تعلو في السنوات الأخيرة أصوات من أجل إحقاق حقوق البدو الفلسطينيين في النقب داخل أراضي 1948، والبدو في مناطق "ج" في الضفّة الغربيّة، باعتبارهم "مجموعات أصليّة" يحق لها الحصول على حكمٍ ذاتي ثقافي وتربوي وفق إعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصليّة المُعتمد بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2007.
إن هذا الإعلان هو نتاج سنوات طويلة من نضال مجموعات كثيرة من السكان الأصليين في شتى دول العالم مثل أستراليا، الولايات المتحدة، كندا، نيوزيلندا وغيرها من الدول الاستعمارية. يتناول الإعلان حقوق الإنسان بالنسبة للشعوب الأصليّة، وبما في ذلك حقها في التحرر "من أي نوع من أنواع التمييز في ممارسة حقوقهم، ولا سيما التمييز استناداً إلى منشئهم الأصلي أو هويّتهم الأصليّة"، و"في ممارسة حقها في تقرير المصير، الحق في الاستقلال الذاتي أو الحكم الذاتي في المسائل المتصلة بشؤونها الداخليّة والمحليّة، وكذلك في سبل ووسائل تمويل مهام الحكم الذاتي التي تضطلع بها"، و"في الحفاظ على مؤسساتها السياسيّة والقانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة المتميّزة وتعزيزها، مع احتفاظها بحقها في المشاركة الكاملة، إذا اختارت ذلك، في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للدولة". وينص الإعلان أيضاً على وجوب الاعتراف بحقها "في الأراضي والأقاليم والموارد التي امتلكتها أو شغلتها بصفة تقليدية" والامتناع عن نقلها قسرياً.
من هم الأصليّون؟
لا يشمل الإعلان تعريفاً للشعوب الأصليّة، ولكن جهاز الأمم المتحدة طور مفهوماً "حديثاً" للمصطلح استناداً إلى التعريف الذاتي على مستوى الأفراد والمجموعة للشعوب الأصليّة، استمرارية تاريخية وسابقة للمجتمعات المستعمَرة، صلة قويّة مع الأرض والموارد الطبيعيّة المحيطة، جهاز اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ متميّز، تميز في اللغة والثقافة والعقائد. والمتعارف عليه أنّ الشعوب الأصليّة هي التي تملك لغات ومعرفة ومعتقدات متميّزة، وتملك قيمة فريدة من المعرفة وممارسات الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، ولديها علاقة خاصة بأراضيها التقليدية، ولأراضي أجدادهم أهمية جوهرية بالنسبة لاستمرار كيانهم وثقافتهم كمجموعة. والشعوب الأصليّة تمتلك مفاهيمها الخاصة بالتنمية، على أساس مبادئها والقيم التقليديّة، والرؤى، والاحتياجات والأولويات الخاصة بها. لذلك تسعى الشعوب الأصليّة للحصول على الاعتراف بهوياتها وطرق حياتها والحق في الأراضي والأقاليم والموارد الطبيعية التقليدية. وعليه يدعو الإعلان (في المادة 8) الدول إلى وضع آليات فعّالة لمنع "أي عمل يهدف أو يؤدي إلى حرمان الشعوب الأصليّة من سلامتها بوصفها شعوباً متميزة، أو من قيمها الثقافية أو هوياتها الإثنية. أي عمل يهدف أو يؤدي إلى نزع ملكية أراضيها أو أقاليمها أو مواردها، أي شكل من أشكال نقل السكان القسري، يهدف أو يؤدي إلى انتهاك أو تقويض أي حق من حقوقهم، أي شكل من أشكال الاستيعاب أو الإدماج القسري، أي دعاية موجهة ضدها تهدف إلى تشجيع التمييز العرقي أو الإثني أو التحريض عليه."
قضيّة التهجير القسري الآني للبدو في النقب وفي المنطقة "ج" ليست "مشكلة بدويّة" وإنما فلسطينية، مراحلها المفصلية تمثلت بالنكبة والهزيمة عام 1967، وما تبعها من سياسات الدولة اليهودية استناداً إلى مبادئها الصهيونية
إذاً، الإعلان يعمل في إطار سياسي غير خلافي وهو وجود الدولة المستعمِرة ولزوم التعامل معها كمعطى غير قابل للتحدي بتاتاً. وهكذا تنص المادة 38 للإعلان أنه "على الدول أن تتخذ، بالتشاور والتعاون مع الشعوب الأصليّة، التدابير الملائمة، بما فيها التدابير التشريعية، لتحقيق الغايات المنشودة في هذا الإعلان".
"مشكلة بدويّة"؟
لا شك في أن الإعلان أضاف إطاراً قانونياً هاماً لإحقاق حقوق الإنسان في سياق الشعوب الأصليّة وصراعاتها على مدار أجيال في الدول المستعمرة. لكنّ استخدام هذا الإطار في السياق الفلسطيني على شقي الخط الأخضر على حد سواء، يستوجب وقفة معمقة حول التبعات السياسية على مستوى الشعب الفلسطيني وتاريخه منذ النكبة وحتى الاحتلال عام 1967.
نبدأ من أن قضيّة التهجير القسري الآني للبدو في النقب وفي المنطقة "ج" ليست "مشكلة بدويّة" وإنما فلسطينية، مراحلها المفصلية تمثلت بالنكبة والهزيمة عام 1967، وما تبعها من سياسات الدولة اليهودية استناداً إلى مبادئها الصهيونية، وهي استمرار لما حلّ بالشعب الفلسطيني منذ النكبة والتشرذم القانونيّ الذي حلّ به، فيخضع فلسطينيّو الداخل إلى القوانين الإسرائيلية، بينما يخضع فلسطينيّو الضفّة وغزّة للقانون الدولي الإنساني باعتبارهم تحت احتلال عسكريّ، ويخضع اللاجئون إلى قرارات الأمم المتحدة بالأساس وبعض أطر القانون الدولي.
استعراض قضائيّ
هناك علاقة متأصّلة بين الممارسات الجيوسياسيّة الإسرائيليّة والتشكيلات الاستعماريّة الاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة من جهة واحدة، والممارسات الإسرائيليّة ضد الفلسطينيين المواطنين في الداخل. ويفشل التمييز المفاهيميّ في خطاب "الأقليّات الأصليّة" أن يفهم هذه العلاقة. ليس ذلك فقط، إنما يخطئ هذا التمييز المفاهيميّ في قراءة الديناميات القانونيّة والسياسيّة المؤسِسَة التي لا تزال تشكّل علاقات القوى الاستعماريّة بين إسرائيل وجميع شرائح الشعب الفلسطينيّ. بكلمات أخرى، حتّى لو استُخدمت مفاهيم "الأقليّة الأصليّة" من باب البراغماتيّة، فإنّ الديناميات القانونيّة القائمة لا تسمح بأي استخدام ذي منفعة لصالح الفلسطينيين.
يلجأ الفلسطينيون، سواء كانوا مواطنين في إسرائيل أم "سكاناً محميين" تحت الاحتلال، إلى الجهاز القضائي الإسرائيلي في محاولة للدفاع عن بيوتهم وأراضيهم ضد التهجير القسري، وترفض المحاكم توجّهاتهم بشكل لا يقبل التأويل، لكونهم فلسطينيين. مثلًا: في خمسينيات القرن الماضي، أصدرت المحكمة العليا قراراً بإعادة أهالي قرية اقرث، الذين هُجّروا إلى القُرى الفلسطينيّة المجاورة في شمال فلسطين، إلى بيوتهم. بعد أن رفضت الحكومة الإسرائيليّة تنفيذ قرار المحكمة التمس أبناء القرية مجدداً، إلا أن المحكمة في العام 2003 ناقضت قرارها وأيّدت قرار الحكومة بمنعهم من العودة على أساس "اعتبارات سياسيّة" عبّر عنها رئيس الوزراء آنذاك آرييل شارون بشهادةٍ خطية قُدّمت للمحكمة. المحكمة، عملياً، رفضت أن ترى بأبناء القرية "مواطني دولة" رغم أنهم يحملون المواطنة، وتعاملت معهم بالمنظور القومي الحاد: الفلسطينيّ فلسطينيّ، أكان لاجئاً خارج البلاد، مُحتلاً أو مواطناً فيها، ولا يُمكن بأي من الأشكال منحه أي حقٍ بالعودة. هذا مثال لوضعيّة مدنيّة شكليّة لمجموعة "مواطنين" لا توفّر لهم أي حماية لحقوقهم الدستوريّة.
في مثال آخر نقرأ قرار المحكمة العليا في ملف قرية أم الحيران التي أقيمت في عام 1956 بأمر من الحاكم العسكري للنقب. وهي موطن لحوالي 400 مواطن من أبناء قبيلة أبو القيعان (بعد هدم وتهجير قسم كبير من بيوت القرية) التي تم تشريدها قسراً عدة مرات خلال أحداث النكبة، قبل نقلها إلى موقعها الحالي. عملاً بخطط الحكومة الإسرائيليّة لإنشاء بلدة يهودية في المنطقة، شرعت الدولة في إجراءات قانونية لطرد القرية بأكملها منذ عام 2004، بادعاء أن سكّانها "منتهكي حدود، يقيمون بصورة غير شرعية على أراضي الدولة". وفي أيار/مايو 2015، وافقت المحكمة العليا على طرد أهالي القرية لغرض صريح يتمثل في بناء بلدة حيران اليهودية الجديدة على أنقاضها، واعترفت في حكمها بأن نية الدولة هي هدم القرية البدوية التي أقيمت بأوامر الحاكم العسكري في منطقة النقب آنذاك، من أجل إقامة بلدة "بأغلبية يهودية". في قرارها دفاعاً عن "حق" الدولة في تشريد المواطنين البدو باعتبارهم عدواً "للمصلحة العامة". أي أنها، بكلمات أخرى، لا تشمل المواطنين البدو الذين يعيشون في أم الحيران ضمن تعريفها ل"الجمهور العام"، خوفاً من المساس بالتجانس اليهودي المنشود في بلدة "حيران" المزمع إقامتها.
بشكل مشابه ترفض المحكمة العليا التدخل في قرارات هدم وإخلاء قرى بدوية في المنطقة "ج" بهدف الاستيطان. وبالتالي فإن حالة المواطنة أو حالة الاحتلال العسكريّ لا تختلف أمام المحكمة، إنما تتحد في قراراتها التي تنتهك حقوقنا بسبب هويّتنا الوطنيّة ليس إلا، ومن أجل الحفاظ على مصالح الدولة اليهودية الاستعمارية الاستيطانية.
تشويه الوعي وتبديد الصراع التاريخيّ
يشير تاريخ الجغرافيا القانونية لبلدان مستعمرة إلى وجود صلة حتمية بين "سيادة القانون" والنظام الاستعماري. وبما أن السيادة الجغرافية تقع في صلب النظم الاستعمارية الاستيطانية، فإن عمل القانون وتكتيكات القضاء تكون مركب جوهري في تشكيلات السلطة الجغرافية والاستيطان. هكذا، يُكرّس القانون كأداة استعماريّة من الدرجة الأولى تعمل لتعميق علاقة القوى بين المستعمِر والمستعمَر. وبالتالي التعامل مع القانون له حتماً إسقاطات سياسيّة على مستهلكيه المستعمَرين، حيث إن محاولة الفصل بين "القانونيّ" و"السياسيّ" يشوّه تلقائياً فهم معنى ودور القانون في السياق الاستعماريّ، ودوره في بلورة وعي وإدراك المستعمَرين لوضعهم السياسيّ، وصياغة تصوّرهم لأنفسهم.
.. هكذا، نتحول من شعب مشرد بجزء منه ومستعمَر في وطنه بجزئه الآخر، إلى أقليات أصلانيّة تنشق وتبتلع في خطاب حقوقي منفصل، بمعزل عن السياق السياسي والتاريخي لقضيتنا وبتغييب له، ومن خلال تشويه للواقع القضائي والخطاب السياسي السائد.
من خلال الصياغة القانونيّة لهذا الإدراك السياسيّ في الواقع الفلسطيني، فإن أي محاولة لوضع البدو تحت تعريفات أكثر أو أقل دقةً، مثل تعريفهم تحت مصطلح "سكّان أصليين"، سوف تؤدي إلى شرذمة قانونيّة أخرى لها إسقاطاتها على مستوى الخطاب السياسي وتنعكس بالتالي من خلال تشويه وعينا وإدراكنا لتاريخنا وحاضرنا كشعب واحد – من شعب مستعمَر وتحت احتلال، شرد بغالبيته، وأراضيه سلبت في عمليّة تهجير وسرقة أراضي هائلة ومنهجيّة، نصبح مجموعات تحاول أن "تُثبت" صلة تاريخيّة لبعض فئاتها بالوطن – بالتالي، تقوّض مطالبنا لحل عادل للقضيّة، وحقنا في الممارسة السياسية الأممية. هكذا، نتحول من شعب مشرد بجزء منه ومستعمَر في وطنه بجزئه الآخر إلى أقليات أصلانيّة تنشق وتبتلع في خطاب حقوقي منفصل، بمعزل عن السياق السياسي والتاريخي لقضيتنا وبتغييب له، ومن خلال تشويه للواقع القضائي والخطاب السياسي السائد.
إن الإدارة الذاتية في إطار إعلان الأمم المتّحدة، غير أنها تجعلنا نخوض في أسئلة التعريفات لفئات من الشعب الفلسطيني بمعزل عن فئات أخرى، تشكّل في أحسن الأحوال اعترافاً بهويّة خاصة، والحقّ في ممارسة هذه الهوية والحفاظ عليها في إطار سياسيّ يتمثّل بالحكم الذاتيّ على أشكاله. يحوّل هذا الإطار الحق السياسيّ مبتذلاً ويُفقد البدو المرجعيّة والتمثيل السياسي الفلسطينيّ الجمعيّ (حتى على مستوى الداخل فقط) ويغذّي الشرعيّة الذاتيّة لإسرائيل في صيغتها اليهوديّة الاستعماريّة والمحتلّة من خلال الإبقاء على فوقيّة وطغيان المستعمِر الإسرائيلي.
هكذا، ومن خلال عملية الاستخدام القانوني لإعلان الأمم المتّحدة بشأن حقوق الشعوب الأصليّة، نخوض نحن بعملية تشرذم قانوني وفئوي وفي تفكيك ذاتي لهويتنا السياسية كشعب واحد من خلال بناء منظور جديد لمستقبل المجموعات المتنوعة التي تشكل الشعب الفلسطيني، ونسف الماضي والتخلي عن العودة إلى تحليل مسارات الاستعمار التاريخية في السياق الفلسطيني وحيثياته، وبالتالي تقويض الحق بتصحيح الغبن التاريخي: حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعودة للاجئين.. ونسلب من ذاتنا الحق في نضال الشعب الواحد ونخوض في عملية تطبيع للوضع السياسي القائم.
من باب التعلم من تجارب الآخرين، تكثر المقارنات في هذا السياق بين البدو وأقليات أصليّة في دول استعمارية أخرى مثل كندا، أستراليا، نيوزيلندا، الولايات المتحدة وغيرها. ولا شك أن تجارب الأقليات الأصلية في دول العالم مهمة في السياق العام لإعلان الأمم المتّحدة، بما في ذلك من الباب النقدي لهذه التجارب وللإعلان. ولكن الحالة الفلسطينية تختلف عن التجارب السالف ذكرها في عدة مركبات، وهي تجعل المقارنة إشكالية على جميع المستويات. من جهةٍ أخرى، وبخلاف أقليات أصلية في الدول المذكورة، فإن الفلسطينيين، أولًا، ليسوا أقلية في وطنهم، وبالذات من خلال إدراك تشابه السياسات وجوهر الحال السياسيّ على شقي الخط الأخضر. ثانياً، غالبية الشعب الفلسطيني مهجّر في الشتات، ومن حقه العودة إلى وطنه ودياره. ثالثاً، في السياق الفلسطيني، لا يمكننا الحديث عن تصحيح غبن تاريخي من خلال الاعتراف بحقوق أقليات أصليّة في واقع تشريدي ومحتل وسالب يتوسع ويتعمق يومياً.
هذه الفروقات تستوجب التعامل مع المقارنة بشكل حذر، وألا نقع مرة أخرى في مركب تشويه إضافي لمكوّنات الأفق السياسي الفلسطينيّ ومكوّنات علاقتنا بالمستعمِر.