توصف النساء المغربيات محترفات العمل الزراعي بـ"المناضلات المجهولات"، ويشتهرن بكسب قوتهن بعرق جبينهن، ويعرف عنهن تحمل عناء مصاريف بيوتهن، فضلاً عن دفع تكاليف تربية وتدريس أبنائهن، هذا علاوة على الخدمات الجليلة التي يقدمنها للمجتمع من خلال مساهمتهن في الإنتاج الغذائي.
مهضومات الحقوق
تحج إلى المناطق الفِلاحية المشهورة بتوفرها على ضيعات فلاحية (معناها الأرض المغلّة) واسعة، نساء وفتيات من المغرب العميق، ومن ضواحي المدن السياحية، وفقراء هوامش المدن الصناعية والإدارية، قصد العمل كعاملات زراعيات. يستأجرن بيوتاً للسكن في الضواحي الواقعة على مقربة من الضيعات الفلاحية، بما بين 200 درهم (20 دولار) أو 300 درهم (30 دولار).
وإن حالفهن الحظ، يوفر لهن أرباب العمل سكناً داخل الضيعات الفلاحية، فيصادف بعضهن سكناً مبنياً بالطين والقش ومغطى بسقف من خرق بلاستيكية، وتنعدم به شبكة الصرف الصحي. لذا فغالبيتهن يفضلن السكن في أحزمة الفقر التي تحيط بالمعامل والضيعات، بالمدن والأرياف.
وفي جو عالي الرطوبة، تعملن في ظروف شاقة وصعبة، دون توفر أبسط وسائل الحماية من الأسمدة والمبيدات المستعملة في محاربة الطفيليات الزراعية، بينما يزرعن البذور ويقتلعن الحشائش.
تحرمن من الانخراط في صناديق الحماية الاجتماعية، وبالتالي يتم إقصائهن من التغطية الصحية والتعويضات العائلية والتأمين الصحي عن حوادث الشغل ولا يمنحهن مشغليهن أي وثيقة تثبت صلتهن بملاك الضيعات الفلاحية. لا تتجاوز نسبة التصريح عنهن بالعمل في البلد نسبة 6 في المئة، لذا يطالب النقابيون بتعميم التصريح بالعمل. بينما بلغ عدد أجراء القطاع الخاص ما يناهز أربعة ملايين، بينهم ثلاثة ملايين و200 ألف مصرح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أي 80 بالمئة، وحوالي 800 ألف غير مصرح بهم، أي ما يقارب نسبة 20 بالمئة، أغلبهم ــ وهم حوالي 600 ألف أي 75 بالمئة منهم ــ يرتبط مجال عملهم بالقطاع الفلاحي، حسب معطيات إحصائية صادرة عن المندوبية السامية للتخطيط – هيئة رسمية – بشأن تصريحات الأجراء لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.
مشهد يومي للكادحات المكافحات
هنا "أولاد تايمة"، مدينة فِلاحية يُطلق عليها هوارة نسبة إلى قبيلة تسكنها، يفصلها عن أغادير 44 كيلومتراً وترتفع عن مستوى سطح البحر بـ 130 متراً. يشتغل معظم سكانها بالزراعة، خاصة الحمضيات، وبمحطات التوضيب، ويقدر عددهم بحوالى 70 الف عامل وعاملة، وتعدّ منطقة جداو من أهم المناطق التي تصدر الحوامض بالبلد.
في الخامسة صباحاً، ترى وسط الشارع الرئيسي والأزقة المحاذية له، ثلة من النساء على شكل مجموعات، وجوههن محجبة بمناديل وينتعلن أحذية مصنوعة من البلاستيك، في انتظار سيارات وشاحنات لنقلهم إلى الضيعات الفلاحية، للعمل منذ ساعات الصباح الأولى وحتى العصر.
وسائل نقل العاملات الزراعيات ليست آمنة وهي غير نظيفة، لأنها مخصصة في الأصل لنقل الأبقار والعجول والمواشي، وقد تكون عبارة عن عربة جرارحيث شروط السلامة الطرقية منعدمة.
أثناء التوقف المتكررة للشاحنات والسيارات وعربات الجرار، تتعرّض العاملات الزراعيات للسقوط، وتصبن بجروح وكسور أحياناً، وتلقين مصرعهن أثناء حوادث السير الخطيرة والمميتة أحياناً آخر.
عندما تقفل العاملات الزراعيات عائدات إلى بيوتهن، تصدح حناجرهن بالغناء والزغاريد والنقر على الآلات الإيقاعية الشعبية "الطارات" و"الدربوكات" للترويح عن النفس من القنوط والكدر وطرد أعباء العمل الشاق.
يحبذن أن يعين لهن رب العمل القيام بعمل محدد، كجني عدد من صناديق الفاصوليا أو مساحة معينة من فاكهة الطماطم وتعرف العملية لدى العاملات الزراعيات بالعمل بـ"العطش" والمقصود هنا القطعة.
تكره العاملات الزراعيات قطف الطماطم (البندورة) نظراً لصعوبتها وبسبب ما تسببه لهن الأوحال من أوساخ، ويفضلن جني الفاصوليا التي تصدر إلى الخارج ليصنع منها كحولاً غالي الثمن، ويباع ما فضل منها بكبريات المراكز التجارية في المدن الكبرى في البلد.
صاحبة "الموقف" تكون في الغالب عاملة زارعية سابقة، لها معرفة بجميع أرباب الضيعات الفلاحية ووحدات التلغليف، وبارعة في اختيار العاملات الزراعيات من خلال تفحص هيئتهن، تتجسدّ مهمة صاحبة "الموقف" في إدارة وتنظيم السير العادي له، باعتباره مرفقاً تقصده الباحثات عن شغل يومي.
شروط العمل
ينص العرف المتداول بـ "الموقف" أنه يحق لكل عاملة زراعية أن تتفاوض مع رب العمل أو سائقه بـ"الموقف" حول شروط وظروف العمل: هل هو جني الفلفل و"اللوبيا" أم قطف فاكهة الطماطم؟ ثم تحدّدن ثمن كل صندوق، مثال: 20 درهم (دولارين) عن كل صندوق مملوء عن آخره بالفواكه أو الخضر. يفرض بعض أرباب العمل على العاملات الزراعيات بالقطعة (العطش) ملء عشرين صندوقاً في اليوم. وأما العاملات ب"اليوم" فأجرهن يقدر بـ 70 درهماً (7 دولار).
ترتفع أجرة يوم العمل في حالة ندرة العاملات الزراعيات بـ "الموقف" أثناء العطل والأعياد الدينية والمناسبات. تركز العاملات الزراعيات على تحديد زمن العودة إلى البيت، بينما تتجاهله العاملات المشتغلات على ملء الصناديق بالخضر والفواكه، لأن أجرهن مرتبط بعدد الصناديق.
تعرف العاملات الزراعيات معظم أرباب الضيعات وظروف الاشتغال لديهم. لذا تقترحن عليهم تقديم وجبة الغذاء خلال ساعة الاستراحة الواحدة. في حالة قدم رب العمل وجبة الغذاء للعاملات، فإنه يخصم من أجر كل واحدة منهن مبلغ عشرة دراهم (دولار واحد)، وتقدم جل الضيعات وجبة الغداء للعاملات الزراعيات.
يفرض الرجال الذين تعيلهم العاملات الزراعيات عليهن التوجه إلى الضيعات للعمل على الرغم من مرضهن وعجزهن، ويطلبون من الكادحات أن يعطوهم ما جنوه من مال، ومع ذلك يتعرّضن للعنف. أما هم يكتفون بالجلوس في المقاهي للعب الورق والثرثرة والتدخين ومتابعة المباريات الكروية
أثناء جني المحصول الزراعي الوافر، يفرض رب العمل على العاملات العمل أيام العطل والمناسبات ويحرمهن من العطل الأسبوعية. يصادف يوم العطلة يوم السوق الأسبوعي.
وهناك عاملات كادحات يرفضن الحصول على يوم عطلة أو راحة، ويفضلن العمل بدل الراحة، وفي حالة فرض عليهن رب العمل التوقف عن العمل للراحة، فإنهن يولون وجوههن صوب ضيعة أخرى للعمل بها والحصول على أجرة يوم عمل.
تخضع العاملات لسلطة "الكابران" أو "الكابرانة" التي يعتمد عليها أرباب الضيعات لضمان حسن عمل العاملات الزراعيات. تتجسد مهمتها في مراقبة العاملات وتسجيل غياب الرسميات منهن، وتوقيت حضورهن وتدوين ملاحظات على أدائهن وتوقيت خروجهن. يكون أجر شخصية "الكابران" مرتفعاً بعدة دراهم عن العاملات الزراعيات.
تستقل عاملات محطات لف الخضر والفواكه حافلات حديثة ومريحة إلى عملهن، ويحظين بساعتين للاستراحة وتناول وجبة الغذاء، ويصرّح بهن بعض أرباب المعامل التي يشتغلن بها لدى صناديق الحماية الاجتماعية، على النقيض من العاملات الزراعيات.
يبلغ الأجر الصافي الشهري لعمال قطاع الصناعة 2398 درهماً بعد خصم اقتطاعات التقاعد والتغطية الصحية الشهرية المقدرة شهرياً بـ 173.27 درهماً. بينما يبلغ الأجر الصافي الشهري في قطاع الفلاحة 1691 درهماً، بعد خصم اشتراكات التقاعد والتغطية الصحية الشهرية المقدرة بـ 122.19 درهماً.
نساء قوامات على الرجال
يرغم بعض الأزواج زوجاتهم على امتهان مهنة عاملات زراعيات ويدفعون بأبنائهم إلى ولوج هذا العالم من بابه الواسع ويساهمون بالتالي في تشجيع الهدر المدرسي، وتشجيع تشغيل الأطفال القاصرين، كما يدفعون ببناتهم القاصرات للعمل كعاملات زراعيات، لأنهن صغيرات وقويات. ثلثا الرجال في البلد يوافقون على عمل المرأة وحوالي ثلث النساء يفضلن البقاء في البيت، حسب ما ورد في تقرير لمنظمة العمل الدولية.
أوردت دراسة ميدانية أنجزتها "جمعية نساء الجنوب" أن العاملات الزراعيات بالجماعة القروية آيت اعميرة قرب أغادير، يتعرّضن لمختلف صنوف وألوان العنف اللفظي والجسدي، وكذا التحرش الجنسي الذي ينتهي بالاغتصاب في أماكن العمل
وغالباً ما يفرض هؤلاء الرجال الذين تعيلهم العاملات الزراعيات على نسائهم التوجه إلى الضيعات للعمل على الرغم من مرضهن وعجزهن، ويطلبون من الكادحات أن يعطوهم ما جنوه من مال، ومع ذلك يتعرّضن للعنف. وهم يكتفون بالجلوس في المقاهي للعب الورق والثرثرة والتدخين ومتابعة االمباريات الكروية. إنهن نساء قوامات على الرجال على الرغم من الجحود والعنصرية القانونية وجبروت العادات والتقاليد.
الأمهات العازبات من أمهر العاملات الزراعيات، يشتغلن بجد وقوة بسبب ظروفهن الاجتماعية، شأنهن شأن الأطفال الذين تجلبهم أمهاتهم للعمل كعمال وعاملات زراعيات.
وتستمر المعاناة
تتلقى العاملات الزراعيات أجراً أقل من أجر العمال الزراعيين في البلد، وتطرد كل عاملة مباشرة بعد ظهور علامات الحمل عليها، أو إعلانها أنها حبلى، وتحرمن من الاستفادة من فترة الأمومة.
المشغّلون لا يحترمون ساعات العمل القانونية، ويُرغم بعضهم العاملات الزراعيات المصرح عنهن ــ وهن قلة ــ على إمضاء طلب الاستقالة من العمل والمصادقة عليه لدى السلطات العمومية كشرط أساسي للحصول على عمل بالضيعة، ليتسنّى لهم طردهن من العمل دون أي تبعات قانونية. كما تعاني بعضهن من ظاهرة التحرش الجنسي. وفي هذا الصدد، أوردت دراسة ميدانية أنجزتها "جمعية نساء الجنوب" أن العاملات الزراعيات بالجماعة القروية آيت اعميرة، يتعرّضن لمختلف صنوف وألوان العنف اللفظي والجسدي، وكذا التحرش الجنسي الذي ينتهي بالاغتصاب في أماكن العمل، وتضطر العاملات إلى الاستجابة لنزوات المشرفين على العمل، مكرهات لتجنب الطرد من العمل والظفر بمعاملة تمييزية من المسؤول المباشر عن العمل المعروف بـ "الكابران"، حسب ما جاء في الدراسة.
بعض مطالب العاملات
خلصت عاملات زراعيات إلى ضرورة تدخل الدولة لإلغاء التمييز في الأجور ضدهن وإلى الزيادة في أجورهن. وطالبن بتطبيق مدونة الشغل بحذافيرها، وقيام مفتشية الشغل بعملها على أكمل وجه من خلال المراقبة المستمرة لأرباب الضيعات الفلاحية. ودعون إلى فرض التصريح بالعاملات الزراعيات في صناديق الحماية الاجتماعية وضمان التأمين على حوادث الشغل والتقاعد للعاملات الزراعيات. وفرض عقوبات زجرية صارمة على أرباب الضيعات الذين ينتهكون حقوق العاملات. وللإشارة فإن أغلب المعارك العمالية في المدن والأرياف الفلاحية مرتبطة بهضم حقوق العاملات الزراعيات.
وقد دعت أكبر جمعية حقوقية في البلد "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" في تقريرها السنوي الأخير إلى ضمان الحرية النقابية والحماية القانونية والاجتماعية للعاملات، خاصة في القطاع الهش وغير المهيكل كالعاملات الزراعيات وعاملات البيوت، وإلى تجريم كل أشكال التضييق والعنف والتحرش في أماكن العمل، وإلى إلغاء الفصل 288 من القانون الجنائي الذي يكرّس اعتقال النساء العاملات، وإلى فك الحصار عن مشروع القانون المتعلق بمناهضة كل أشكال العنف ضد النساء.
خاضت ألوف العاملات الزراعيات حراكاً احتجاجياً للدفاع عن مطالبهن بإلغاء التمييز في الأجور ومنحهن حقوقهن وصيانة كرامتهن، وشاركن في المظاهرات والمهرجانات الاحتجاجية التي شهدتها منطقة سوس (إقليم شتوكة آيت باها نموذجاً).
طالبت نقابة الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي في مذكرتها المطلبية المتعلقة بأوضاع ومطالب العاملات والعمال الزراعيين في شق التمييز القانوني بتطبيق اتفاق 26 نيسان / أبريل بين الحكومة والمركزيات النقابية وممثلي أرباب العمل، القاضي بتوحيد الحد الأدنى للأجور بين كل القطاعات على مدى ثلاث سنوات وبتوحيد مدة العمل.
كما طالبت النقابة ذاتها باحترام الحق النقابي والحريات النقابية والتسهيلات النقابية وتشجيع الحوار والتفاوض، وتقديم التسهيلات الضرورية للممثلين النقابيين للقيام بعملهم النقابي سواء داخل الضيعات أو من أجل الحضور في اللقاءات النقابية والتكوينية.