برغم غياب أرقام رسمية حول عمليات الإجهاض السري، فإنّ منظمات مدنية تؤكد التنامي المستمر للظاهرة. وفي هذا السياق، تؤكد الجمعية المغربية لمحاربة الإجهاض أن ما بين 600 إلى 1000 امرأة تجهض يومياً في المغرب.
وبرغم صعوبة التأكد من صحة هذه المعطيات، فإن ثمة ضرورة لإعادة النظر في الأحكام القانونية المنظمة للإجهاض في المغرب. فاستمرار اللجوء إلى الإجهاض السري في حالة الحمل غير المرغوب فيه، يؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين النساء اللواتي يقدمن عليه، فضلا عن الأضرار الصحية التي قد تلحق بهؤلاء.
وما يزيد من تفاقم حالات الإجهاض السري، الموقف المتشدد للمشرِّع المغربي من مسألة الإجهاض الذي لا يميز بين الإجهاض الطبي المأمون والإجهاض غير الطبي الذي يتم بشكل سري. ففي كلتا الحالتين، تبقى عمليات الإجهاض التي تتم خارج إطار القانون ويعاقب عليها بعقوبات حبسية ومالية وتأديبية قد تصل إلى حد سحب رخصة مزاولة المهنة.
وإذا كان موضوع الإجهاض بين الإباحة والتقييد لم يأخذ نصيبه من النقاش المجتمعي في المغرب طوال السنوات الماضية لأسباب عديدة تتعلق بأولوية أجندة الحركات النسائية والحقوقية عموماً، فإن هذا الموضوع عاد ليُطرح من جديد في المغرب بمناسبة ورش إصلاح عدد من التشريعات وعلى رأسها القانون الجنائي.
الإجهاض في القانون الجنائي المغربي
مبدئياً، يمكن تعريف الإجهاض بأنه إسقاط الجنين قبل أوانه الطبيعي، أو هو إسقاط للجنين أثناء فترة تكونه وقبل انتهائها. ويلاحظ أن القانون المغربي لم يضع تعريفاً محدداً للإجهاض على غرار عدد من التشريعات المقارنة، وإنما عمد إلى تجريمه من خلال عشرة فصول من القانون الجنائي وذلك ضمن الباب الثامن المتعلق بالجنايات والجنح ضدّ نظام الأسرة والأخلاق العامة، في الفصول من 449 إلى 458. وتؤول هذه الفصول عملياً الى إنكار حق المرأة في اختيار الإجهاض، بمعزل عن الوسيلة المستخدمة. ولا يستثنى من التجريم إلا الإجهاض الذي يتم بهدف "ضرورة المحافظة على صحة الأم متى قام به علانية طبيب أو جراح بإذن من الزوج".
وهذا الاستثناء الذي أدخله مرسوم ملكي مؤرخ في 1 يوليو 1967 يستدعي عدداً من الملاحظات، أهمها الآتية:
- إن مفهوم صحة الأم الواردة في الفصل المذكور لا يزال رهن التفسير الضيق الذي لا يراعي المضاعفات النفسية ولا التبعات الاجتماعية للحمل غير المرغوب فيه. كما لا يراعي مفهوم الصحة الإنجابية كمفهوم شامل[1]،
- إن المشرِّع علق القيام بإجهاض الأم في هذه الحالة على موافقة الزوج، مما يعد انتهاكاً صارخاً لحق المرأة في السلامة البدنية. فكيف يمكن القبول بجعل الحفاظ على حياة المرأة رهيناً بموافقة الزوج، هل يعد جسد المرأة ملكاً للزوج؟ وألا تملك المرأة حق الحفاظ على سلامتها وصحتها؟ وما موقع المرأة التي لا زوج لها؟ وألا يؤدي تعقيد مسطرة الإجهاض في حالة وجود خطر يتهدد صحة المرأة وعدم موافقة زوجها على إجراء هذه العملية إلى الإضرار بسلامتها البدنية؟
مطالب بمراجعة عقوبة الاجهاض في القانون المغربي
من أهم الملاحظات التي يمكن تسجيلها بخصوص موقف الجمعيات النسوية والنسائية المغربية أنها لم تثر قضية الإجهاض ولم تطالب السلطات العمومية بإباحته، حتى في أوج نشاطها في ظل حكومة التناوب (1998/2002)، وما صاحب ذلك من اعلان عن "مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية". فقد اقتصرت مطالبها على المستوى العملي الاجتماعي الإنساني وذلك بالتكفّل بحالات الإجهاض والحمل خارج إطار الزواج الشرعي، من دون أن تصل إلى حد المطالبة بضرورة إعادة النظر في القوانين الناظمة للحمل والإجهاض. ولعل تفادي المطالبة بتقنين الإجهاض وإباحته يرتبط بأولويات الحركة النسائية بالمغرب. فقد ركزت هذه الحركة خلال فترة طويلة على الترافع في مجال مواجهة أوجه التمييز ضد النساء في بعض القوانين الأكثر ارتباطاً بوضع المرأة وعلى رأسها قانون الأحوال الشخصية، فضلاً عن اهتمامها على أرض الواقع بتوسيع استعمال وسائل منع الحمل أكثر من الدعوة صراحة إلى إباحة الإجهاض تجنباً لأي نقد محتمل أو ردود أفعال مجتمعية رافضة.
واللافت أن المطالبة بتقنين الإجهاض جاءت من جمعيات أخرى، غير نسوية، لكن ذات نسائية موضوعية، ومن أبرزها الجمعية المغربية لتنظيم الأسرة التي طالبت بحوار وطني هادئ وواقعي حول الإجهاض. وقد أنجزت هذه الجمعية في 2007 بحثاً استطلاعياً حول الإجهاض ذي المخاطر. وتميزت خلاصاتها بسعيها الى الخروج من النقاش العقيم حول مشروعية الإجهاض في المطلق. فـ "لا ينبغي للحوار الوطني أن ينصب عن الموقف تجاه الإجهاض، بمعنى أن نكون معه أو ضده. عوض ذلك، السؤال الجيد الوحيد الذي ينبغي طرحه هو: هل نحن مع أو ضد صحة النساء، مع أو ضد آلامهن، مع أو ضد المخاطرة بصحتهن وبحياتهن"؟
وقد ذهبت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في اتجاه مشابه. فـ "منع الإجهاض وتجريمه يبقى من أسوأ التدابير للحفاظ على الحياة. فالمنع يقود حتماً إلى الإجهاض السري، أي إلى المخاطرة بصحة المرأة وحياتها، وبما أن للنساء الحقّ في الحياة وفي بلورة شخصياتهن، فلا داعيَ لتضحياتهن باسم حقّ النطفة أو العلقة أو المضغة في الحياة. فحماية الحياة لا يمكن أن تتمّ ضدّ النساء بل ينبغي أن تتمّ بمشاركتهنّ.
وفي اطار التفاعلات التي عرفتها هذه القضية، تأسست الجمعية المغربية لمكافحة الإجهاض السري، ومن أبرز أهدافها "كسر الصمت الرسمي عن الإجهاض السري"، و "إشعار النساء بالمخاطر الملازمة للإجهاض"، و "إشعار السلطات العمومية بالممارسات الإجهاضية الوحشية ذات المضاعفات الوخيمة"، فضلاً عن "إقناع القوى السياسية والدينية بتقديم مقترح قانون في البرلمان يكون ملائماً للمحيط الطبي - الاجتماعي الراهن".
وتقترح الجمعيّة في هذا السياق أن ينصب التعديل على السماح بالإجهاض خلال الشهرين الأولين من الحمل عندما يكون الحمل ناتجاً عن اغتصاب أو جنس مع محرم وفي بعض الأوضاع الاجتماعية الخاصة، والمقصود بهذه الأوضاع حالة الفتيات الحوامل العازبات[2].
التدخل الملكي
وتبعاً لهذا التفاعل، أعلن الملك محمد السادس عن تكليف وزير العدل والحريات ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية وكذا رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان بتنظيم لقاءات تشاورية مع مختلف الأطراف المعنية ورفع اقتراحات إليه في أجل أقصاه شهر واحد.
وهذه المبادرة تستدعي مجموعة ملاحظات، أهمها:
- أنها تأتي تفعيلاً لمؤسسة إمارة المؤمنين، وبالتالي إعمالاً للمقاربة الدينية في حلّ مشكل الإجهاض، وهو التوجه ذاته المعمول به في مختلف القضايا الخلافية التي يتم فيها اللجوء إلى التحكيم الملكي على غرار ورش إصلاح قانون الأحوال الشخصية.
- تشكيلة اللجنة: برغم أنها تشكيلة مصغرة، فهي تضم وزيرين فضلاً عن رئيس المجلس الوطني لحقوق الانسان، وهي تدل على تعدد المقاربات المعتمدة لمعالجة موضوع الإجهاض، فبالإضافة الى دور المقاربة الدينية، يلاحظ الاعتماد أيضاً على مقاربة حقوقية.
وفي 15-5-2015، أصدر الديوان الملكي بلاغاً بشأن نتائج المشاورات أشار فيه الى أن الأغلبية الساحقة من المقترحات تتجه إلى الإبقاء على المقتضيات القانونية التي تعمل على تجريم الإجهاض، مع إضافة ثلاثة استثناءات جديدة لإباحة الإجهاض ويتعلق الأمر بما يلي:
- حالات الحمل الناتج عن اغتصاب.
- حالات الحمل الناتج عن زنا المحارم.
- حالات التشوهات الخلقية الخطيرة والأمراض الصعبة التي قد يصاب بها الجنين.
وهذا البلاغ يستبعد ضمناً الحالات الأخرى بما فيها حالات الحمل خارج الزواج، والتي تخرج عن الاستثناءات المقترحة. وما يزيد من قابلية استبعاد هذه الحالات للنقد، هو استمرار التمييز إزاء الأطفال المولودين خارج الزواج. فالأصوات الرافضة لإباحة الإجهاض الطبي في حالات الحمل غير المرغوب فيه، تنطلق إجمالاً من مبدأ الدفاع عن حق الجنين في الخروج إلى الحياة، لكنها لا تقدم في المقابل أي حماية قانونية وواقعية للطفل الناتج عن علاقة حمل غير مرغوب فيه، عندما يخرج إلى الحياة ولا أي دعم للأم التي تتولى في هذه الحالة تحمل عبء تربيته بمفردها. ويجدر التذكير هنا أن قانون الأسرة ما يزال يعتق الأب البيولوجي من أي التزام قانوني تجاه ابنه المولود خارج الزواج، والذي لا يجوز أن يُنسب إلا لأمّه. فتتحمّل هذه الأخيرة وحدها المسؤولة عن تلك العلاقة. وحتى إمكانية اللجوء إلى الخبرة الجينيّة تبقى مرفوضة نظراً لاستقرار الاجتهاد القضائي على التفسير الضيق للنص القانوني الذي لا يعترف بالبنوة غير الشرعية. ففي ظل وضع كهذا، قد تجد المرأة نفسها مدفوعة دفعاً الى الإجهاض، فيما يبدو التذرّع بحق الجنين في الحياة مخادعاً، في ظلّ إنكار حقّه في الهوية كحق من الحقوق الأساسية.