من نقطة أصبحت بعيدة في الذاكرة، ووسط التراكمات المتناقضة، وكثرة وتوالي ما يُحبط، والمحاولة وسط المستحيل.. يتأسس طيف انقلاب هاجسه إعادة بناء شيء ما، مع شعور عميق بأن المتروكات في بنيتنا التاريخية والمفهومية كانت ــ أو هي ظلت ــ تتسع لمصلحة اختصارات تُضيِّق من حجم وقوة فعل وجودنا بمواجهة المروية الصهيونية. فاللجوء للشعارات وقبول فتات الشائع المهيمِن في العالم، وَضَع المواجهة خارج ساحتها، وأحالها لاختلالات لا وجود لنا فيها كطرف تجري المعركة على أرضه، وكأنما ما اقتطع منه مجرد أشبار أو كيلومترات وليس كينونة تاريخية، وخزيناً لا ينضب من قوة حضور التاريخ.
من بين كل يهود العالم، ينتمي اليهود العراقيون في إسرائيل إلى المنفى، لأنهم اقتلعوا من أرضهم الأولى. هم هناك كتاب وفنانون وباحثون، يأخذهم الحنين لأرضهم التي غادروها مجبرين تحت وقع "توراة مزورة"، بعد تعطيل واقصاء أخرى لم يعد تشكلها وصيرورتها مما يُلحظ داخل العراق، طالما التحديث المزور طاغ بقوة حضور الغرب نموذجاً.
لقد حضر الغرب هنا متداخلاً مع صهيونية هي ضرورة لازمة لوجوده في مكانٍ ينبغي محق ذاتيته الكونية بما هي احتمال تحد تاريخي. هكذا وُضع على جدول أعمالنا الوطنية مهمة صعبة تقول بمواصلة مسار التوراة الأولى المتوقفة، منجَز هذه المنطقة، حتى تعود لتصبح منظورة وحاضرة كحقيقة مقابلة ومضاهية للحقيقة الكونية الراهنة المتراجعة والمأزومة لغرب مستريح إلى سلفية من متبقيات قرون الانهيار الطويل. واليوم، مع انهيار الحداثة والوطنية المستعارة المنقولة، تصبح عملية إعادة التأسيس للذاتية المضمرة المغيبة هي المهمة الوحيدة المقبولة أمام العقل والوجدان العراقيين، بينما يصير تجديد الإبراهيمية أمراً بغاية الحيوية..
يقول ألموج بيهار (1) "ليس منفى الالفين وخمسمئة عاماً كمنفى السبعين عاماً. سنظل في المنفى إن لم تقم بابل في جسد إسرائيل". هكذا يظن حفيدٌ لم ير أرض بابل في حياته. كأننا أمام نسغ جيني يجعلنا نخجل من المحبة والإعلاء، يضج بروح استعادة توراتية ظل اليهود أبناء بابل يصنعونها في المنفى الذي أُخذوا اليه بعيداً عنا.
من بين كل يهود العالم، ينتمي اليهود العراقيون في إسرائيل إلى المنفى، لأنهم اقتلعوا من أرضهم الأولى. هم كتاب وفنانون وباحثون، يأخذهم الحنين لأرضهم التي غادروها مجبرين تحت وقع "توراة مزورة"
ها هي ذكرى النكبة تعود، فأجدني اليوم كعراقي مضطراً لأن أقلِّب دفتراً ضخماً، يتساوى عنده هاجس إعادة بناء الوجود في الحاضر، وثقل ذاكرة مشوهة ظلت معبأة بالمحفوظات، مع إحساس بنقص مريع، وثلم لا يشفى في الذات الوطنية، مبعثه اضطراب خلّفه وجود إسرائيل بصفتها تحد لأهم مرتكزات كينونة بلاد ما بين النهرين ورؤيتها لهويتها التاريخية، بغض النظر عن الفلسطينيين ومأساتهم. ولا يمكن أبداً ألا يخطر لمن يريد البحث عن وطنية عراقية أصبحت الآن مهشمة، عبء الأيديولوجيات الحزبية، ووطأة الحاقها التعسفي للوطني بالمعلب المنقول، بحيث لا يعود من هموم العراقي اقتطاع جزء عضوي حي من كينونته الروحية، وبما يجعله يتعود على النظر لمسألة فلسطين على أنها شان أقل من ذاتي.
تشكل وعيي مع جيلي في التناقض العميق بين الموروث الذي من طبيعته أن يفرق كي يوحِّد بعمق، وبين ما يُسمع في الراديو ويُقرأ في الكتب والمنشورات.. يوم كنا أنا وصديقي عزوري ساسون تلميذين في الابتدائية، يتحايل عليّ كي أدخل بيتهم فأرتعب، لأن الاشاعات بين المسلمين تهمس بأن اليهود لهم عيد يصنعون فيه خبزاً بدم أبناء المسلمين.. إلى أن دخلت بيتهم أخيراً، واستقبلتني أمه بالقبلات والأحضان وهي تضحك قائلة: "لا تخف يمّه ما راح أذبحك، لأنك مثل عزوري ومحبتك مثل محبته". عراقية اللهجة بأصالة مسحت بيني وبينها كل المسافات، وذكرتني بنغم هو ذاته النغم الذي يصلني من صوت امي وجدتي. كان عزوري مسموحاً له في درس الدين أن يغادر الصف، ولكن ليس إجبارياً، وكان هو يفضل البقاء ليستمع ويردد معنا الآيات أحياناً، بينما القصص عن اليهود وجشعهم تثير فينا محبة مبهمة، لم أكن اعرف وقتها صلتها بالوجدان، مثل كون أحد باعة السكر اليهود خلال الحرب الثانية، ظل يبيع السكر وسط الأزمة بسعر الجملة، وكان الناس يستغربون لأنه مع ذلك كسب أكثر من غيره: البيع الوفير حرر له عدداً أكبر من أكياس "جنفاص" فارغة، كان يبيعها لتكون ربحه غير المنظور. ومع ما في هذه المروية من اختلاق طريف، كانت في العادة تُرفق بغمزة وجملة تقول "حساب يهود". مع ذلك حدث يوم اقتُطع هذا الجزء من ذاتنا وأجبر على الذهاب إلى الأرض اليهودية المزيفة، أنْ عرفنا ظاهرة "مجانين اليهود": نفر من العراقيين، خاصة في الفرات الأوسط، كانوا متداخلين حياتياً مع جيرانهم اليهود، أحبوهم لدرجة لم يحتملوا غيابهم المفاجئ.
ليست الوطنية إذاً توحيد قسري واعتباطي. فأهل الجنوب يقولون عن أهل الموصل أشياء أقرب لما يقال عن اليهود، وكذلك عن أهل بغداد والنجف. وأهل هذه المدن يقولون عن الجنوبيين "معدان" و"شراكوه". ويبدو أن قانون الوحدة مبدأه اللاوحدة التي، إن كانت كبيرة ومليئة بالدلالات، تقترب من شيء من جنون المحبة. وأنَّ عبقرية التاريخ في المجتمعات العتيقة أعمق مما يظهر على السطح، أو يوكل للنماذج الحديثة في الأمم / الدول وتشكلاتها، أو يتوافق تعسفياً مع أسطورتها. وثمة هنا نغم ضائع ومسافة طويلة، بين حقيقة أن تختلف مع جزء منك ومن كينونتك، أو أن تحوله ــ أو يتحول إذا اختلفتما ــ الى "آخر".. كان عزوري ساسون جزءاً من كينونتي وما زال. يستحيل إذا غاب فجأة الاَّ أشعر بأن "النكبة" كانت عراقية، دالة على عجز وقصور، منشؤه بالأصل استلاب مفهومي، هو هنا مضاعَف. ذلك أن قضية اليهود والكينونة الوطنية موكولتان لضرورة مروية تاريخية تدحر الخطاب الصهيوني وتسفهه. فبيت إبراهيم موجود في أور، والبابا السابق كان في تسعينات القرن الماضي على وشك أن يقوم برحلة أطلق عليها اسم "رحلة الايمان"، من أور (ذي قار) في جنوب العراق إلى القدس، لولا رفض صدام حسين في اللحظة الأخيرة بحجة الحصار الاقتصادي الذي كان يومها مفروضاً على العراق.
لقد حضر الغرب هنا متداخلاً مع صهيونية هي ضرورة لازمة لوجوده في مكانٍ ينبغي محق ذاتيته الكونية بما هي احتمال تحد تاريخي.
كان سمير نقاش (روائي وكاتب قصة قصيرة، وكاتب مسرحي عراقي، من مواليد بغداد عام 1938) يهرب من إسرائيل إلى لبنان، ويعاد إليها ليسجن، حتى إنه وصل إلى إيران وسجن هناك وأعيد لإسرائيل ليسجن أيضاً. كان يخط بالأحرى ملحق توراة جديدة مكمّلة، من صنع منفى اليوم، وكما كانت مملكة الله تبنى بالتوالي نبوات ورسالات ضد مملكة الظلم والقهر الارضي، لم يترك اليهود العراقيون الذين أجبروا على مغادرة العراق اليوم، مملكتهم ناقصة ولم يقرروا الصمت والقبول بالقسمة. يواجه ساسون سوميخ أكاذيب الصهاينة عن "الفرهود" باعتباره السبب الذي جعل اليهود يغادرون بلادهم، مفنداً النعوت الصهيونية التي دأبوا على اطلاقها على الحدث مثل "مذبحة"، و"كارثة"، و"اعتداءات"، و"شووا"، والأخيرة تطلق على ما حدث لليهود في العهد النازي.
يختار ساسون ساموخ (2) ما حدث توصيفاً مستلاً من لغة عراقية تنفي المنفى، فتحيله إلى التفاعلية الطبيعية لمجتمع يشهد متغيرات متسارعة، في عز الهجرة من الريف بفعل سياسة الاقتلاع من الأرض بعد قانون التسوية والتمليك الغريب على علاقات الإنتاج التاريخية في الريف العراقي المشاعي تاريخياً، وتجمّع أحزمة الفقر حول بغداد والمدن الكبرى، وبعد انقلاب الكيلاني 1941 وحصول فراغ في السلطة واضطراب، ما حرك مجموعات، يحكي ساموخ ــ الذي سبق وقام باستقصاء لأوضاعها عند مشاركته في الإحصاء السكاني في منطقة "السدة" التي حدث الفرهود انطلاقاً منها ــ عن "المشاهد المروعة للفقر" بينها.. علماً بأن الفرهود قُمع في اليوم الثاني.
ويقول إن الحي الذي كان يقطنه لم يعرف تلك الاحداث: "لم يلحق بحينا ضرر، لكننا خشينا هول المأساة التي لم تبد لنا محتملة اطلاقاً". هل كان الحدث يا ترى ممكن الوقوع بين طوائف مسلمة، سنية وشيعية مثلاً؟ اليوم نعرف أن الأسوأ قد حدث في مسار التشكل البعيد المتعثر للذاتية والهوية، غير تلك الجاهزة والمفترضة. لقد عرف اليهود العراقيون ظروفاً صعبة وتوترات حادة بين 1949ــ 1950 هي التي أدت لتركهم الجماعي للبلاد، وذلك في سياق لعبت فيه الصهيونية، وتواطؤ الحكومات، دوراً مباشراً، لم يكن أكثر من مسار تشكل لوطنية اهتزت تحت ثقل حضور الغرب، ووليده الكياني الكريه. مع أن هذا لم يمنع اليساريين العراقيين اليهود عام 1947 من تشكيل "عصبة مكافحة الصهيونية"، وهم الحاضرون بقوة في الحزب الشيوعي العراقي وقيادته، أي داخل أهم حزب عراقي حجماً وفعالية وطنية وقتها.
يقول ألموج بيهار: "إن يهودية العراق هي الأكثر نقاء في العالم كله، تليها يهودية فلسطين، تليها كل بلدان العالم". ويتحدث ساموخ عن حضور اليهود في الحياة الثقافية العراقية: في الأدب والغناء، من سليمة مراد باشا (أم كلثوم العراق!) وإنصاف منير، إلى الموسيقار صالح الكويتي، مُرسي قواعد الحداثة الغنائية العراقية، إلى المسرح والقصة، حيث كتب المسرحيون اليهود العراقيون مسرحيات مثِّلت وقتها عن "صلاح الدين الايوبي" و"هارون الرشيد" و"عنترة"، إلى مختلف مناحي الوظيفة العامة.. وهذا يدل كأنما على وطنيتين، احداهما كان من حظها ومصيرها أن تختفي وتُقمع لصالح أخرى مستعارة، ضيقة، مفتعلة وايديولوجية.
وكما فعل النبي عزرا في القرن السادس قبل الميلاد في بابل، تلح مرة أخرى اليوم، مهمة كتابة ملحق التوراة بفصوله التي تلغي توراة التزوير الصهيونية، لتؤسس هنا ل"ما بعد غرب". ليست القضية الفلسطينية مجرد أرض سليبة أو نكبة فلسطينيين أخرجوا من أرضهم. وإذا هي ظلت كذلك، فلن تستعاد. إنها أعمق في التاريخ والعقل وحقيقة الوجود والذات المتشكلة عبر عشرات القرون، في مكان جوهر ملامحه وتكوينه التوحيدي مصاب في العمق، بالأخص من الغرب وصنيعته الماحقة للجوهر التوحيدي الابراهيمي، كدليل انتصار لرهط مزور، خارج على انتماء الملة، يعتاش على لحظة خمول وانكسار الأرض الاولى.
اليهود العراقيون المقتلعون من أرضهم، المنفيون إلى إسرائيل، هم جزء مقتطع من روح العراق، لا اكتمال لها بدونهم، بالأخص وهي تتطلع للنهوض من كارثتها التي حلت عليها بفعل التيه والزوغان عن الأصول. الأصول التي تفرِّق اذ توحد بعمق، فتصنع الواحد الذي لا انفصال له، وليداً في الحب والجنون.. جنون سمير نقاش، والموج بيهار، ومجانين اليهود المسلمين..
(1) "تشلحة وحزقيل ــ بغداد في القدس، بابل في أورشليم"، رواية ألموج بيهار، ترجمة نائل الطوخي ــ الكتب خان للنشر والتوزيع 2016، القاهرة.
(2) "نفي المنفى الصهيوني والحنين الى الجذور العربية ــ دراسة في بغداد بالأمس"، ساسون تسوميخ/ د. محمد احمد صالح حسين، دار الانتشار العربي، بيروت 2011.