أجرتها لوركا سبيتي من "صوت الشعب"
1 – التفاؤل عاطفة ثورية!
ضيفتي الأستاذة والدكتورة نهلة الشهال، كاتبة وصحافية ومناضلة من اجل الحرية والديمقراطية وحلم قيام وطن حر مستقل تسوده العدالة الاجتماعية والمساواة، وإسقاط النظام الطائفي، وما زالت حتى الآن تناضل لتحقيق هذا الحلم.
هل ما زلت تحلمين، أو انه ليس بحلم بل واقع سيتحقق؟
-كنت اناضل من اجل التحرر الوطني والاجتماعي في مجتماعاتنا، اي التزامي هو الإطار العربي وليس لبنان فقط، والتحرر الاجتماعي يعني ان نحقق الاكتفاء الذاتي وعدم التبعية، والتحرر الوطني يعني ألاّ نخضع للاستعمار، ايا كان هذا الاستعمار. ولا اعتقد ان هذا حلم بالمعنى الوهمي، بل هو سوف يتحقق، وليس مهماً متى أو إن كنت سأراه. لكن من حظي انني رأيت وواكبت لحظات نهوض كبرى، وهذه اللحظات اظهرت أن مجتمعاتنا تمتلك طاقة حيوية ولديها "القدرة"، كما انني رأيت لحظات ومراحل كثيرة من السقوط والتراجع والإحباط.. لكنني شخص متفائل بطبعي وأعتبر ان التفاؤل عاطفة ثورية، كما ان الإحباط والتشاؤم "عاطفة رجعية" تدفعكَ للانزواء والخضوع، بينما التفاؤل يدفعك للارتباط بالإمكان.
من أين لك هذا التفاؤل؟
-القول الشهير "تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل"..، التفاؤل جزء من التربية، والنضال لن يكون كرمى الذات ولا للحصول على ثمرات النضال شخصياً، بل نناضل من اجل أن نبني داخل المجتمع مرجعية للمحتمل أو للممكن، بكل وضوح أقول انه محتمل وممكن، وحتى تحققه ستشوبه الكثير من العيوب والأخطاء. والنضال لا يعني ان تصبح الجنة على الأرض، النضال يستمر لأسباب وغايات عديدة أخرى وهي كثيرة، لا نستطيع ان نكسب مرة والى الأبد، ومن بعدها نقف مكاننا. بل الصراع هو تعريف الحياة.
أنت انتميتِ الى الحزب الشيوعي ومن ثم الى منظمة العمل الشيوعي، وتربيتِ من قبل أب طبيب وأم استاذة، وكنت من بيئة برجوازية ولا تحتاجين الى اي شيء.. فهنا السؤال من أين أتى الشعور بأنك مع الفقراء وهدفك تحقيق العدالة الاجتماعية، يعني بإختصار من اين أتى إنتماؤك للمبادئ الشيوعية؟
-هذا الإنتماء هو إنحياز فكري بالنسبة لي، حتى أمي وأبي من عائلات برجوازية متوسطة وليس كبيرة، ولديهم هذه القناعات وهذا الانحياز، معتبرين أن هذه المبادئ هي أفضل للإنسانية. والمهم لديّ ولدى أهلي ألاّ تكون هذه المبادئ مجرد قناعة فكرية، بل ممارسة قناعاتي على الأرض من أول دقيقة. وميزة كل مناضل الاّ يكتفي بالتنظير والكتابة وبلورة الافكار كي لا يصبح منفصلاً عن الواقع، شاء ام أبى، مهما قرأ وسمع، بل ميزة المناضل الحقيقي بتواجده على الارض وفي الميدان.
كيف مارست شيوعيتك في الميدان؟
-ما معنى شيوعيتي؟ انا مارست التزامي بالقضايا التي أحملها، ومارست حساسية عالية تجاه هذه القضايا، دون تفضل على الأشخاص او المعنيين، بل على العكس بكل إحترام. واجبي ان أستمع وأفهم قضاياهم. وتعلمت كثيراً من فلاحي سهل عكار، تعلمت منهم الصبر وأن الكلام ممكن أن يكون جارح عن غير قصد، تعلمت ان اجعل ما اقوله سهل وبسيط فليس بالضرورة ان يفهموا لغتي أنا، ومن حقهم التردد والخوف، فشروط حياتي تختلف عن شروط حياتهم. وهذا ما تكرر معي في باب التبانة والأحياء الشعبية والفقيرة في طرابلس، بين العمال وفي احياء محرومة، وأعرف جيدا ما تعنيه شقة يعيش فيها خمس عائلات لا علاقة او قرابة بينهم، وهذا ما كانت عليه باب التبانة في أول السبعينيات، بل من الصعب على انسان فقير و"معتر" ومشغول بالبحث عن لقمة عيشه ان يمتلك الحرية التي كنت أمتلكها. كنت أعي حينها انني امتلك مميزات لاعطاء الوقت والجهد، ولدي الحماية اكثر منهم، وإنْ كان من بينهم الكثير من المناضلين الصارمين. لكن هنا ايضا أعي أن مسؤلياتي أكبر أيضا.
القضايا التي عملتِ من اجلها طيلة حياتك، بدءاً بالقضية الفلسطينية الى العدالة الاجتماعية والنظام الطائفي وغيرها.. اذا بحثا الآن سويا هذه القضايا نرى أننا في تراجع وما زلنا محكومين من أمراء الحرب ونظامنا طائفي والقضية الفلسطينية زادت تعقيدا.. الم تشعرين في داخلك ان هناك نوع من الانكسار؟
-كلا بالتاكيد، وأعرف جيدا أن التاريخ يمر في لحظات ارتفاع ولحظات هبوط، وأنا رأيت لحظات الارتفاع، ورأيت الناس تقاوم وتنجز مثلما رأيت الإحباط.. وفيما يخص 2011 وما حصل في المنطقة العربية حينها مثلا، لا أنظر الى نتائجه اليوم بل أنظر الى أن هناك "لحظة" ثار فيها الناس وأعطوا أحلى ما لديهم، وبقوة وبأخوّة حقيقية، وباحترام، واستطاعوا تحقيق إنجازات.. هناك منجزات جرى الإلتفاف عليها او قمعها، وما زالوا يحاولون الإلتفاف عليها حتى الآن بوسائل مختلفة، كما حصلت كوارث في ليبيا وسوريا وحتى اليمن، صحيح كل هذا. لكن عملية الصراع طالما مستمرة وطالما الناس تقول "لا"، فهذا يعني ان هناك شيء حي وقابل للتحقق. بالنسب لي، الذي حصل في العراق في الأشهر الثلاثة الأخيرة من تحركات وجهت يقسوة وبالقتل، وبدأت بالكهرباء (كما في لبنان بدأت بالزبالة) هو دليل ان مجتمعاتنا، رغم قمعها وافقارها وتيئيسها، هذا الثالثوث المرعب، تثور وليس بخجل. ما حصل في ال2011 ليس بقليل. وانا رأيت صعود المقاومة الفلسطينية: من قال ان شعب اقتلع وهُجّر وحُرم من مقومات العيش وسلبت بلاده وعاش بالمخيمات تحت جزمة جميع المخابرات العربية، تمكن من تشكيل جسم "دولة بدون أرض" وقدم مفاهيم لا زالت موجودة حتى الآن. وانا اعرف الفرق بين الآن، رغم كل التراجع، وبين القضية كما كانت سابقا حين كان يقال اننا، بعد ال48 تعرضنا للنكبة، وبعدها هزيمة ال67 وأنه لا فائدة ولا أمل، ولا جدوى، وان اسرائيل مطلقة. اما اليوم لا احد يقول اسرائيل مطلقة. علينا التمسك بنقاط الضوء حتى لو كنا نعيش كما الآن في حالة من الظلمة، لكن بالتاكيد هناك نقاط ضوء علينا التمسك بها كي لا تسيطر الشراسة والبشاعة والقتل والرعب.
2 – امتهان كرامة الناس وليس تجويعهم وقمعهم فحسب
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تولد وعي جماعي في المانيا واليابان، وهذا الوعي قام على نقد التجربة السابقة وإعادة بناء البلد وقيام مبادئ جديدة. برأيك لماذا لم يحصل هذا في العالم العربي بعد هزائمه المتتالية؟ هل لعدم الإعتراف بالخسارة او لم يقْدم احد على النقد الذاتي؟
-الشروط مختلفة. ألمانيا دولة صناعية كبيرة كما اليابان من الدول الرأسمالية الكبرى ولو انها طرفية، وليس لدينا الوقت لتعليل وتحليل الاسباب الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، لكن هزيمة 67 أنتجت وعي هائل، وهو لم يُترجم على مستوى السلطة بمعنى أن السلطات التي تعاقبت هي سلطات الهزيمة.. وحتى اسوأ من السلطات التي سبقتها في كل المنطقة العربية. نحن منطقة مركزية بالنسبة للرأسمالية العالمية، لدينا نفط ونتشارك "البحيرة" مع أوروبا، وهي قلب الرأسمالية العالمية القديمة، وأنشأت داخل منطقتنا إسرائيل كقاعدة متقدمة للاستعمار، مهما يقولون حول "الأرض الموعودة" وغيرها من الحجج. إذا نحن نواجه أصعب وضع في الكرة الأرضية كلها. مثلا الفيتنام واجهت الاحتلال الأميركي وقبله الفرنسي لكن يوجد الى جانبها الصين التي دعمتها بلا حدود كما روسيا ايضا. بينما نحن علينا تركيز استعماري من اجل النهب. لم اقل ان ليس هناك نواقص لدينا، وعيوب وتخلي الخ.. لكني أتطرق للموضوع باختصار.
لماذا لم يكن لدينا نقد ذاتي؟
-ذهبتُ لمنظمة العمل الشيوعي من الحزب الشيوعي (وهي أنشئت المنظمة سنة 69 /70 بعد هزيمة 1967، لمناقشة أسباب الهزيمة، وليس شؤون لبنان فقط). ومنظمة العمل الشيوعي قامت من اندماج عدة مجموعات تفكر وتحلل ذلك، والنظام اللبناني.. وحتى الآن ما زالت المقولات التي توصلت لها في التداول، مثل مفهوم "الإقطاع السياسي".. كانت تقول أن الطائفية هي آلية لتوزيع الثروة والسلطة وليست عيباً اخلاقياً، أي أن لها وظيفة موضوعية. وتقول عن 1967 أنها هزيمة وليست نكسة، وتقول لماذا، وتجادل عن طبيعة "البرجوازية الوطنية" التي يفترض بها مناهضة الاستعمار والتي كانت سائدة في الفكر اليساري وقتها.. ونشأت بالفترة ذاتها مجموعات بالمنطقة العربية من اقصاها الى أقصاها تفكر وتحلل بالطريقة نفسها، وجريدة "الحرية" لعبت دوراً هائلاً في تحفيزها على مزيد من التفكير. في 2001 زرت المغرب ضمن ندوة أكاديمية، ولم يخطر ببالي أن يأتي أشخاص من جميع مناطق المغرب للتعرف علي لانهم طابقوا اسمي مع "الحرية" وكانوا يقرؤونها ويتابعون مقولاتها ويناقشونها..
تراجعت الجرائد؟
-نعم تغير الأمر، وهذا موضوع آخر، ولكن ليس عندنا فقط بل في العالم كله، لم يعد هناك هذا النوع من الجرائد. أحاول الآن أن تلعب "السفير العربي" دوراً تجميعياً في من كل المنطقة، وأن تبيّن فظاعة الواقع وفي الآن نفسه أشكال المقاومة الموجودة في هذا الواقع، ونقاط الضوء فيه، هي نقاط أمل داخل هذا الواقع ويجب التمسك بها.
أثبت مرحلة النضال السياسي من السبعينيات حتى الألفية الثالثة، عجز النخب عن التغيير في المجتمعات، ان لم تكن مستندة الى جمهور، فكان مصير النخب النفي او القتل او الاستسلام أو الاحباط او الشراء، واثبتت مرحلة الربيع العربي العجز الحقيقي في التغيير ان لم تقده النخب، برأيك اليوم ما ينقص الحراك في لبنان؟
-يجب الاّ نحمّله أكثر مما يحمل، هي حالة بدأت الى حد ما عفوية، وكان ضرورياً جدا ان تنشأ، فليس من المعقول أن يبقى المسؤلين يتمتعون بامتيازاتهم دون القيام بواجباتهم، حتى وصلنا الى ان الزبالة طمرت بيروت وهم لا يفعلون أي شيء، وساكتين، ومعتقدين أنه لن يحصل شيء، ومستهترين بالشعب، ومفترضين انه لن يتحرك ساكنا. وكان مهما أن ينزل خصوصا الشباب بعشرات الألوف، وهذا يعني ان هناك عشرات الآلاف منفكين عن النظام الطائفي، غير ملجومين باعتباراته. ناقدين لهذا النظام وليسوا تابعين له. بالتالي هذا مرعب لأهل النظام. وحتى لو مُيّع او حورب الحراك، فهذا لا يلغي فكرة انه حصل، وان هناك شباب وبنات رائعات نزلوا الى الشارع وتكلموا وقادوا... المسؤولين وقحين بجعل الزبالة تصل إلى 5 أمتار ارتفاع، وهم لا يتحركون ولا يقومون بأي شيء، وخصوصا لا يقولون شيئاً. طبعا، هذا الصمت مس بالكرامة التي أشارت لها كمطلب وشعار الحراكات منذ 2011، ولم تقل فقط بالعدالة الاجتماعية والحرية، لأن هذه الأنظمة الرثة والأتفه من سابقاتها، والمتراجعة نحو حالة من التسيب والكسل والاهتمام فقط النهب تعتدي على الكرامة وليس فحسب على حياتهم اليوم وآفاقها غداً. مثلا في مصر كان هناك 5 ملايين مرتبطين بنظام مبارك وأولاده، أي ضمن دورة الإنتاج والاقتصاد والحياة، وباقي الشعب، 85 مليون، خارج هذه الدورة ولو بدرجات، وأغلبيتهم الساحقة منسية ومتروكة للفقر، وللأمراض تأكلهم.. لو ترين حالة القاهرة محزنة فعلا، المستشفيات ك"القصر العيني" مهملة ومتداعية، كما طال الإهمال التعليم والجامعات الرسمية، طبعا لهؤلاء ال5 ملايين جامعاتعم ومستشفياتهم الخاصة وأماكن سكنهم التي اصبحت خارج المدن وفي اماكن مسيجة على الاغلب... كان بن علي في تونس يعتبر انه هو وعائلته واقاربه ومحيطه واتباعه هم البلد والباقي فليمت من الفقر. هناك حركة لأصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل قادت التحركات بسبب تحول هؤلاء الى كتلة هائلة، كما ان الداخل التونسي فقير بل معدم في وقت أن بعض مدن الساحل تتمتع بشيء من الرفاه لأنها مرتبطة بالسياحة وبعلاقة مع الرأسمال العالمي على طريقة اعادة التحويل (او أماكن offshore اوف شور).. تغولت هذه الانظمة واقتصرت على النهب بمعناه الحرفي المباشر، وهي مستهترة، الى حد أنها أصبحت رثة وليس لديها حتى خطاب. في بيروت الحكام لا يتحدثون إلا عن القمع، وملابسات التظاهر، وليس عن أصل الموضوع. وهذه التحركات قامت لأن ما يحصل يمس الكرامة وليس الحياة اليومية والحاجات فقط، وهم أشعروا الناس أنهم شيء زائد ويمكن الاستغناء عنه وإهماله بالكامل.
وهذا مهم جدا لأنه تغير في طبيعة الأنظمة نفسها، وهو مرتبط بتغير الرأسمالية العالمية وما يقال له "العولمة"، حيث لم تعد المصانع هي ما ينتج الثروة الأساسية في تلك البلدان، وأصبح رأس المال المالي وحركته العالمية ومضارباته هو ما يقود العملية. هذه القوى المحلية الحاكمة مرتبطة بدورة العولمة لذا منفصلة عن المجتمع.
3– عن الطائفية التي تتراجع وتفقد من فعاليتها.. وعن طرابلس
هل ينقص الحراك في لبنان شيء؟
-بالتاكيد، ولكنه سيتعلم من تجربته ومن نفسه، انا مع هذا الحراك وأعطي رأيي ونظرتي فقط، ولا أتدخل أكثر، وفرحة بابنتي وزوجها وأصحابهم اي الجيل الثاني الذي يشارك. وكل جيل هو جسر للذي يأتي بعده ويعمل تجربته، ويبقى على تواصل ودون قطيعة مع ما سبقه وما سيلحق به. لأن القطيعة فراغ، وهذا نتائجه فظيعة. ولكنها لم تعد قائمة، وهذه معجزة، وهي بدأت منذ 2011 وحتى الآن. في العراق، بعدما كان الكلام اننا الشيعة نريد ان نحكم لأننا ظُلمنا تاريخيا ولأننا 70 في المئة من هذا البلد وكان الحكم ليس بيدنا الخ.. تلك كانت النظرية. الآن صعد من يقول بقلب النجف وببغداد "باسمك يا أبو الأحرار ــ الإمام الحسين ــ باكَونا الحرامية"، وأحيانا "باسم الدين باكَونا الحرامية"، (وباكونا تعني سرقونا). هم شيعة من يقولون، وكتلة هائلة، هذا تغير نوعي.
في كندا ساحة للمتظاهرين ولا أحد يعترضهم، في المنطقة العربية أفنت أجيال عمرها في العمل السياسي وكان بديلا في وقت من الاوقات عن العمل الاجتماعي الحقيقي، البيئي، الاقتصادي التعليمي، وانشغلنا بالسياسة وابتعدنا عن العمل الحقيقي، هل ترين أن السياسة في أوطاننا تشبه الساحة بكندا؟
- المقارنة لا تجوز، وفي كندا الشؤون الأساسية للمجتمع متوفرة، والهم هناك التعبير عن الرأي، وإن كان بالطبع لديهم مشكلات، لكن الشؤون الأساسية متوفرة، كما هناك أطر وآليات، بينما نحن لا نملك هذا. منطقي ان يتغير الحراك وأن يعبر بسرعة من الزبالة وينتهي عند السياسة، لأن ليس لدينا فصل بين الاجتماعي المطلبي والسياسي، ولأن من يتسبب بالكوارث هو السلطة والناس التي تنتمي للسلطة أو عندها سلطة. وفي بلادنا غضب كبير، وكثيرا ما كان ينفجر بطريقة هوجاء في المنطقة العربية ككل، وليس بطريقة بناءة، ينفجر بقوة ويعود ويخمد. ومن المفروض ان نعرف نحن ان هناك تداخل بين السياسي والإجتماعي والإقتصادي، ولا يمكن الفصل بين النهب الذي يمارس على المجتمع والشروط التي يعيشها المجتمع والتي هي بائسة بطبيعة الحال، والنهب والسلطة واحد لا فصل بينهما. في بلادنا من ينهب هو من يمسك بالسلطة وليس الرأسمالي، الرأسمالي تُحد حركته بمجرد تدخل الزعيم او النائب والوزير، أو أن الوزير أو النائب هم أنفسهم الرأسمالي. الدولة ليست محايدة بطبيعة الحال لا هنا ولا في أي مكان في العالم، لكن على الأقل يجب ان يكون هناك بنية دولتية مؤسساتية راسخة، وهذا غير موجود. السلطة عندنا هي مصدر الثروة، والسلطة والثروة مندمجان، ولذا لا أسميها "دولة" بل هي "سلطة"، او ما دون السلطة، هي مجموعة حاكمة تافهة اكثر فاكثر.
المجتمع متروك، منتهك ومحروم، وتتراجع شروط حياته الى الوراء. ماذا يتوقعون منه؟ الاختفاء مثلا
هل الناس تنتج هذه السلطة؟
- لا! صحيح يوجد اناس ينتخبون حسب الطائفة ويكرسون زعامات، مع أن هناك قطاع كبير انفك عن هذا النظام، وهذا منجز. بالمقابل اعتقد انه ليس بضروري ولا أساسي اختصار السياسة بالسلطة، وبمن يسيطر على السلطة او سيصل الى السلطة. المهم ان يكون هناك توازن بين المجتمع وممثلين عن هذا المجتمع وبين هذه السلطة.
فصل القضاء عن السياسة هو جزء مهم؟
- هو جزء مهم ولكنه يظل دوما نسبي، وهناك دول يوجد فيها مؤسسات راسخة واستقلالية للقضاء الى حد كبير. لم اكن اعلم ان في لبنان تتم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، بحجة أن الاشتباك حصل مع عسكر.
المطالبة يجب ان تكون اسقاط النظام الطائفي؟
-ماذا يعني اسقاط النظام؟ لا شيء اسمه "اسقاط النظام الطائفي". هذا لا ينهي النظام بل أهميته في حالتنا انه إعلان عن الرغبة بالتخلص منه. لا أظن أن السلطات في بلداننا قابلة للإصلاح، ليس بسبب درجة سوءها فحسب بل لأنها لا تملك أي حيز مؤسساتي. وهذه معضلة فكرية وثقافية ونضالية..، ليس ممكناً إصلاحها من داخلها، أي مع الابقاء عليها.
ما نعرف أنه يولد في طرابلس نوع من التعصب السني ضد الشيعة
- لا يوجد في طرابلس ظاهرة ــ بمعنى الظاهرة ــ من هذا النوع، بل هذه خصوصاً دعاية. هناك أفراد، نواب أو غيرهم، يعززون الفكرة أو يعملون على فكرة "المظلومية السنية"، لكن ليس هذا هو الجو العام في طرابلس. وكل أسبوع أزور طرابلس ولدي منزلي هناك وعلى صلة بالناس وبأهلي، والإعلام ينفخ في فكرة التطرف السائد في طرابلس والتعصب، على اعتبارها الأسهل، وعلى اساس ضرورة استنفار الغريزة الطائفية المقابلة.. طبعا هناك اشخاص اصواتهم مرتفعة ويتكلمون بهذا المنطق، لكن المزاج العام ليس كذلك، وليس فقط عند الطبقة الوسطى بل حتى في الأحياء الشعبية.. لا يعني ان النظام لا يضمن استمراره من خلال العمل على استنفار الغرائز المتقابلة وعلى الشعور بالغبن او بالمظلومية لدى الجميع. وفي التحركات الأخيرة، حدثت محاولات لمذْهبة الحراك، وانه ضد السنة لأن التظاهر حدث أمام رئاسة الحكومة أو ضد وزراء صادف أنهم سنة.. ولكن تغير بعد اسبوعين عندما صار التجمع امام مجلس النواب الذي هو حصة الشيعة! وقيل كلام عن رموز السنة من الوزراء، ولا أدري كيف هم رموز وكيف يمكن التماهي معهم.. في الخلاصة طرابلس ليست متطرفة لكنها مدينة محرومة. حسب دراسة للأمم المتحدة 58 في المئة من مدينة طرابلس عند أو تحت خط الفقر. الامم المتحدة وليس الشيوعيين.. طبعا في لبنان هناك شعور طائفي، وعند الشيعة هناك تربية على المظلومية الخاصة، وكذلك عند المسيحيين، وإلا كيف يشتغل النظام من دون ذلك.. ولكن هذا الخطاب يضعف. موجود طبعا، وتعويضي كثيرا حتى عن الفقر، حيث يجري التمسك بحصتنا وحصتكم والخ، بينما لا يصل للناس، لكل الناس إلا الفتات، وبالكاد..
دور النواب في طرابلس؟
- لا يتناول الموضوع والناس يشتمون النواب بشدة، وكل الوقت، ولكن يعودون لانتخابهم لان لا خيارات اخرى أمامهم، وعلى اعتبار انه على الاقل وكما يعتقدون، اذا اعترفوا بزعامتهم يحصلون على اعانات من مؤن او للدخول الى المستشفى. السؤال لدى المواطن اذا لم اقدم على انتخابه فمن البديل؟ وهنا البديل بنية كاملة وليس شخص محدد. والزعماء يوزعون الاعاشات ولا ينشئون مشاريع انتاجية.. وعلى كل حال، مدينة طرابلس لديها امكانيات اقتصادية، يوجد فيها مرفأ الدراسات تقول أنه افضل جيولوجيا من مرفأ بيروت، لكن مرفأ طرابلس ممنوع من التطور، وفيها المعرض الدولي الوحيد في لبنان، حسب مرسوم انشائه. وكانت فيها مصفاة نفط العراق، وما زالت في طرابلس حرف، وامكانات سياحية... ولكن اذا عمل الانسان واصبح لديه دخل، فحينها يمتنع عن طرق باب الزعيم لطلب المساعدة للدخول الى المستشفى.
إذاً الزعماء يُفْقرون الشعب لدفعهم لطرق أبوابهم والتوسل إليهم؟
- نعم، والشعب يعيد انتخابهم للحصول على المساعدة، لأنه لا توجد أمامه سبل آخرى. مثلا اشتهرت قصة سيدة كانت تعبر الطريق وسقطت منها الإعاشة، ولكنها راحت تلملم الاغراض لأنه كان مستحيلا عليها التخلي عنها فصدمتها سيارة مسرعة.. الناس تحت خط الفقر ويعتاشون من خلال "تزليم" النواب ومن يقال لهم "الزعماء" لهم، وهذا يشتمل التعليم والصحة. في بعض الاحيان يمكن لهذا الوضع أن يؤدي الى انفجارات مرعبة ولكنها لا تنتج شيئاً.
في أي عمر تركتِ طرابلس؟
- لم أترك طرابلس أبدا، ايام الجامعة كنت أترك طرابلس ليوم او يومين، وعندما سافرت الى باريس في 1993 كنت ازور طرابلس مرتين أو ثلاث مرات في السنة أحيانا، كل ما عندي إجازة وشوية فلوس، احمل البنات لأنهن كن صغيرات وآتي. بعد ذلك صرت آتي أحيانا لوحدي.. حتى إنهن ضجرن مني وقلن إنهن يردن رؤية شيء آخر طالما هن في أوروبا... ليس في ذاكرتي اني تركت طرابلس أبداً.
برنامج "صوت الشعب" مع لوركا سبيتي
(الجزء الثاني، بثّ في 3 تشرين الأول /أكتوبر 2015)