الجزء الثاني من دراسة "العدالة الاجتماعية والانتفاضات العربية"، وهو بحث تشارَك في تأليفه كلٌّ من أماني جمال من جامعة برنستون ومايكل روبنز من "الباروميتر العربيّ"، وأصدره "برنامج العدالة الاجتماعيّة وسياسات التنميّة" في معهد عصام فارس للسياسات العامّة والشؤون الدوليّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت، بالتّعاون مع مركز ممدوحة س. بوبست للسلام والعدالة في جامعة برنستون، بتمويل من مؤسسة إلمِر وممدوحة بوبست في نيويورك.
المساواة الاقتصادية
عادةً ما يُطرح الإحباط الاقتصادي كواحدة من القضايا الأولية - إن لم تكن الأساسية - التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي في عام 2011. وتؤكد هذه الرواية أنَّ المواطنين في كثير من البلدان العربية، وخصوصاً منهم الشباب، أحبطتهم سنوات من الركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة. ويُعَدُّ تحسّن المداخيل الاقتصادية وارتفاع نسب المساواة الاقتصادية عنصرين أساسيين في تعزيز مستويات العدالة الاجتماعية بعد الربيع العربي. وبغية قياس التغيرات المحتملة في المداخيل الاقتصادية، نركّز باختصار على أربعة مؤشرات هي: الرفاه الاقتصادي، الانشغال بالقضايا الاقتصادية، حال العمالة، والرغبة في الهجرة.
يكشف الباروميتر العربي أنَّ أقلية فحسب من المواطنين هي التي تعيش في أُسَرٍ يكفي فيها دخل الأسرة لتلبية احتياجاتها. وتبيّن الدورة الأخيرة من عمليات المسح أنَّ أقلّ من النصف في كلّ بلد هم الذين يقولون إنَّ لديهم من المال ما يكفي لتغطية نفقاتهم أو لادخار بعض منه. وعموماً، فإنَّ نسبة الجزائريين الذين يقولون إنَّ لديهم دخلا كافيا لتلبية احتياجاتهم هي الأعلى (46 في المئة)، يليهم اللبنانيون بنسبة الثلث أو أكثر (39 في المئة)، ثم المغاربة (37 في المئة)، فاليمنيون (36 في المئة)، فالفلسطينيون (34 في المئة). أمّا في بقية البلدان، فإنَّ ما بين الربع والثلاثة أعشار هم الذين يقولون إنَّ دخل أسرهم يكفي لتلبية احتياجاتهم.
وعلى الرغم من الصّلة الوثيقة بين الاحتجاجات والظروف الاقتصادية، فمن الملاحظ أن نسبة الذين شاركوا في الاحتجاجات ممّن يتحدرون من أُسر أفضل حالاً، كانت أعلى. وعلى سبيل المثال، فقد فاق المحتجون التونسيون غير المحتجين بـ 13 نقطة من حيث القول إنَّ دخلهم يلبّي احتياجاتهم. ونجد الفجوة ذاتها في اليمن (9 نقاط) والأردن (8 نقاط). وهناك اختلافات أقلّ أهمية في بلدان أخرى، غير أنّ الوضع الاقتصادي لغير المحتجين لم يكن في أيّ بلد أفضل من وضع المحتجين.
كثيراً ما سُلِّطَ الضوء على محنة الشباب العربي الاقتصاديّة كسبب للاحتجاجات. لكن اللوحة التي ترسمها المسوح للجماعات الأصغر سنّاً ليست لوحة فقر، إذ يقول مواطنون محتجون من جميع الأعمار إنَّ دخلهم يكفي احتياجاتهم. من المرجّح أن تكون هذه النتيجة انعكاساً لحقيقة مفادها أنّ كثيراً من الأسر في البلدان العربية تضمّ أفراداً من أجيال متعددة، ما يعني أنَّ الشباب المفتقرين لفرصة اقتصادية غالباً ما يعيشون مع والديهم أو أسرتهم الممتدة.
علاوة على ذلك، لا يبدو أنَّ المداخيل الاقتصادية قد ساءت كثيراً بسبب اضطرابات الربيع العربي. وهذه النتيجة تثير شيئاً من الدهشة بالنظر إلى ما تشير إليه تقديرات البنك الدولي من أن الاقتصاد التونسي تقلّص بنسبة 2 في المئة في 2011. كما انخفض معدّل النمو الاقتصادي في مصر في أعقاب الربيع العربي، في حين ابتُلي بالمداخيل الاقتصادية الرديئة كثير من البلدان الأخرى في المنطقة. غير أنَّه ما من حالةٍ قال فيها المواطنون إنَّ دخل أسرهم كان أكثر كفايةً منه في وقت الربيع العربي. بل إنَّ المواطنين في بلدين ـ هما اليمن ومصر- قالوا إنَّ دخل أسرهم بات أكثر كفاية (18 نقطة و7 نقاط، على التوالي).
ربما تعكس هذه النتائج نوعاً من الاستقرار أو - في بعض الحالات - نوعاً من الانتعاش الاقتصادي راح يفعل فعله في السنوات التي تلت الاحتجاجات الأساسية. ولعلّها تعكس، بخلاف ذلك، حقيقة أن بعض المواطنين قد ضبطوا نفقاتهم نتيجةً للاختلالات الاقتصادية التي نجمت عن الربيع العربي. غير أنَّ ما يُشار إليه في كلتا الحالتين، هو أنّه في حين لم يحسّن الربيع العربي المداخيل الاقتصادية بشكل كبير، فإنّ حال المواطنين العاديين بوجه عام لم يَغْدُ أسوأ بكثير من ذي قبل.
أهمّ التحديات
يبيّن الباروميتر العربي أن المخاوف الاقتصادية لا تزال الشغل الشاغل لمعظم المواطنين العرب. يسأل المسح المستجيبين ما هما أهم تحديين يواجهان بلدهم من بين: الوضع الاقتصادي، والفساد، وتعزيز الديموقراطية، وحل القضية الفلسطينية، وتحقيق الاستقرار والأمن الداخلي، ووقف التدخل الخارجي وأشياء أخرى. وفي جميع البلدان ما عدا اثنين، قالت أغلبيةٌ بلغت السبعة أعشار أو أكثر إن الظروف الاقتصادية هي التحدي الأهم الذي تواجهه بلادهم. والمخاوف حيال الأوضاع الاقتصادية هي الأعلى في البلدين اللذين جرت فيهما الثورة، تونس (89 في المئة) ومصر (88 في المئة)، تليها المغرب (85 في المئة) والأردن (82 في المئة). في حين تقل أهمية المخاوف الاقتصادية نسبيا في فلسطين (68 في المئة) ولبنان (63 في المئة).
وعلى الرغم من أنَّ الشباب العربي يعاني بشكل غير متكافئ لجهة معدلات البطالة وغيرها من المؤشرات، إلا أن المسح يشير إلى أنهم يشبهون الأجيال الأكبر في رؤيتهم أن الوضع الاقتصادي هو واحد من الشاغليَن الأساسيين. والاستثناء الرئيس هنا هو فلسطين، حيث يفوق أولئك الذين يبلغون من العمر 18 - 29 عاماً بـ 15 نقطة من بلغوا الخمسين من العمر أو تجاوزوها في رؤيتهم أنَّ القضايا الاقتصادية هي من بين التحديات الكبرى. وبخلاف ذلك، فإن قلق الشباب في شأن القضايا الاقتصادية يقلّ في الجزائر والمغرب (-7 نقاط في كل منهما).
على الرغم من أن القضايا الاقتصادية كانت الشاغل الأكبر بين المحتجين إلى حد بعيد، فإنَّ أولئك الذين شاركوا في الانتفاضات العربية أقلّ ذكراً للوضع الاقتصادي باعتباره واحداً من المشكلتين الأشد أهمية قياساً بغيرهم من المواطنين. ويبلغ هذا الفارق أقصاه في الأردن، حيث يخشى 83 في المئة من غير المحتجين القضايا الاقتصادية مقابل 59 في المئة من المحتجين (-24 نقطة). وتوجد الفجوات ذاتها في المغرب (-16)، وفلسطين(-8).
يوضح ايضاً المسح الذي قام به الباروميتر العربي أن مستويات القلق في شأن الوضع الاقتصادي تتنامى في أرجاء المنطقة. فقد زادت أهمية القضايا الاقتصادية بشكل كبير في تونس، فارتفعت من 70 في المئة في عام 2011 إلى 89 في المئة في عام 2013 (+19 نقطة). ونجد زيادات مماثلة في لبنان (+17)، والجزائر (+10)، وفلسطين (+12).