"
قبل الرئيس الفليبيني بأربعة أشهر، زارت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي البحرين للمشاركة في مؤتمر القمة السابع والثلاثين لبلدان مجلس التعاون الخليجي. شددت ماي على إنها تعتبر "أمن الخليج من أمن بريطانيا" ("العربية" 7/12/2016)، ولذلك فإن بريطانيا مصممة على "تعميق وتوطيد العلاقات الاستراتيجية مع دول الخليج والتعاون المشترك لمواجهة إيران في سوريا واليمن والخليج".
على هامش مشاركتها في القمة الخليجية، تفقدت تيريزا ماي القاعدة العسكرية البريطانية التي تكفّل ملك البحرين بتكاليف إنشائها (35 مليون دولار)، وقام ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز بافتتاحها في 5/11/2016. وفي خطابها أمام أفراد القوات البريطانية، كرّرت ماي التزامها بأمن الخليج وب"تعزيز التعاون في مجالات الأمن والدفاع للمحافظة على أمن مواطنينا في الداخل والخارج". قُوبلت تصريحات رئيسة الوزراء البريطانية بارتياح ملحوظ عكسته البيانات الرسمية والمبالغة في التغطية الإعلامية للزيارة. فعلى سبيل المثال، اعتبر أمين عام مجلس التعاون الخليجي أن حضور ماي قمة المنامة هو "إحدى ثمار الحوار الاستراتيجي المشترك" بين بلادها ودول الخليج. إحدى مبررات ذلك الارتياح هو تحاشي المسؤولة البريطانية التطرّق لأي من الإشارات المعتادة في مجال حقوق الإنسان، بما فيها حقوق المرأة والعمال المهاجرين. ولهذا ربما بالغ "محللون استراتيجيون" بتأكيد إن تصريحات المسؤولة البريطانية وتعهداتها تدشن مرحلة جديدة تكفِّر بريطانيا فيها عن خطيئة انسحابها من الخليج في 1971.
"أمن الخليج من أمن مصر"
سبق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زميليْه الفليبيني والبريطانية. فالسيسي أعلن قبل انتخابه رئيساً عن "التزام مصر بحماية الأمن القومي العربي والخليجي سريعاً إذا استدعت الحاجة" ("العربية" 20/5/2014). وهو أشار إلى إن وصول القوات العسكرية المصرية إلى الخليج لن يتطلب أكثر من "مسافة السكة". وبعد تنصيبه رئيساً، توالت تأكيدات السيسي على أن "أمن منطقة الخليج العربي خط أحمر وجزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري". كما توالت تحذيراته من إن المحاولات الهادفة لتهميش الدور المصري في النظام الإقليمي الجديد قد ولّدت حروباً أهلية ونزاعات طائفية ومذهبية.
لم يفهم الرئيسان الفليبيني والمصري ورئيسة الوزراء البريطانية حين عرضوا على شيوخ الخليج استعدادهم لحماية أمن المنطقة إن الأمر ليس بيد هؤلاء الشيوخ. فالولايات المتحدة تعتبر أمن الخليج قضية أمريكية خالصة
تباينت المواقف الخليجية تجاه تصريحات السيسي. فثمة من اعتبر أنها لم تكن أكثر من عبارات مجاملة تعكس امتنان السيسي لحكام الخليج الذين دعموا حركته الانقلابية مالياً وسياسياً. وثمة من كان يأمل في أنها ستشكل محاولة جريئة للتغلب على انحسار دور مصر الإقليمي، على الرغم من أن القوى الدولية الفاعلة في الأمن الإقليمي لمنطقة الخليج لن تسمح بتلك المحاولة. وثمة من يرى أن قدرات مصر العسكرية والاقتصادية، وهشاشة وضعها الأمني الداخلي، كلها لا تؤهلها لتحريك قواتها كلما شعر حاكمٌ خليجي بالخطر. في كل الأحوال، لم تتم ترجمة العرض في إجراءات ملموسة حتى بعد إعلان الملك السعودي في25/3/2015 الحرب في اليمن لمواجهة "تهديدات يتعرّض لها أمن السعودية". فلم يحرك السيسي قواته البرية لدخول الأراضي اليمنية كما توقع المخطط العسكري السعودي، بل هو اكتفى بتقديم وحدات بحرية مصرية للمشاركة في الحصار المفروض على السواحل اليمنية. لم تتفهم السعودية أسباب عجز السيسي عن وضع سياسة "مسافة السكة" موضع التنفيذ، فعبرت عن غضبها منه بمختلف الوسائل بما فيها إعلانها في 10/10/2016 التوقف عن إمداد مصر بالنفط والغاز ومنتجاتهما.
أمن الخليج "مسؤولية" الولايات المتحدة الأمريكية
لم يفهم الرئيسان الفليبيني والمصري ورئيسة الوزراء البريطانية حين عرضوا على شيوخ الخليج استعدادهم لحماية أمن المنطقة إن الأمر ليس بيد هؤلاء الشيوخ. فمنذ 1971، حين آلت "مسؤولية حماية الخليج" إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد انسحاب بريطانيا منه، احتكر الأميركيون تعريف "أمن الخليج" وتحديد المخاطر والتهديدات التي يتعرّض لها وسبل مواجهتها. ولقد تفاوتت أشكال توفير تلك الحماية وتعددت الأدوات التي استخدمتها الولايات المتحدة لحماية مصالحها. ولهذا فلن يكون مستغرباً أن تتيح واشنطن للسيسي أو لدويرتي أن يلعبا دوراً ما في "حماية أمن الخليج" يشبه الدور الذي سمحت به لشاه إيران طيلة سبعينيات القرن الماضي. أو قد تتيح للفليبين ومصر أن يلعبا الدور الذي تقوم به في الوقت الحاضر كلٌ من الأردن والباكستان.
ارتفع بشكل كبير ما تنفقه جميع بلدان الخليج العربي على استيراد الأسلحة والخدمات والمعدات العسكرية من البلدان الغربية. إلا إن ذلك الإنفاق لم يكن معتمداً على استراتيجيات وطنية لبناء القوة الذاتية بقدر ما كان جزءاً مما عُرف بعمليات إعادة تدوير البترودولار إلى خزائن المصارف الغربية.
وفي كل الأحوال لن يتم ذلك إلا حسب شروط الولايات المتحدة الأمريكية وضمن استراتيجيتها. فهي لم تتخلَ طيلة أكثر من أربعة عقود ونصف العقد عن دورها المباشر في "حفظ أمن واستقرار المنطقة". بل إنها لم تتخلَ عن تلك "المسؤولية" حتى حين كان بإمكانها استخدام حلفاء محليين مؤهلين للقيام بجزء من المهمة. فهي تعتبر أمن الخليج قضية أمريكية خالصة. ولهذا ازدادت في العقود الأخيرة الجهود الأمريكية لتثبيت وجودها العسكري المباشر في عدد من القواعد والمنشئات العسكرية في جميع بلدان المنطقة.
إتاوة الحماية الأمريكية
يشكل استمرار العلاقة غير المتكافئة بين الولايات المتحدة وبلدان مجلس التعاون أساس توصيفٍ شائعٍ بين الباحثين في شؤون الخليج يعتبر أن الإنفاق العسكري الخليجي هو "إتاوة سياسية" تدفعها العوائل الحاكمة مقابل حمايتها وضمان استمرار حكمها. لقد تضاعف عدة مرات ما تنفقه جميع بلدان الخليج العربي على استيراد الأسلحة والخدمات والمعدات العسكرية من البلدان الغربية، إلا إن ذلك الإنفاق لم يكن معتمداً على استراتيجيات وطنية لبناء القوة الذاتية بقدر ما كان جزءاً مما عُرف بعمليات إعادة تدوير البترودولار إلى خزائن المصارف الغربية. فعلى الرغم من ارتفاع إنفاقها العسكري وتكديسها للسلاح والمعدات العسكرية الحديثة، تبقى دول الخليج عالة على الولايات المتحدة الأمريكية ورهن إرادتها. وقد أثبت غزو الكويت وما تلاه من نزاعات عسكرية معلنة ومضمرة أن الهدر غير العقلاني لثروات دول الخليج منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن لم يجعلها قادرة على توفير مستويات معقولة للدفاع عن أمنها القومي وحماية حدودها وسيادتها. ولقد أعاد عجز السعودية وحلفائها عن حسم الحرب اليمنية تأكيد إن هذا الوهن سيستمر لعقودٍ أخرى.
ترامب وأمن الخليج
لم تتضح حتى الآن ملامح "مبدأ ترامب" فيما يتعلق بأمن الخليج، إلا أن إعلانه التزامه بشعار "الولايات المتحدة أولاً"، وكذلك تصريحاته حول سياسته الخارجية عندما كان مرشحاً تعطي بعض الإشارات. فطيلة حملته الانتخابية، كان ترامب يؤكد على حق بلاده في أن "تحصل على تعويض عما تنفقه من الدول التي توفر لها الحماية وخاصة الدول التي تملك موارد ضخمة مثل السعودية..". استخف كثيرون بتلك التصريحات ووصفها "محللون استراتيجيون" بالحمق. إلا أن ذلك الاستخفاف لم يستمر بعد تنصيب ترامب رئيساً وبعد أن أقرّ الكونغرس الأميركي قانون "جاستا" (الذي سيتيح للمواطنين الأمريكيين مقاضاة السعودية والحصول منها على تعويضات بسبب مزاعم علاقة أفراد من العائلة الحاكمة بتمويل المجموعة التي نفذت اعتداءات نيويورك في 11/9/2001). ليس مستبعداً أن يتم التوصل إلى تسويات قانونية تدفع السعودية بموجبها مليارات الدولار في شكل تعويضات لأهالي ضحايا الحادي عشر من سبتمبر. وليس مستبعداً أن تجد السعودية وشريكاتها في مجلس التعاون أنها ملزمة باستيراد المزيد من الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية. وليس من المستبعد أن يتم تحويل أجزاء معتبرة من صناديق الثروة السيادية الخليجية للاستثمار طويل المدى في السوق الأميركية. وفوق ذلك لن يكون مستبعداً أيضاً أن يحاول الرئيس الأميركي وإدارته إيجاد مجالات إضافية لابتزاز العوائل الحاكمة في الخليج مقابل حمايتها. فترامب هو الذي أنذر السعودية إنها "لن تبقى لفترة طويلة بدون الحماية الأمريكية" ("سي إن إن" بالعربية 7/7/2016).